مجلس الشيوخ يستأنف جلساته العامة اليوم    صعود مؤشرات الأسهم اليابانية في جلسة التعاملات الصباحية    انهيار أسعار الفراخ اليوم نهاية أبريل.. البيضاء نزلت 20 جنيه    بكاء ريهام عبد الغفور أثناء تسلمها تكريم والدها الراحل أشرف عبد الغفور    ختام عروض «الإسكندرية للفيلم القصير» بحضور جماهيري كامل العدد ومناقشة ساخنة    «طب قناة السويس» تعقد ندوة توعوية حول ما بعد السكتة الدماغية    تراجع سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الثلاثاء 30 إبريل 2024    الجيش الأمريكي ينشر الصور الأولى للرصيف العائم في غزة    حقيقة نشوب حريق بالحديقة الدولية بمدينة الفيوم    مقتل 3 ضباط شرطة في تبادل لإطلاق النار في ولاية نورث كارولينا الأمريكية    اندلاع اشتباكات عنيفة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال في مخيم عسكر القديم شرق نابلس    مباراة من العيار الثقيل| هل يفعلها ريال مدريد بإقصاء بايرن ميونخ الجريح؟.. الموعد والقنوات الناقلة    ظهور خاص لزوجة خالد عليش والأخير يعلق: اللهم ارزقني الذرية الصالحة    تعرف على أفضل أنواع سيارات شيفروليه    تعرف على أسباب تسوس الأسنان وكيفية الوقاية منه    حبس 4 مسجلين خطر بحوزتهم 16 كيلو هيروين بالقاهرة    هل أكل لحوم الإبل ينقض الوضوء؟.. دار الإفتاء تجيب    العميد محمود محيي الدين: الجنائية الدولية أصدرت أمر اعتقال ل نتنياهو ووزير دفاعه    السيطرة على حريق هائل داخل مطعم مأكولات شهير بالمعادي    نيويورك تايمز: إسرائيل خفضت عدد الرهائن الذين تريد حركة حماس إطلاق سراحهم    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    العثور على جثة طفلة غارقة داخل ترعة فى قنا    د. محمود حسين: تصاعد الحملة ضد الإخوان هدفه صرف الأنظار عن فشل السيسى ونظامه الانقلابى    لتلوثها ببكتيريا برازية، إتلاف مليوني عبوة مياه معدنية في فرنسا    محلل سياسي: أمريكا تحتاج صفقة الهدنة مع المقاومة الفلسطينية أكثر من اسرائيل نفسها    موعد عيد شم النسيم 2024.. حكايات وأسرار من آلاف السنين    فتوى تحسم جدل زاهي حواس حول وجود سيدنا موسى في مصر.. هل عاصر الفراعنة؟    شقيقة الأسير باسم خندقجي: لا يوجد أى تواصل مع أخى ولم يعلم بفوزه بالبوكر    حماية المستهلك: الزيت وصل سعره 65 جنيها.. والدقيق ب19 جنيها    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30 أبريل في محافظات مصر    تعرف على موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم للعاملين بالقطاع الخاص    نظافة القاهرة تطلق أكبر خطة تشغيل على مدار الساعة للتعامل الفوري مع المخلفات    أستاذ بجامعة عين شمس: الدواء المصرى مُصنع بشكل جيد وأثبت كفاءته مع المريض    مفاجأة صادمة.. جميع تطعيمات كورونا لها أعراض جانبية ورفع ضدها قضايا    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لي نصيباً في سعة الأرزاق وتيسير الأحوال وقضاء الحاجات    رسميا.. بدء إجازة نهاية العام لطلاب الجامعات الحكومية والخاصة والأهلية بهذا الموعد    السجيني: التحديات عديدة أمام هذه القوانين وقياس أثرها التشريعي    بمشاركة 10 كليات.. انطلاق فعاليات الملتقى المسرحي لطلاب جامعة كفر الشيخ |صور    حكم الشرع في الوصية الواجبة.. دار الإفتاء تجيب    ميدو: عامر حسين ب «يطلع لسانه» للجميع.. وعلى المسؤولين مطالبته بالصمت    عيار 21 الآن يسجل تراجعًا جديدًا.. أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 30 أبريل بالمصنعية (التفاصيل)    مصدران: محققون من المحكمة الجنائية الدولية حصلوا على