أراد أن يُصبِح مُبيِّض مِحارة، لكن القدر كان له مُخطط آخر، فألقى به فى طريقٍ أكثر رحابة، يمكن أن يتشكَّل داخله كيفما يشاء، وينخرط فى عوالم المئات من المهن. وقع فى هوى الإبداع. ولأن الحياة لا تُعطى كل شيء، فسرعان ما أيقظته من إغماءة السقوط لتخبره بأن المهنة التى عشقها لا تصلح للمعيشة، وعليه أن يجد سبيلا آخر. فاضطر «أحمد عطا الله» إلى العيش منقسما بين شخصيتين، إحداهما تعمل لشهور لتأمين متطلبات الحياة، ولتوفير ما يكفى حتى تتمكن الشخصية الأخرى من الظهور ومتابعة مشروعها فى الكتابة لعدد من الشهور الأخرى. وُلِد عطا الله فى قرية أبو دياب شرق بمحافظة قنا عام 1980، داخل غرفة مميزة لا مثيل لها فى البلدة، جدرانها مزينة بلوحات الفن التشكيلي، وأركانها تحتضن تسجيلات أغانى أم كلثوم، وصحفا، وكاميرا فوتوغرافية. كانت غرفة والده، التى استهل منها علاقته بالفنون. فى المرحلة الابتدائية بدأ العزف على آلة الأكورديون، لكنه أنهى علاقته بها على مشارف المرحلة الإعدادية، حينما توفى والده فى ريعان شبابه عن عمر 31 عاما، ولم يكن أحمد عطا الله قد تجاوز سن العاشرة سوى بشهور قليلة. لا يعلم السبب الحقيقى وراء قراره، لكنه يرجح واحدًا بقوله «نحن مجتمعات نعشق الحزن ونقدِّسه، منذ عصر الفراعنة، نجيد الاحتفاء بالحزن، وربما لذلك أخذت هذا الموقف». بدأ العمل فى مجال المعمار مبكرًا، حيث كان يذهب مع أعمامه إلى العريش فى الأجازات، وحينها كان امتلاك سيارة «نصف نقل» هو حلم حياته، إلى أن ألحقه مكتب التنسيق بكلية الآداب جامعة سوهاج، وهناك طلب من موظف شئون الطلبة أن يختار له قسمًا يمكنه التخرج فيه بسهولة، فالتخصصات بالنسبة له سواء، ولم تكن رغباته قد وُلِدت بعد. منذ تلك اللحظة أخذت حياته تغيِّر مسارها، وتشهد مراحل مختلفة لم تكن فى الحسبان، بدءًا من انتقاله إلى جامعة قنا وحتى وصوله للسنة الأخيرة، التى أصدر خلالها ديوانه الأول فى شعر العامية «دم العروسة»، ثم قدومه إلى القاهرة للعمل صحفيا فى «صوت الأمة» ومن بعدها «عين»، وعدد آخر من الصحف، إلى أن التحق بمجلة الإذاعة والتليفزيون. فى الفترات الأولى لأحمد عطا الله بالقاهرة أصدر كتابًا بعنوان «صعيدى فى الجنة و3 فى النار» يتضمن عددا من المقالات الساخرة، وديوانه الثانى «4 بوسات على الرصيف»، لكنهما لم يُقرءا جيدا. ثم كتاب النقد الاجتماعى «الحتة بتاعتي» فى طبعتين. وفى 2011 صدر «الناس دول.. حكايات من لحم ودم»، الذى يمكن أن نعتبره البداية الحقيقية لمشروعه الإبداعي. ومن بعده صدر ديوانه «بتضحك لما أكون بعيد» ثم كتاب «مريم.. مع خالص حبى واعتقادي». وأخيرا؛ الجزء الأول من رواية «غَرّبْ مَالْ.. ما لم يحكه على جرمون فى السيرة الهلالية»، التى بدأ من عندها حوارنا معه. لنبدأ من الاسم؛ كيف اخترت «غَرّبْ مَالْ» عنوانا لروايتك؟ اخترته من غنوة صعيدية لفن الكف اسمها «القمر غَرّبْ مَالْ»، ليس لها علاقة بالسيرة. هو اسم غريب لكنى وجدته مناسبا، فكل الناس تغرِّب وكلهم يميلون ويعودون كما كانوا. ورغم أنه قابل اعتراضا من الجميع فى دار النشر، لصعوبته وعدم فهمه، لكنى وجدت فى ذلك نقطة قوة لا ضعف، فمن يقرأ سيفهم، وهذا هو المطلوب. والفكرة. لماذا اخترت على جرمون من بين رواة السيرة المتعددين؟ لأنه البطل الذى اعتدت سماعه منذ صغري، رغم أنى لم أكن أفهمه حينها. وجدت أشرطته فى سيارتى قبل سنوات قليلة فعدت لسماعه، فأعجبني، وصرت أبحث عن بقية القصص. ذات مرة حكيت لأحد أصدقائى قصة منهم أعجبته كثيرا، وأشار على أن أكتبه فى مسلسل، فأعددت 10 حلقات، مختلفة عما يقوله جرمون. السيرة الهلالية لها رواة كثيرون بالفعل، أشهرهم جابر أبو حسين التى سجلها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، لكنهم حفظة، بينما جرمون عمل على التغريبة فقط، منذ بداية رحلة بنى هلال إلى تونس، وبدأ يختلق أبطالا فى الرحلة لم يكونوا موجودين فى السيرة الأصلية، هذا ما أعجبنى فيه. ماذا أردت أن تضيف؟ عندما بدأت العمل على تلك السيرة وجدت لدى جرمون مشاكل أيضا، فحذفت بعض القصص، وأضفت بعض الأشياء لأملأ الفراغات الدرامية. أردت أن أقدم عملا صافيا مليئا بالمشاعر الإنسانية. ليس أحداث مجردة كما يحكيها الرواة، وإنما إضفاء أبعاد نفسية للشخصيات لتصير من لحم ودم. قُلت طالما أن جرمون أعطى لنفسه الحق فى إضافة شخصيات، فلأستخدم نفس الحق بأن أخترع شخصيات وأحذف أخرى. لكنك وصفت جرمون فى الرواية بالكاذب، رغم أنه لا يكتب تاريخا. بهذا المنطق فأنت أيضا كاذب، أليس كذلك؟ بالطبع؛ وذكرت أن ما فعلته هو كذب على كذب، مشيرا فى ذلك إلى نظرية أوسكار وايلد، بأنه كلما كذبت ببراعة شديدة فأنت متمكن من أدواتك. عندما وجدت تلك النظرية التى استند عليها تحررت من القيود ووجدت مبتغاي، ووجدتها متحققة بشكل شخصى عند على جرمون. الحديث عن أوسكار وايلد ينقلنا لفكرة أخرى هى المجرم والبطل، فأحيانا يمثلان وجهين لعملة واحدة، من تراه مجرما يراه الآخر بطلا والعكس، وهذا متحقق فى السيرة واختلاف النظرة لأبو زيد الهلالى والزناتى خليفة بين مصر وتونس. هذه الفكرة من الأسباب التى أحببتنى فى السيرة، الأبعاد التاريخية وما يوازيها فى الواقع من فكرة تكوين القرية، وكيف سيطرت القبائل العربية وكان لها زمام الحكم والسيطرة فى القرى المصرية، هذا ما حدث فى السيرة وما حدث فى الواقع، وكأن التاريخ يتكرر. السير الشعبية تخضع للشعوب التى تتلقاها وفكرهم ومشاعرهم وتاريخهم، لذا كان طبيعيا أن نأخذ السيرة