نجيب محفوظ أشار القاص والشاعر الأردني هشام البستاني في مدخل ملف الملحق الشهري الأخير لأخبار الأدب - المنشور بعنوان " قصص من الأردن" - إلي مفهوم الكتابة الجديدة وأنه نشر مقالا حول هذا المفهوم في مجلة "ذي كومون" The »ommon الصادرة عن جامعة آمهيرست الأمريكية، وذلك بوصفه المحرر الأدبي لقسم الأدب العربي في مجلة هذه الجامعة العريقة التي تنشر النصوص العربية مترجمة بالتزامن مع نشرها في "أخبار الأدب". وبالرجوع إلي شبكة المعلومات وجدت المقال المنشور بالإنجليزية في 24 مارس 2015 بعنوان: “New Arabic Writing: »ataclysm in Fast- Forward، وأردت أن أشارك قارئ أخبار الأدب - والكتاب الشباب بصورة عامة - بعض ما جاء في المقال من آراء، ليس بهدف الانحياز لرؤية بعينها، ولكن من أجل إقامة حوار قد يكون مفيدا وممتعا أو علي الأقل يفتح طاقة في جدار الآتي. يطرح البستاني في بداية المقال سؤالا رئيسيا وأسئلة فرعية حول ماهية الكتابة الجديدة في العالم العربي، وهل تمثل " جيلا جديدا" من الكتاب؟ هل تقدم شكلا غير مسبوق من الكتابة؟ ويري البستاني أن الكتابة الجديدة التي يستكشفها هنا لا علاقة لها بسن الكاتب، ولا هي سقطت في فضاء الأدب الواسع فجأة بدون جذور أو أسلاف. فالكتابة "الجديدة" عبارة عن عملية تطور في تقنيات الشكل الأدبي، وفي التيمات والموضوعات المتجاوبة مع تغيرات مجتمعية تقع في الزمن المعيش، وتظهر في العلاقة بين الكاتب و"السلطة الثقافية"، وكذلك في طبيعة المجال الثقافي الرسمي الذي تحدده الحكومات والمؤسسات. والكتابة العربية الجديدة هي أيضا نتيجة صراع بين الكاتب ومحيطه المتفجر. كذلك يؤكد البستاني حقيقة أن ما من كاتب يستطيع أن يزعم أنه منفصل تماما عن مجتمعه وتاريخه الثقافي. فالجديد مولود من رحم القديم، لذلك فإن الممارسة الناجحة للتجريب تقتضي معرفة وثيقة بالأشكال الأقدم. إن شرعية التجريب تعتمد علي تحديد غرض واضح، فمن خلال الوضوح والتمكن يمكن أن تحقق النزعة التجريبية أهداف التغيير الجذري. فالتجريبية ليست "طلقة في الظلام"، ليست التدرب علي استخدام الشكل، بل استكشاف إمكاناته: إنه التعبير عن غرض تؤكده معرفة فنية عميقة. فالكاتب التجريبي يفهم بعمق طبيعة التقنيات التي يتبناها والأشكال المستخدمة لتحقيق هدفه. إن فضاء التجريب يتشكل من رفض البقاء داخل حدود التعريفات الضيقة للنوع الأدبي، والتمرد علي رتابة التكرار، وبعدم الخوف من اجتياز الحدود والتداخل مع فنون أخري. يستعرض الكاتب في لمحات سريعة، موجهة للقارئ الأجنبي، خصائص ما يسميه الكتابة الكلاسيكية الحديثة لدي جيل نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا وسهيل إدريس، ويصفها بصورة عامة أنها كانت تميل إلي الواقعية والرومانسية، وأنهم اهتموا بموضوعات التحرر والتقدم، لأنهم كانوا أبناء " النهضة العربية" التي واكبت بداية القرن العشرين، والحقبة المناهضة للاستعمار، وأفضت إلي بروز النزعة القومية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. ويري أن هؤلاء الكتاب كان يحكمهم تناقض يتمثل في إعجاب عميق غير معلن - لكن يمكن تقصيه في أدبهم - بالغرب وإنجازاته وتقدمه، وسيادة النظام فيه، وبناء الدولة الحديثة من جانب، وخطاب معلن من جانب آخر، صريح في مناهضة الاستعمار والدعوة إلي تحرر وطني يعمل علي تغذية أملهم في الاستقلال والسيادة. وهو الأمل الذي لم يتحقق، بل تعثر في اتجاه معاكس، نتج عنه سلسلة إخفاقات، شكلت الرحم الذي نمت فيه الكتابة الجديدة اليوم. وخلال الحقبة التي ورثت الهزيمة والتمزق، وهي الحقبة التي تهاوت فيها الآمال، وسقطت وراء