شهادات من طواقم طبية بغزة    تصريح زاهي حواس عن سيدنا موسى وبني إسرائيل.. سعد الدين الهلالي: الرجل صادق في قوله    المتحدث باسم الحوثيون: استهدفنا السفينة "سيكلاديز" ومدمرتين أمريكيتين بالبحر الأحمر    «هربت من مصر».. لميس الحديدي تكشف مفاجأة عن نعمت شفيق (فيديو)    عفت نصار: أتمنى عودة هاني أبو ريدة لرئاسة اتحاد الكرة    ضبط 575 مخالفة بائع متحول ب الإسكندرية.. و46 قضية تسول ب جنوب سيناء    بعد اعتراف أسترازينيكا بآثار لقاح كورونا المميتة.. ما مصير من حصلوا على الجرعات؟ (فيديو)    ليفاندوفسكي المتوهج يقود برشلونة لفوز برباعية على فالنسيا    توفيق السيد: لن يتم إعادة مباراة المقاولون العرب وسموحة لهذا السبب    إيهاب جلال يعلن قائمة الإسماعيلي لمواجهة الأهلي    تموين جنوب سيناء: تحرير 54 محضرا بمدن شرم الشيخ وأبو زنيمة ونوبيع    برلماني يطالب بالتوقف عن إنشاء كليات جديدة غير مرتبطة بسوق العمل    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    أخلاقنا الجميلة.. "أدب الناس بالحب ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب"    خليل شمام: نهائى أفريقيا خارج التوقعات.. والأهلى لديه أفضلية صغيرة عن الترجى    تقديم موعد مران الأهلى الأخير قبل مباراة الإسماعيلى    درجات الحرارة المتوقعة اليوم الثلاثاء 30/4/2024 في مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية غ (..) اب

"في واقع الأمر؛ إن أقصي ما نتعلمه من مسيرتنا في الحياة هو أن الحياة هي أمر لا يصدق"
بانوس يوانيذيس هو أحد أكبر وأهم الكتاب في جزيرة قبرص التي رغم قربها الشديد منا إلا أنها شديدة البعد عنا، فنحن لم نطلع علي ما قدمته وما تقدمه من آداب وفنون. قبرص الناطقة باليونانية، تلك اللغة الصغيرة التي لا يتعدي الناطقون بها الخمس والعشرين مليون نسمة في العالم بأسره، لكن؛ وبلا شك فالعالم مدين لليونان ولهذه اللغة بالكثير.جدير بالذكر أن اللغة اليونانية أيضاً قدمت لنا في العصر الحديث كتاباً حظي بتقدير عالمي مثل قسطنطين كفافيس ونيكوس كازانزاكيس ويانيس ريتسوس واثنين من شعراء نوبل (يورغوس سيفيريس وأوذيسياس إيليتيس).
رواية غ(..)اب لبانوس يوانيذيس هي سيرة ذاتية لمراهق (بتروس أرخونديذيس) التي يعتبر ال Alter ego للكاتب وهو بطل ثلاثية في مراحل عمرية مختلفة (ديفا، أمريكا 66 De profundis و غ(..)اب.
عندما يحكي شيخ في الخامسة والسبعين عن طفولته ومراهقته فعلينا أن ننتبه قليلاً، فهنا يأخذنا بانوس يوانيذيس إلي قبرص الإنجليزية المحتلة في فترة 1940 إلي 1955 ويصف لنا وجه الحاكم والمحكوم، المحتل والمستعبد، الظالم والمظلوم. فتبرز الشخصية القبرصية تبحث عن الأمل في حياة أفضل. جاءت شخوص روايته من الشعب ومن عائلته وأصدقاء الأب والأبن، يبعث الحياة فيهم وفي المكان والزمان ويعطي لهم لوناً وطعماً ورائحة حتي يُدخل المتلقي في عالمه ويعيش معه في قبرص تلك الحقبة. مزج الكاتب بين رهافة القص وخفة الظل والحكي المباشر ووظفهم لخدمة رواية تعد سيرة ذاتية لقبرص وشعبها في تلك الفترة.
ولد بانوس يوانيذيس في فاما غوستا عام 1935. درس الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية وفي كندا. عمل رئيس قسم في الإذاعة والتليفزيون في قبرص حتي سنة 1995 وكان رئيس البرامج. هو رئيس مركز الكُتّاب القبرصي، ورئيس تحرير المجلة الثقافية التي يصدرها المركز باللغة الإنجليزية In focus. كتب ونشر القصة والرواية والمسرحيات والمجموعات الشعرية، بالإضافة إلي العديد من السيناريوهات للإذاعة والتليفزيون. تُرجمت كل أعماله إلي عدة لغات أجنبية.
