أنجز القائمون علي مجلة الثقافة الجديدة جهدا ملحوظا في العدد الذي صدر في شهر أغسطس الماضي، فتناولوا الرواية المصرية- وخاصة ما يُطلق عليه "الكتابة الجديدة"- من جوانب ورؤي مختلفة. ليس من السهل مطلقا تناول نوع أدبي بأكمله، ويبدو الملف علي وعي بذلك فترك الحرية الكاملة للكتاب في تناول الرواية من الزاوية التي تروق لهم. وبالرغم من هذه الصعوبة التي ترجع إلي العمومية وعدم تحديد الحقبة الزمنية، إلا أن العدد الكبير من الأعمال التي تناولتها مقالات العدد جاء كاشفا عن ثراء في الإنتاج الروائي ودالا علي استحالة المتابعة لكل عمل يصدر، مما يؤكد علي ضرورة تحديد تيارات داخل هذه الكتابة، حيث لن يفضي النقد التطبيقي الذي يتناول كل عمل علي حدة إلي أية مؤشرات قادرة علي تفسير الخريطة الأدبية. كما أن تناول الأعمال بشكل منفرد عبر قراءة مفصلة لا يصب كثيرا في مجري التاريخ الأدبي للنوع، فكل عمل روائي يسعي إلي "إقامة سرديات/أو مجتمعات موازية" كما يقول د.جمال العسكري في المدخل للعدد. ومن مجموع هذه المجتمعات المتخيلة- علي غرار ما طرحه بيندكت أندرسون- يعمل النص علي تفسير وتأويل الواقع المادي المُعاش، إذ أن هذه الرؤي هي تعبير الذات عن العالم الذي تعيش فيه. وبالرغم من أن شريف الجيار أراد تناول رواية "فاصل للدهشة" لمحمد الفخراني إلا أن الإطار النظري والرؤية التي انطلق منها للتحليل تؤكد علي وجود تيار يقتحم- كتابة- عوالم المهمشين، "وانتقل بها من هامش الواقع إلي متن النص السردي، ومركزيته"، ولكن الكتابة الجديدة استفادت من "تداخل الأنواع الأدبية في جانب، وتآزر الفنون من جانب آخر". وهو ما تؤكد عليه د. أماني فؤاد فتقول "الكتابة الجديدة تنحو إلي تجاوز القديم، ابتكار تقنيات أكثر تركيبا وتعقيدا كما الحياة، الحياة التي لا تفسر- إن استطعنا- إلا وفق علاقاتها المتداخلة والمتجاورة مع تناقضاتها، ولا نهائيتها، التي لا تحمل يقينا أو انحيازا لأيديولوجية واحدة منغلقة". في رؤيتها للكتابة الجديدة تري أماني فؤاد أن التقنيات التي تم توظيفها وتطويعها لخدمة النص هي المؤشر علي انتهاج مذهب "الحداثة العليا"، وهو المصطلح الذي يُطلق علي الحداثة الأوروبية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي (جويس واليوت وفيرجينيا وولف)، ولربما ينبغي هنا أن نتساءل عن الفجوة الزمنية الحادثة في ارتحال الرؤي، أو ارتحال النظرية- بتعبير ادوارد سعيد. لكن الأكيد أن هذه النزعة الحداثية سمحت بثراء التقنيات وخاصة تقنية- أو شكل- الزمن، وهي تقنية "تحتمل غواية التجريب ونزقه، اللعب الحر الذي تتسع الحركة فيه...". وبالمثل يتناول د. عايدي علي جمعة مسألة تعدد أشكال الراوي في الرواية الجديدة، وهي أشكال تؤثر في السرد والشخوص بما يبني عالم مواز، تصفه أماني فؤاد أنه "يبتعد مسافة عن المستقر، يبتكر رؤي تفكك الواقع وتعيد تفسيره وفق منظور أكثر تمردا، تتوافق مع انهيار حكايات العالم وأيديولوجياته". تتفق إذا هذه المقالات- علي تنوع مداخلها- أن هناك عالما موازيا يتشكل وينسج مفرداته من تداخل الأدب مع الفنون بالإضافة إلي التمرد الكامل علي البني المألوفة، وأول درجة في الألفة هي توظيف الزمن بالشكل الخطي، وأعلي تمرد علي الراوي العليم كان التعددية الصوتية مثلما حدث في "ميرامار". وإذا كانت عزة رشاد قد تناولت مسألة الاغتراب من الناحية الفلسفية كما ظهرت في الأعمال الأولي لكتاب شباب، فإنه من باب أولي أن نتأمل