أسوار دائبة الارتفاع،تتمثل في الفقر والظلم والاضطهاد والاستعمار وتوابعه، إزاء هذا الوضع لجأ الكتاب الجدد - أصحاب النزعة التجريبية - إلي التراجع داخل حدود أنفسهم بوصفها المساحة المحررة الوحيدة المضمونة. ومن داخل هذه المساحة شنوا هجومهم الأدبي علي العالم الخارجي. تلمست الكتابة الجديدة طريقها بين آثار الانهيار والاكتئاب، فيما تحولت شعارات الماضي التي كانت مقدسة- مثل الوحدة، الحرية، السعي لتحقيق حياة أفضل- إلي أشلاء مزقتها أنياب العالم الحديث، وأبنية القوة السائدة فيه. ومن أجل البحث عن معني انسحب الكتاب الجدد إلي الداخل، إلي فضاء يتمكنون فيه من التأمل والكتابة، الشعور بالغضب والكتابة أو إثارة أسئلة والكتابة. الكتاب الجدد يسعون إلي التعامل مع الحالة الكلية الجامعة للجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية،الممتدة إلي أقصي أطراف السؤال الوجودي. إنهم يتعاملون مع هذه الحالة،ولكن من نقطة بداية يجسدها الصراع الداخلي: التساؤل والهواجس والخسائر والهزائم. وعلي الرغم من لجوء الكتاب الجدد أحيانا إلي استخدام بعض خصائص لغة رواد الكتابة الكلاسيكية الحديثة، إلا أنهم -بعكس أسلافهم -لا يهدفون إلي تقديم مقولات وعظية أو مقولات تسعي إلي بناء الأمل أو العثور علي حلول مُرْضِية. إنهم قد رحلوا إلي أرض جديدة تسكنها آمال مهشمة وأحلام محبطة. فبعد تسلق سفح الأمل والتطلع إلي نبوءة التقدم التي تغني بها التراث الأدبي السابق، وجدوا أنفسهم يطلون علي حقول محروقة. ويري الكاتب أن ظروف البلاد بعد المرحلة الاستعمارية أدت إلي سيطرة الأجهزة الحكومية علي مجال الثقافة برؤيتها البيروقراطية، وذلك بالإضافة إلي صعود مفهوم السوق،وسيادة مفهوم عصر الرواية، وظهور عدد من الجوائز الأدبية المجزية، مما جعل الرواية هي السلعة الأكثر انتشارا في عالم النشر. ولقد أدي تضافر هذه العوامل إلي عدم الاعتراف بالكتابة الجديدة،ربما بسبب أنها تكشف تواضع مستوي الإنتاج الصادر عن مؤسسات حكومية أو لأنها لا تخضع لتجنب الموضوعات المحظورة، وتناول التابوهات المعروفة، مما تخضع له إصدارات الجهات الحكومية. وربما نجحت بعض الكتابات الرائجة في كسر تابو الجنس، لكنها فعلت ذلك بطرق فجة تُرَوّج الإثارة بهدف زيادة المبيعات بدون مراعاة معايير فنية. الكتابات الجديدة لا تخشي التابوهات،ولا تستخدمها بدافع الإثارة، بل تتحداها، فيما يحدد كتابها موقعهم في الهامش، مستفيدين بما يتيحه هذا الموقع من موقف متمرد ومستقل ونقدي. وينوه البستاني أنه وجد الكتابة الجديدة خارج مجال الرواية بصورة أساسية مثل القصة القصيرة والشعر، ولا يقتصر الأمر علي واقعنا العربي فحسب، بل يظهر ذلك في الواقع العالمي أيضا. ويعطي أمثلة من أعمال بورخس، وإيتالو كالفينو،وستيفن لندكفست، وشارليز بوكوفسكي، ومارجريت آتوود، والقصة الومضة لدي ليديا ديفيز. ويفرد الكاتب جانبا من المقال للحديث عن إشكالية التجريب، ففي الأدب - وكذلك في الفنون كلها - يمثل التجريب طريق التقدم نحو أشكال جديدة. لكن ما هو جديد الآن يصبح مع مرور الوقت بالضرورة جزءا من الكلاسيكي. فالأشكال الجديدة والتيمات الجديدة تستنفد إمكاناتها مع تغير الزمن، والمجتمع، والتاريخ، وأبنية القوة، وتغير اللغة أيضا. لذلك لا بد من بروز أشكال مختلفة في التعبير تستجيب لهذه التحديات والتحولات الجديدة. يستعرض الكاتب لقارئه الأجنبي محطات تاريخية مر بها العالم العربي خلال 150 سنة، بدءا من الحكم العثماني، مرورا بنكبة 1948، ونكسة 1967، وانتهاء بثورات الربيع العربي القريبة، وذلك في موازاة التحول السريع الذي حدث في