جدتي لأمي، ضئيلة الحجم روذّوو الجميلة، روذوثيا. ك. كارميوتي، كما هو اسمها الكامل كما كنت أراه مكتوبًا بحروف متعرجة غير متساوية علي صفحات كتبها. كانت من اللاجئين الذين نزحوا من آسيا الصغري، ولا أدري من أي مكان في تركيا جاءت إلي الجزيرة ولا كم من الأقارب والجيران أتوا معها، لم تقل لي أبدًا، وإن قالت فلا بد أنني قد نسيت. عندما كنت صغيرًا، كنت أسالها: أين هو بيت أهلك يا جدة؟ وأين هما قبرا والديك؟ كانت تشير بإصبعها الذي شوهه الروماتيزم نحو الشمال، نحو جبال كارامانياس التي تبدو باهتة علي انعكاس سطح الماء في بحر كيرينيا، وغير هذا لم تخرج من بين شفتيها كلمة.
كيف تزوجت، ومن قام بالتعارف من أجل زواجها من شريك حياتها كوستيس كارميوتي من قرية كارمي المجاورة، حتي هذا لا أعرفه. ولم أستطع أن أسأل جدي عن هذا؛ لأنه كان نادرًا ما يأتي في إجازة إلي قبرص من إفريقيا لمدة شهر، حيث كان يعمل رئيسًا للفنيين لصيانة خطوط السكك الحديدية التي كانت تربط بين شمال القارة السوداء من البحر المتوسط شمالًا حتي أقصي جنوبها.
"كان يأتي الإفريقي عندما كان شابًّا ممشوقًا مرة كل ثلاثة أعوام"، كان ولداه الماكران الخَالان أندرياس وفوتيس سليطي اللسان يقولان لي عندما صرت مراهقًا وصارا يأخذاني بعين الاعتبار: "كان يأتي كي يُحَبِّلَ أمَّنا ثم يغادر. الآن بعد أن صار عجوزًا صار مجيئه أكثر ندرة. يبدو أن النساء السوداوات يكفينه...".
وبهذه الطريقة أنجب الزوجان خمسة أولاد، الخالين اللذين ذكرتهما وثلاثة بنات، البنت الأولي التي هي أمي فاسيليكي والخالتان صوفيا وإرميوني. قال لي أخوالي إن الجد السخيّ كان يرسل بانتظام المال اللازم حتي تعيش عائلته دون أن يعوزها شيء لكي يدرس الأولاد ويتم تجهيز البنات.
في فترة السنوات الثلاث التي كانت تفصل بين زيارات الجد، كانت الجدة روذّوو تحبل وتنجب وتبدأ في مشقة تربية الطفل الجديد، الذي ستقدمه بكل فخر لزوجها عندما يعود ليبذر الطفل الجديد ويري كيف يكبر ويتقدم الأولاد الآخرون.
أعمال البيت كانت تقوم بها الجدة وحدها وإن كانت أغلب الوقت تدفع أمامها بطنًا كبيرًا وتحمل رضيعًا علي صدرها. كانت بناتها يساعدنها بالطبع، فمهارتهن وأدبهن كانا مثالًا يُحتذَي، ليس في كل الحيّ ولكن في منطقة كيرينيا بأسرها حيث كانت تعيش العائلة. المنزل الذي اشتراه الجد كوستيس كان مثبتًا علي منحني تل الكنيسة الكاثوليكية، كان منزل عائلة كارميوتي واسعًا مبنيًّا بالطوب اللبِن، يحتوي علي أربع غرف للنوم وسخانين شمسيين أحدهما يتجه نحو الشمال والآخر نحو الغرب، مطبخ مريح، حمام واسع خارجي ومرحاض خشبي مثبت عليه إكليل للجلوس لقضاء الحاجة، نظيف علي الدوام، بالإضافة إلي غرفة للغسيل وكانت مخزنًا في نفس الوقت، وعشش لتربية الدواجن والأرانب. الفناء الكبير الذي يحيط بالمنزل كان مغطي بالزهور وأشجار الورد والليمون من أقصاه إلي أقصاه، أشجار التين البري بأوراقها الكثيفة كانت بمثابة حدود وسياج منيعة محملة بأسراب من العصافير.
القليل المتبقي من وقتها كانت الجدة تقضيه في العناية بالحديقة أو في التطريز، كان أنفها ونظارتها مثبتين علي تفاصيل ما تطرزه. هذا، وفي المساءات عندما تنتهي أعمال المنزل والعناية بالأولاد الذين كانوا يكبرون أمامها ويقومون بواجباتهم الدراسية تحت أعينها علي ضوء المصباح الشمسي الشمالي علي الأغلب، كان الوضع يُذكِّر في كثير من الأحيان بفصل مدرسي. أما في الليل، عندما كان يذهب أغلب من في البيت إلي النوم، فكانت الجدة تفتح خزانتها في غرفة النوم وتُخرج من داخلها الكتاب الذي كانت تقرؤه في تلك الأيام. تلك الخزانة المتواضعة تحتوي علي حوالي أربعين إلي خمسين وربما أكثر من مجلدات الأدب الكلاسيكي يغار منها أكثر محب نخبوي للكتاب، كتب بالية من كثرة الاستعمال، قصاصات من الأوراق والورود الجافة كانت تضعها الجدة لتشير إلي الصفحات، وخطوط عريضة بقلمها الرصاص تحت السطور كانت دائمًا تخطها عندما تغرق في القراءة.