قليلا في الاغتراب الذي يشعر به القارئ أحيانا تجاه الكثير من الكتابات الجديدة، تلك الكتابات التي تلعب بالزمن وبالأصوات، تتأرجح في السرد علي حدود اليقظة والحلم وأحيانا ما تنزلق إلي الفانتازيا السحرية أو الكابوسية، ويحاول القارئ جاهدا أن يمسك بأطراف "الحدوتة" التي ألفها فلا يجدها، وهو ما أسميه اغتراب القراءة. ولذلك يجيء مقال د. أحمد الصغير عن "حضور المتلقي في إنتاج الرواية الجديدة" في غاية الأهمية من ناحية العودة لنظرية التلقي. فيعيد تذكيرنا بكتاب الناقد والكاتب الايطالي امبرتو ايكو "القارئ في الحكاية"، الذي يؤكد علي دور القارئ في تفعيل النص. أسس أحمد الصغير مقاله علي فكرة أن الكتابة الجديدة اعتبرت القارئ شريكا أساسيا في عملية بناء النص وذلك خلافا لما قدمته الكتابة في بداية القرن العشرين حيث كان القارئ مجرد مستهلكا للنص، وفي تفنيده للفكرة استعان بآراء عز الدين إسماعيل، ريفاتير، أيزر(وهو الذي استعان به الراحل نصر أبو زيد في حل إشكاليات التأويل)، وتودوروف، وجدامر. تحتاج نظرية التلقي إلي إعادة قراءة خاصة فيما يتعلق بشكل وتقنيات وتوجهات الكتابة الجديدة، لكن هذه النظرية لم تأخذ مطلقا السوق في حسبانها كعامل هام في القرن الحادي والعشرين يسيطر علي مسألة أعلي المبيعات وينفق الكثير علي الدعاية ويتبني الربح والخسارة كأحد أهم مؤشرات النجاح، معتمدا في ذلك علي القارئ العادي، الكسول، العابر، القارئ الذي يضغط علي أي زر لتقدم له شبكة الانترنت كل المعلومات والتفسيرات المعلبة التي أنجزها شخص آخر. هل تلبي الكتابة الجديدة احتياجات قارئ "السوق"؟ وإذا كانت الإجابة بنعم فما هي مواصفات هذا القارئ؟ تبدو المفارقة أن هذا النص الجديد الذي لا يُلبي دائما توقعات القارئ يحمل في ثناياه إمكانية قراءة التحولات الاجتماعية للمجتمع المصري، كما أوضح وائل النجمي في مقاله. بالتأكيد تعبر الرؤي الجديدة واللغة المقطعة المتشرذمة، والبنية المقلوبة رأسا علي عقب، والإغراق في الإبهام وتكثيف التجريب والإدانة المستمرة للمدينة (بالرغم من غياب رواية القرية كما يؤكد محمد إبراهيم طه في مقاله)، وعدم الفصل بين السياسي والشخصي، تعبر كل هذه السمات عن تحولات اجتماعية جذرية، وهو ما أولي له الناقد الايطالي فرانكو موريتي أهمية كبري فقام بتحليل الكيفية التي تتطور بها الأنواع الأدبية طبقا للظواهر والتطورات الاجتماعية. فتحت مجلة الثقافة الجديدة ملفا سيبقي مفتوحا لفترة طويلة، فهو ملف لا بداية له ولا نهاية، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار التداخل الشديد بين مصطلح الكتابة/الرواية الجديدة والجيل الجديد. وهو ما يحسمه جزئيا العرض الذي قدمه منتصر القفاش لكتاب د. مجدي توفيق "الذاكرة الجديدة: مفهوم الذاكرة في روايات معاصرة" والذي صدر عام 2004 لكنه لا يزال صالحا من ناحية الإطار النظري لتناول شكل الرواية في اللحظة الحاضرة. فهو يري الروايات في "تيارات أدبية" مما يبعده عن تناول مصطلح "الأجيال"، إذ أن المجايلة تضع كافة الروايات في سلة واحدة. ولكن علي الجانب الآخر، هناك إشكالية تتعلق بالمجايلة من ناحية تأثير أحداث كبيرة (بالرغم من انهيار الحكايات الكبيرة) تشكل مفردات الوعي وتؤثر في رؤيته للعالم. يبدو الأمر أكثر تعقيدا من ملف واحد، لأن السؤال المؤجل دائما لم يُطرح بعد: هل اتخذ الخطاب النقدي لنفسه مسارا جديدا أم أنه باق علي العهد فيجمع المتشرذم والمقطع في سردية واحدة؟