فى مصر إلى هذا الاتجاه، وتكون فى سوريا مختلفة، وفى بغداد مختلفة، وهكذا. أنا اهتمامى كان بالإنسان فقط، وما لديه من مبررات شخصية ونفسية ودرامية وإنسانية، فكونه مجرما لا ينفى أنه كإنسان له وجوه أخري، وقد قال المولى عز وجل «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها»، هذه طبيعة بشرية. ماذا حدث لتغير خطتك وتعزف عن نشر معالجة السيرة بهذا الشكل؟ أرسلت المعالجة لأربع دور نشر، فى لبنان ومصر، قبلها اثنتان، منهما دار العين فى مصر، فمضيت معها. وأثناء حديثى مع أحد الأصدقاء قال لى «ما الجديد الذى تقدمه؟ فالسيرة موجودة». شعرت حينها أن شخصا سكب دلوا من الماء المثلج فوق رأسي، فتحدثت مع دار النشر للتأجيل، وقررت أن أحوِّله إلى شكل جديد فى ثلاثة أجزاء. قابلتنى صعوبة فى الأمر، حيث تعاملت مع نفسى باعتبارى مفكرا ومبدعا والتزمت بيتى حتى انتهي، أعمل فقط فى الأشياء البسيطة، وأبيع أفكار برامج وهكذا، لم أكن ملتحما فى عمل حقيقى لمدة عام. لكنى اكتشفت أنه بهذا الشكل لن أنتهى أبدا، لأنى التقطت خيطا واسعا وطويلا، لابد أن أكون متحكما فيه. فقررت فى لحظة أن العمل لابد أن يكون جزءين بدلا من ثلاثة، وأن أنتهى من الأول لنشره، لأن الحالة مزعجة جدا بقدر متعتها. وأعتقد أننى قدمت السيرة بشكل لم يُقدَّم من قبل، فقد راجعت ما كُتِب ومتأكد تماما مما أقول. وكيف وجدت لقريتك مكانا فى الرواية؟ السير الشعبية تكون موجودة بداخلنا بشكل أو بآخر، وخاصة الأساطير، لذلك عندما أسمع على جرمون، رغم أنه يحكى سيرة فى زمن بعيد وأماكن بعيدة، إلا أننى أشعر أنه يصف الواقع الذى عايشته فى الصعيد، ولأننى سمعتها منذ صغرى فهى فى الوجدان، وأنا أذهب لما أعرفه. فكلمة «غَرّبْ مَالْ» على الغلاف خطي، اتفقت مع مصممة الغلاف غادة فاروق على استخدامه، أما الهلال والنجمة فهى من رسومات ابنتى سلمى على أحد حوائط المنزل، صوّرته وأرسلته للمصممة، تلك أدواتي، أنا وابنتى، أحب الأشياء القريبة منى. لذا اخترت أن أبدأ من ذاتى حتى أصل للمجتمع وأحداثه وتطورها، واستخدمت خطابات عائلتى كتوثيق لتلك الفترة فى تلك المنطقة، فليس ضروريا أن أسرد الأحداث نصيا، ولكن الأحداث تظهر من خلال الوثائق. ربما هذا ما جعل قصة القرية تبدو كأنها مقتطفات من الذاكرة وأقرب للخواطر، ولم تتسم بالتسلسل ووحدة التكوين التى اتسمت بها السيرة الهلالية. تبدو غير متصلة الآن، لكن اتصالها سيظهر فى النهاية مع الجزء الثاني، لأن كل جزئية تشكل لوحة، وامتدادها الدرامى مستمر. الجزء الأول يظهر شخصياتهم فى 1994، ستتضح ملامحهم فيما بعد مع الأحداث، حتى نصل لعام 2018. استخدمت أسلوبا يبدو سينمائيا أكثر منه روائيا، خاصة فى ترتيب الأحداث والبدء بالنهاية. هل تطمح إلى تحويل الرواية لفيلم سينمائى؟ هذا جزء من التقنية التى أكتب بها، أبحث عن النقطة الساخنة. كما أننى مهتم بالسينما وأحبها، وحصلت على عدد من دورات السيناريو. لا أعلم إن كان بالإمكان تحويله لعمل سينمائي، لكن أى شخص يطمح لذلك. فى النهاية أنا كائن قدري، لا أخطط لشيء، أسير هكذا، ودائما اختيار الله أفضل. وقد شاهدت عملا يشبه روايتى بالفعل، فالأقرب من تقنيتها هو فيلم «الكنز»، وحين عُرِض كنت قد انتهيت من كتابي، وحرصت على عدم مشاهدته حتى تُطبَع الرواية، محاولا الحفاظ على قناعتى بأن هذه التقنية جديدة وخاصة بي، ليست تركيبة الزمن فقط وإنما أيضا تركيبة اللوحات بهذا الشكل، والفروق بين اللغة، فالسيرة تفاصيلها بلغتها وعصرها مختلفة عن لغة الواقع. حسب التصنيف المكتوب على الغلاف؛ تعد تلك روايتك الأولي، رغم أن «مريم.. مع خالص حبى واعتقادي» يمكن اعتبارها رواية أيضا، وإن كانت مأخوذة من الواقع. على أى أساس تضع تصنيفا لأعمالك؟ أنا أحب الكتابة كفن، بأشكالها المختلفة، بعدما أنتهى من العمل اختار له التصنيف الذى أراه مناسبا، ودائما أتعلم من تجاربى الشخصية. فمن كتبى التى أعتز بها جدا وأعتقد أنه ظُلِم بسبب إلغاء معرض الكتاب حين صدوره فى 2011 «الناس دول»، وهو خلاصة ثمانى سنوات عمل فى الصحافة، عرضته على دار نشر كبيرة فأعجبهم، لكنهم لم يتمكنوا من تصنيفه، حينها أخبرتهم أنه «حكايات من لحم ودم»، فأرادوا أن استكمل فصلا واحدا منه ليطبعوه كرواية، لكنى أصررت على تركيبته بهذا الشكل، لم يقتنعوا، بينما تحمست دار العين له وطبعته، حاليا نحاول إصدار طبعة ثانية منه بشكل أفضل، وإضافة فصل جديد عليه. حينما شرعت فى كتابة «مريم» كانت تشغلنى الحوادث المتعلقة بقصص الزواج بين المسيحيين والمسلمين، فأخذت أعمل عليها وأجمع معلومات حتى وجدت بطلة العمل وشعرت أنه يمكننى تلخيص جميع المقابلات فى قصة واحدة، لم أحبذ جعلها رواية، لأن الرواية من وجهة نظرى كانت ستفقدها قوتها ومصداقيتها، فالقوة أنها قصة حقيقية واقعية، وهذا التصنيف موجود فى العالم كثيرا، لم يكن موجودا فى مصر، سوى مؤخرا بشكل بسيط. أما «غَرّبْ مَالْ» فهى رواية حداثية مكتملة الأركان، كل جزء رواية منفصلة، والجزءان معا رواية. كيف لمست رد الفعل تجاه الرواية حتى الآن؟ أعتقد أن التجربة لاقت الإعجاب واستمتع بها القراء. كما وجدت شغفا لدى أهل بلدتى ولدى من أعرفهم فى العريش ليعرفوا ماذا كتبت عنهم، وهذا ما جعلنى أفرح، وأشعر بقيمة ما فعلته. متى ستنتهى من الجزء الثانى؟ حتى هذه اللحظة أنا متوقف، لكى أستطيع مواصلة الحياة. سأكمل الجزء الثانى عندما أشعر بقدرتى علي فعل ذلك وإمكانية التفرغ لتنفيذه، لكن الرؤية كلها واضحة وأجزاء كبيرة منتهية.