عندما بلغت العاشرة من عمري وبدت عليَّ مظاهر حب الكتاب، وبعد أن قمت بمحاولاتي الأولي في نظم بعض أبيات الشعر أو بعض الحوارات القصيرة، وبالأخص عندما أثبتُّ لها من خلال حواراتنا أنني إلي حد ما كنت أستطيع أن أفهم وأستوعب ما أقرؤه، أظهرت لي الجدة روذّوو كتبها واحدًا تلو الآخر "كنوزها" كما كانت تسميها، شيئًا فشيئًا بدأت تثق في أنني أستطيع أن أقرأها، كان هذا يعتمد دائمًا علي درجة صعوبة الكتاب، التي كانت تقدرها هي. هكذا، من كنز روذوثيا. ك. كارميوتي من آسيا الصغري تعرفت علي باباذيا مانديس، وفينيتزيسن، وجول فيرن، وألكسندر دوما، وهوجو، وديكنز، ومارك توين، وثيرفانتيس، وآخرين كثيرين من الكُتّاب اليونانيين والأجانب.
في شهور الصيف التي كنت أقضيها في كيرينيا بالضرورة، في منزل الكنيسة الكاثوليكية، كنت أنام بجوار جدتي لساعتين تقريبًا، عندما كان ينسحب الجميع نحو غرف نومهم ليتبادلوا أطراف الحديث، يضحكون ويلعبون النرد أو الدومينو، كنت أتسلق الفراش المعدني العالي المحاط بشبكة البعوض، وكان فراش عرسها، وأتقوقع بجوار الجدة ونغرق معًا في عالم الأدب، فتارة أصبح دون كيشوت وتارة تصبح الجدة أَلِيس في بلاد العجائب، تارة أنا توم سوير أو شبح ليلة الكريسماس أو الإخوة كرامازوف وتارة تصبح الجدة القاتلة كما في قصة باباذيا مانديس. كنت أستلقي علي بطني، يبعد أنفي عن صفحات الكتاب سنتيمترات قليلة، كانت جدتي تتكئ جالسة علي الفراش وتضع نظارتها علي طرف منحني أنفها الأفطس بعض الشيء، ونضيع كلانا في العوالم الخيالية. كانت تلك الساعات الساحرة بالنسبة لنا أكثر واقعية من هذا العالم ثلاثي الأبعاد الذي يطوينا.
رغم أنها كانت تتحدث التركية كما قالت لي أمي ذات مرة، لم أسمع جدتي روذّوو قط تتكلم لغة البلد الذي ولدت فيه وكبرت حتي صارت فتاة في السادسة عشرة. عندما كان الحديث يتطرق إلي الأتراك، إما في أعلي كيرينيا أو في كارامانيا التي كانت تبدو زرقاء باهتة أمام لسان اليابسة ورصيف الأمواج لميناء كيرينيا، عندما كان يتطرق الحديث إلي الأتراك لم نسمعها قط تتحدث عنهم بعدائية أو ضغينة. كان هناك فقط حنين مرير، أو ثمة حب مفقود يُستشَفُّ من كلامها أو نبرة صوتها الذي كان دائمًا مبحوحًا لكنه عذب في نفس الوقت. لكن بعد سنوات كثيرة، عندما ماتت الجدة ذات ظهيرة أثناء نومها بصفاء، لاجئة للمرة الثانية، في منزل الخالة صوفيا في باليوريوتسا حيث لجأت بعد الغزو التركي واحتلال كيرينيا، دخل كل أفراد العائلة أبناء وبنات وزوجات الأولاد وأزواج البنات والأحفاد ليقبِّلوا بألم شديد وورع يدها المتجمدة، رأينا مفتاحًا صدئًا معلقًا علي الحائط بجوار وسادتها. شرحت لي الخالة صوفيا فيما بعد أن هذا هو مفتاح منزل والديها في القرية التي ولدت فيها الجدة في منطقة أزمير، لم أعد أذكر اسم القرية بعد، كيف استأمنتها أمها المريضة آنذاك بينما كانت هي فتاة في أول المراهقة وأرسلتها إلي الميناء حيث ستبحر مع حشد من اللاجئين المطاردين إلي قبرص.