مجتمعات عربية كانت شبه مكتفية ذاتيا،حيث كان يقوم بين قطاعاتها الريفية أو البدوية نوع من الاعتماد المشترك،قبل تحولها إلي مجتمعات معتمدة كليا علي الخارج، تسودها كيانات سيئة التنظيم لتكوينات شبه حضرية في عالم تجتاحه التكنولوجيا المتقدمة،والنزعة الاستهلاكية الطاغية. إن البحث عن معني وسط جائحة التغيير السريع، والتصدي للمؤسسات المقيدة للحرية، هو "الجديد" في سياق الكتابة العربية المعاصرة، وهي السمات التي لا نجدها في أشكال الكتابة التجارية و المؤسساتية. وفي عنوان فرعي نصه "الرواد: الكتابة "الجديدة" كاستمرارية" يعدد الكاتب أسماء رواد الكتابة الجديدة من وجهة نظره، مع الاعتراف أن الأسماء المذكورة لا تقدم صورة شاملة للمشهد الأدبي، لكنه يُقْدِم علي هذه المغامرة بهدف تسليط بعض الضوء علي إنجاز أدبي طالما عاني من غياب تقديمه إلي ساحة الأدب العالمي، كما عاني من الإهمال أكثر من معاناة الضياع في الترجمة. ويذكر الكاتب ضمن هذه الأسماء زكريا تامر، ومحمد زفزاف، ومحمد خضير، وحيدر حيدر، ومحمد المخزنجي. وسواء اتفقنا علي هذه الأسماء أو تلمسنا غياب غيرهم ممن تركوا بصمة قوية لكتابة مختلفة، إلا أن كاتب المقال يري أن هؤلاء الكتاب قدموا حساسيات جديدة، وأساليب جديدة، وتقنيات جديدة - وإلي حد ما-لغة جديدة في الأدب. فمن الرؤية الديستوبية القاتمة إلي النزوع التأملي رسم هؤلاء الكتاب ملامح فنية جديدة يعمل كتاب اليوم علي دفعها إلي الأمام. إن الروائي العظيم نجيب محفوظ نفسه، الذي لم يختم حياته الأدبية برواية، وإنما بست مجموعات قصصية قصيرة، قد قارب أشكالا جديدة في مجموعته البارعة التي تنتمي إلي القصة الومضة، وهي المجموعة التي نسبت خطأ في الغرب إلي غير الأدب القصصي بسبب عنوانها " أصداء السيرة الذاتية". ويختم الكاتب مقاله بقوله إنه يفسر مفهوم " الجِدة" أو الجديد بوصفه تعبيرا عن اهتمام الكاتب بالأشكال الفنية المبتكرة، وانخراطه في الشؤون الراهنة. فالحاضر بالنسبة للكاتب الجديد هو النقطة المركزة التي يلتقي فيها الماضي بالمستقبل حيث يحدث تصادم أو ارتطام حساسيات مختلفة في بقعة غليان، هي العالم العربي اليوم. ويري أن وجوده ككاتب في هذه اللحظة من الزمن مجرد صدفة، لكنه قرر أن يأخذ علي عاتقه تحدي تناول هذه اللحظة من جوانب مختلفة، ومن منظورات مختلفة. إن التعامل مع صدفة الوجود في هذه النقطة الصاخبة الحافلة بالغليان في الحياة العربية ليس يسيرا، فهي نقطة محملة بالآمال والأحلام المبددة لأجيال سابقة، وبالتحولات المتسارعة، وبالحاجة إلي مساءلة الماضي/ الحاضر الراكد، وتأمل انتقال ما إلي الحاضر/المستقبل، هذا ما يسميه البستاني منطلق " الكتابة الجديدة". وأخيرا أود أن أقول إننا هنا أمام وجهة نظر تتشاركها قطاعات واسعة من الكتاب والنقاد والقراء علي امتداد الساحة العربية، نجدها خصوصا لدي الكتاب الشباب الذين تمردوا علي طرق الكتابة ذات المواصفات المألوفة الجاهزة، لأنها لا تعبر عن رؤيتهم للعالم الذي يعيشونه هنا والآن، لذلك ابتكروا أسئلتهم، وتقنياتهم، وجموحهم العجائبي،وأجوائهم الكابوسية الغامضة،وشفراتهم اللغوية الخاصة، الموهوب منهم اختار بعد بحث وتأمل واستيعاب للمنجز السابق، ورفضه كليا أو جزئيا بوعي، لكن موهبته تدفعه أيضا لتقديم كتابة جديدة لها منطقها الرؤيوي والجمالي الخاص، الذي يمكن للقارئ المتأمل أن يصل إليه، دون الغرق في الغموض. أما المقلد الذي يمتطي الموجة الجديدة بدافع الاستسهال، وافتعال الغموض المصطنع المستغلق أو طلب الشهرة والرواج بجرأة فضائحية مبتذلة،فسيلفظه بحر الكتابة أو سيدخل المتاهة دون رجوع.