"ظلت أمي تحتفظ به في صندوق أيقوناتها طيلة حياتها مع بعض الأيقونات المحببة إلي قلبها وإكليل زواجها"، قالت لنا الخالة صوفيا، "في الأيام الأخيرة فقط طلبت أن نخرجه من صندوق أيقوناتها الذي جلبته معها من كيرينيا حتي أعلقه هنا حيث ترونه. أفكر في أن أضعه زينة علي تابوتها".
منذ 1942 حتي 1950، كنا أنا وأختي الصغري أفغي نقضي فصل الصيف تحت جناح الجدة روذّوو في "قصر الكنيسة الكاثوليكية"، كما كان أخوالنا يسمون بيت العائلة. عندما يحل شهر يونيو وفور أن تغلق المدارس أبوابها، كان بيتنا إما في نيابولي أو في مورفو حيث كنا نعيش، يصبح مثل ساحة المعركة بيني أنا وأختي وبين أبي. فكنا نطلب الإذن بإلحاح شديد من والدينا حتي نهرع إلي كيرينيا لنقضي شهرين كاملين ننعم فيهما هناك بالسباحة والقوارب والصيد وبالحكايات المجنونة وغير المعقولة التي يحكيها لنا الخال أندريكوس، ولتلتهم أفغي النهمة باستمتاع الحلوي التي تصنعها الخالة نوني، وأستمتع أنا بالروايات مع الجدة.
كان لدي الوالد دائمًا اعتراضات حادة، كان يقول: " أنتما شقيان وغير مطيعين، وبالأخص أنت يا بتروس"، وكان يستعرض معنا سيلًا من المخاطر، بالأخص في البحر، وكيف يكون باستطاعة أخوالنا "القرويين" كما كان يصفهم، أن يسيطروا علينا.. إلخ. كنا نجيبه أنا وأفغي بالرجاء والبكاء والوعود، وفي النهاية وبعد تدخل من الأم، ننجح في الحصول علي موافقته.
كانت أمي برصانتها وحصافتها المعتادة تنفرد به علي مبعدة منا، بينما كنا نتنصت عليهما ونسمعها تقول له إن هؤلاء الأقارب القرويين عندهم القدر الكافي من المقدرة وتحمل المسئولية، وهم أكفأ من "بعض من أقاربه من ذوي الدماء الزرقاء السابقين"، لم تكن لتذكرهم بالاسم، هذا غير أنهم قد أثبتوا بكل الطرق أنهم يحبوننا أكثر من غيرهم.
بقيت في ذاكرتي حتي اليوم وأنا في الخامسة والثمانين من عمري حادثتان مرَّتا عليَّ أنا وأفغي في صيف عام 1945، أولاهما كانت خطرًا مميتًا داهمني وكادت ظنون أبي واعتراضاته التي عبر عنها بطريقة تراجيدية أن تتحقق. لكن أعتقد أنه يتوجب أن أحكيهما. كما جرت العادة في ذلك العام أيضًا ذهبنا إلي كيرينيا بالأتوبيس أنا وأفغي بصحبة والدتنا بعد أن تترك أختنا الصغيرة روذولا في رعاية الخالة صوفيا التي تمت خطبتها واستقرت في بالوريوتسا. كانت أمي تبقي معنا بضعة أيام حتي نعتاد علي الأجواء والقواعد وعادات "القصر"، ولكي تتأكد أننا متعاونان وفي أمان، حينها تعود إلي نيقوسيا.
في صباح كل يوم كانت تصطحبنا إلي الشاطئ المجاور الذي كان خليجًا يُسمي "تشاكيليري". ما زلت أذكرها، نحيلة ورائعة الجمال، كانت ترتدي حلة سباحة سوداء لها حمالات ويصل سروالها حتي ركبتيها، تجلس علي الصخور أو علي حافة الرمال حيث تنطفئ الأمواج، متيقظة تتابعنا نلهو علي طرف الشاطئ الضحل. ويا ويلنا لو تهورنا ونزحنا مقدار شبر واحد للداخل ويرتفع منسوب الماء أعلي من وسطنا.
عندما يهب النسيم في المساء كنا نذهب بصحبة الخالة نوني إلي رصيف الميناء وإلي الفنار للتنزه، أو كما كان الرومانسيون في ذلك العصر يقولون، لنستمتع بالغروب، والحقيقة كان يبدو ساحرًا من تلك المناطق. وأحيانًا أخري كنا نجلس علي أحد المقاهي الممتدة علي الرصيف القديم. وبينما كانت الأم والخالة يتناولان البوظة أو يشربان المياة الغازية، كنت أنا وأفغي نهرول حولهما ونصرخ، كنا نتأمل مراكب الصيد التي تخرج وتدخل إلي الميناء، أو نلقي ببعض الفتات إلي الأسماك التي كانت تأكل دون أن تتحرك في بحيرات عميقة لا تحصي حفرها البحر في الصخور الممتدة لمسافة ثلاثة أمتار من رصيف الميناء المشيد.
كنا قد خرجنا لنفس المكان في يوم كهذا، وبينما كنت أقذف بحجر علي قطيع من أسماك البوري حوصرت بين الصخور، اشتبكت أقدامي فاختلَّ توازني فوجدت نفسي أتأرجح في الفراغ. سُمعت صرخات عند طاولتنا والطاولة المجاورة، "فاسو، يا للعذراء، الولد!". كانت أذناي تطنان وقلبي يدق كالمجنون وجسدي يتأرجح، رأسي كان في مواجهة الماء مستعدًّا للغرق، وحينها، وكأنها معجزة، ثمة يد أمسكت بقدمي. بدأت أدور معلقًا كالشاة في الهواء من قدم واحدة، منتظرًا السقوط برأسي من لحظة لأخري كي يتهشم علي الصخور التي كنت أراها الآن تصعد مدببة نحوي. لم أسقط. اليد التي أمسكت بي من قدمي جذبتني إلي أعلي، ووضعتني علي الأرض سالمًا بينما كنت أرتجف. كانت يد أمي، رأتني أو شعرت بالخطر القادم، قفزت من علي مقعدها فنثرت الأكواب والأطباق وكل ما كان علي الطاولة فسقط فتاتًا وحطامًا، ومدت ذراعها. عندما وقفت مخدرًا علي قدميَّ المرتعشتين ولا تزال آثار الأصابع عليهما، انتبهت إلي أمي التي شحب لونها واغرورقت عيناها، وجسدها وشفتاها في حالة تشنج تام، لم يكن بمقدورها أن تنطق حتي بكلمة. حاولت الخالة نوني أن تهدئ من روعها دون جدوي، فراحت تقول لها إنها كانت مشيئة الرب أن تنقذني، وإن الرب قد أهداني حياة أخري.
طيلة ذلك المساء وحتي تأخر الوقت ليلًا كانت أمي تنفجر باكية بين الحين والآخر وتلقي باللوم علي نفسها؛ إذ إنها رغم اعتراضات والدي جاءت بنا إلي كيرينيا، وأخذت تعيد نفس الكلام وأننا سوف نعود معها إلي نيقوسيا. احتاج الأمر إلي تدخل حاد من جدتي التي قالت لها إنها ربت خمسة أولاد وحدها بأمان تام، ألن تستطيع الآن أن تسيطر علي طفلين صغيرين ولا سيما الآن، إذ إن لديها ولدين كبيرين وابنة فائقة المهارة. ولحسن الحظ أقنعت أمي.
مسئولية سلامتنا واستجمامنا أعطتها الجدة لخالَيْنا وخالتنا، الذين لم يتزوجوا بعد فكانوا يقيمون معها في بيت الكنيسة الكاثوليكية. تولي كل منهم مسئوليته بصدر رحب.
الخالة نوني كانت قريبة وتعتني بكل شيء، نظافتنا، طعامنا المتوازن، نزهاتنا المسائية وذهابنا أيام الآحاد إلي الكنيسة، تولت مهمة تلقين أفغي أسرار الطهي، وبالأخص الحلويات مثلما تعلمت من أمها صاحبة الأصابع الذهبية، القادمة من آسيا الصغري، التي لقنتها لبناتها. ونجحت، تحت إشرافها بالطبع هي والجدة. الخالة نوني وأمي صنعا من أفغي ربة منزل نموذجية وطاهية عظيمة تعرف كل فنون المطبخ.
الخال أندرياس، أو أندريكو كما كانوا ينادونه في العائلة وأصدقاؤه، عندما بلغت الثامنة وبلغت أفغي الخامسة، تولي طواعية أن يعلمنا السباحة في خليج تشاكيليري. كان سباحًا بارعًا، وبينما كنا نلهو في الماء الضحل كان يعتاد أن يذهب إلي الأعماق ويذهب نحو الخليج الشرقي بعيدًا حتي كنا بالكاد نراه بين الموج وزبد البحر الذي كان يرتطم بالصخور والشعاب. في بعض الأحيان كنا نخاف أن يغرق وننادي عليه بلهفة وخوف صارخين: "يا خال أندريكو، يا خال أندريكو!". وفجأة كان يغوص بين الأمواج الخضراء ونراه فجأة بين أقدامنا ينثر الماء والزبد في كل مكان وهو يضحك بصوت عالٍ من خوفنا. كان الخال أندريكو يتباهي بأنه يستطيع أن يمسك أنفاسه تحت الماء أكثر من عشر دقائق، وأن تلك الكئوس القابعة علي النافذة بجوار فراشة جاء بها من تركيا حيث كان يذهب إلي هناك سباحةً مع أصدقائه. "عشر ساعات، اثنتا عشرة ساعة علي الأكثر"، كان يقول متفاخرًا، "نغوص من عند الفنار، فنصل إلي الرمال في أنيموري. وبعد ثماني ساعات، لأن التيار من تلك الناحية يساعد في هذا الاتجاه، نعود ونتناول البوظة هنا في سكانافي". "حسنًا وتلك الأكواب حملتها وأنت تسبح"، كنا نسأل كي نداعبه. فيجيب: "آه، تلك يحملها القارب البخاري، دائمًا يرافقنا علي مقربة منا قارب بخاري صغير بصحبة ملاحه، كي يراقب ويتأكد أننا نقطع كل المسافة سباحة دون أن نستعين بشيء. بذلك القارب البخاري كنا نحضر من مرسين، بالإضافة إلي الأكواب، صواني البقلاوة والإيكميك والقطائف وأشياء كثيرة كهذه".
بما أنني كنت المفضل لدي خالي أندريكوس؛ وعدني أنه عندما سأصبح في الخامسة عشرة وأنتهي من دروس السباحة والغطس معه، سيحصل علي تصريح من أمي "الصعبة" ومن "السمين" كما كان الأقارب والأصدقاء يسمون أبي كبير الحجم وقليل الحركة، لنسبح معًا حتي طواحين الهواء.
الخال فوتيس أيضًا كان عاشقًا للبحر بدوره، تولَّي أن يعلمني الصيد. إما في الصباح الباكر في ساعات الفجر، أو في المساء عند غروب الشمس عندما تتلون سماء كيرينيا والسحب في خليج مورفو وشواطئ تركيا البعيدة باللون الوردي، كنا نجلس لساعات أنا وهو وأفغي خلف القلعة الفينيسية بكل أدواتنا، الصنارة والطعم والخيوط إلخ... تعمل كل الأدوات لساعات طويلة، والسلة التي نحملها لنضع فيها الأسماك التي سنصطادها كانت خاوية دائمًا. كان الخال فوتيس في تلك الفترة غارقًا في عشق غاليتيا الجميلة، فتاة من نيقوسيا، فكان دائمًا ما يترك صنارته ويخرج الأوراق والقلم الرصاص ويكتب سارحًا أبيات شعر لحبيبته:
عندما تسير في الشارع
ستري فتيات جميلات
طويلات، سمراوات
شقراوات وصغيرات
يشعلن النار في هذا العالم
كل تلك الساعات التي كنا نجرب فيها حظنا ومهارتنا في الصيد أنا وأفغي ونحن نسمع الخال العاشق يرتل أشعاره مثل بيجماليون الشاب ويتغزل في جمال فتاته غاليتيا، استطعت مرة واحدة أن أصطاد سمكة بوري متوسطة الحجم. بفخر شديد ذهبت بها إلي البيت ورجوت جدتي أن تضعها في الثلج حتي أُحضر أسماكًا أخري، ووعدت أنني سوف أصطاد دستة، فقد تعلمت فن الصيد الآن بما يكفي لوجبة. تلك السمكة بعد أن نظفتها جدتي نسيتها في الحوض قليلًا فسرقتها قطة المنزل وهربت بها.
الواقعة الثانية التي لا تُنسَي أيضًا في نفس الصيف، لا أدري إذا كانت أفغي تذكرها، كان هناك خبر أشبه بالفاجعة ليس فقط في "القصر" ولكن في حي الكنيسة الكاثوليكية بأكمله، بل في كيرينيا بأسرها. بثت محطات الإذاعة في أثينا والبرنامج اليوناني في البي بي سي بإلحاح وتفاصيل مرعبة خبر إطلاق الطائرة الأمريكية "إينولا جاي" في السادس من أغسطس أول قنبلة نووية علي هيروشيما، ثم بعد يومين سُمع خبر إلقاء القنبلة النووية الثانية علي ناجازاكي. لم يكن في بيتنا ولا في كيرينيا ولا في قبرص ولا حتي في العالم كله حديث غير هذا، وعن عدد الضحايا الذي لا يحصي، وتلك الفاجعة التي ألَمَّت بتلك الدولة في الشرق الأقصي.
في يوم من تلك الأيام، ذات مساء حار، عدنا أنا وأفغي إلي البيت منهكين من درس السباحة الذي استغرق ساعتين في خليج تشاكيليري. كدنا نموت من العطش فهرولنا نحو الإبريق البني بالريحان المعلق في عنقه كي نشرب من الماء الفاتر. في البداية سأشرب أنا بما أنني الكبير، بل أنا لأنني الصغيرة، تشاجرنا أمام الإبريق، وبينما كنا نحاول رفعه من علي قاعدته الخشبية انزلق الإبريق المتعرق من بين أيدينا ووقع علي الأرضية الخشبية وصار حطامًا. الماء المسكوب وشقف الإبريق المكسور ملآ المكان حولنا ولم يَبْقَ في يدي سوي أعواد الريحان الرطبة المبللة. صوت القرقعة الذي خلفه سقوط الإبريق وصرخة أفغي الهيستيرية جاءت بالبيت كله إلي مسرح الجريمة. قال الخال أندريكوس: "لا عليكما، كان قديمًا علي أية حال، لقد آن أوانه، سأحضر أباريق أخري من ميرسين"، "من فعل هذا؟"، سأل الخال فوتيس. "أهذا أنت يا بتروس؟". التزمت الصمت، أشرت لهم إلي الزجاج الذي بقي في يدي وراحت أنهار الدموع تجري من عيني. وهنا تحدثت الجدة التي كانت تحب ذلك الإبريق بشكل خاص. قالت بحدة وحسم: "من فعل هذا يأتي هنا أمامي علي الفور". بتردد وخوف شديدين تقدمت خطوتين نحوها. سألت: "أنت من فعل هذا؟"، هززت براسي بالإيجاب ثم همست: آسف يا جدتي. مدت الجدة يدها وأمسكت بأذني وراحت تضغط عليها وتلويها ثم قالت: "الليلة لن تأكل من الكيك الذي أعدته إيرميوني، ستنام باكرًا ولن تفتح كتابك قط". كنت أقرأ في تلك الأيام "البؤساء" لفيكتور هوجو، ووصلت إلي المشهد الذي يتعرف فيه المأمور علي السجين السابق. كان هذا أقسي عقاب يمكن أن تلحقه بي جدتي. وبالطبع الحرمان من الكيك الذي كانت الخالة نوني تبرع في إعداده أكثر من أي امرأة أخري في كيرينيا. لكن كوني لن أعرف ماذا سيحدث في هذا المشهد الحاسم في الرواية، كان هذا قاسيًا جدًّا.
استلقيت باكرًا كما الجميع في الفراش تلك الليلة، بخلاف خاليَّ اللذين كانا يتجاذبان أطراف الحديث في ظلام غرفة نومهما ويضحكان من أعماق قلبيهما. بعد ساعة تقريبًا وبينما كان النوم يتسلل إلي أعين الجميع سمعنا صوت أجراس الكنيسة يدق عاليًا وبإصرار، وأصوات الناس تسير في الشارع متسائلين عمَّا يحدث. في البداية استيقظ الخالان ثم خرجا، وبعدهما الخالة نوني ثم أفغي، وأخيرًا استيقظت الجدة وخرج الجميع نحو الشرفة الغربية ليعرفوا ما الذي يحدث. "تعال يا بتروس أنت أيضًا"، قالت الجدة وهي تنزل من علي فراشها، ثم خرجت. لم أنهض معاندًا، ولم أجب أيضًا، ولم أخرج ولم أنزل من علي فراشي. بقيت ملتحفًا بالملاءة تحت شبكة البعوض السميكة مفتحًا أذنيَّ كي أسمع ماذا يقولون تحت المصباح في الشرفة الغربية، ولكن دون جدوي! بعد قليل عرفت ماذا جري بعد أن عادت الجدة:
"لقد انتهت الحرب، حمدًا للرب، لقد وقَّع الإمبراطور الياباني اتفاقية هزيمته مجبرًا وذليلًا، المسكين! بعد أن قذفوهم بتلك القنابل اللعينة، اليابانيون المساكين استسلموا، الجنود يطعنون أنفسهم بشكل جماعي أو يلقون بأنفسهم من فوق الجسور والقمم العالية ويسقطون فيتمزقون إربًا.. يا لهم من مخلوقات تعيسة!! لكن يا بتروس يا صغيري، يقول العالم إنه من اليوم نحن في سلام!".
مدت يدها ومسدت علي شعري ثم ابتسمت وأردفت قائلة: "يبدو أن كسر الإبريق كان إشارة بحسن الحظ!".
حدث هذا في الخامس عشر من أغسطس 1945، وكان عمري عشر سنوات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.