لم ينشغل الدكتور علي المنوفي، الذي رحل عن عالمنا يوم 26 إبريل عن عمر 69 عامًا، بأن يحقق شهرة في الأوساط الثقافية العربية، ولا انشغل كذلك بأي احتفاء من الجهات الثقافية لجهوده الكبيرة في نقل الثقافة الإسبانية إلي العربية وإعادة التعريف بها علي أرضية جديدة. لقد انشغل الأكاديمي والمترجم الكبير بما هو أعمق والأكثر بقاءً: ترجمة الأعمال ذات الأثر القوي في العلاقة بين الثقافتين ومد الجسور الثقافية الحقيقية ليست، فحسب، بترجمة الأدب، بل الأهم: ترجمة الأعمال الفكرية والتاريخية (ومن خلالها طرح أسئلة الثقافة)، وخاصة الدراسات الجديدة عن فترة من أشد الفترات ثراءً في التاريخ العربي والإسباني: تاريخ الأندلس. وهو المجال الذي يعتبر منوفي أحد رواده، بعد أن انحسر الضوء عن هذه الفترة في العالم العربي، ولم تعد خاضعة لأي دراسات، ولا حتي أي سعي للحصول علي مخطوطات تلك الفترة وقراءتها من جديد علي ضوء المستجدات الحديثة، سواء الأثرية من معمار، أو البحثية من مخطوطات، أو النقدية باستخدام نظريات النقد والدراسات الثقافية الحديثة لقراءة ثمانية قرون هي عمر الإسلام المادي علي الأرض الغربية، وخلق هوية ثالثة هي الهوية الأندلسية التي كانت بوتقة تجمع ثقافتين. لقد طال المكتبة العربية فراغ كبير طوال قرون عن هذه الحقبة، كأن اتفاقًا ضمنيًا حدث بسقوط غرناطة ثم طرد الموريسكيين، ألا نقترب من هذه الفترة، فلم تظهر كتب عربية حقيقية إلا نادرًا، أثناء ذلك كان الإسبان يعملون بحثيًا وبكل جدية علي هذا التاريخ المشترك، ويتوصلون، عامًا وراء عام، لنتائج لم نكن ندري عنها شيئًا، وهي كتب ذات أهمية قصوي علي المستوي الأكاديمي والبحثي كانت المكتبة العربية في حاجة إليها، ليس فقط لفهم ثمانية قرون من التاريخ العربي، بل لأن بقراءتها يمكن الاقتراب من جذور أزمة الثقافة العربية الكبري. لقد أدرك المنوفي هذه المعضلة منذ سنوات طويلة، وكان يري أنه لفهم الحدث الحالي يجب أن نعود إلي فترات سابقة، فترات قرأها آخرون، هم الإسبان أنفسهم، ليفهموا جزءًا رئيسيًا في الهوية الإسبانية. فكانت ترجمة هذه النوعية من الكتب، علي صعوبتها، إحدي الركائز في مشروعه الترجمي الذي امتد لأكثر من أربعين عامًا. أثناء ذلك، المتأمل لاختيارات المنوفي يدرك أنه لم يختر المفكرين الإسبان الذين انحازوا للثقافة الإسلامية ورأوا فيها أحد أسباب النهضة الأوروبية، فحسب، إنما ترجم كتبًا متضاربة في الآراء رغم أن مؤلفيها استندوا علي ذات المصادر التاريخية، وكان في هذه الاختيارات عقلية تؤمن بالديمقراطية العلمية بقدر ما تؤمن بأن هذا التنوع هو ما يمكن أن يهدي الباحثين في الثقافة العربية طرقًا جديدة وأفقًا مفتوحًا لقراءة تاريخهم في أرض غريبة، بعيدًا عن أي تحيزات أيديولوجية، وبعيدًا عن أوهام »عظمة» الثقافة الإسلامية وفضلها علي العالم، لكن بعيدًا أيضًا، بل وفي مواجهة، الأصوات التي تقلل من شأن ثقافة فتح علماؤها، أمثال ابن رشد وابن طفيل وابن ماجة وابن سينا، أفقًا رحبًا في القرون الوسطي وكانوا جسورًا حقيقية بين الثقافات وتبادل العلوم. علي هذه الخلفية، يمكن قراءة »إسبانيا في تاريخها: المسيحيون والمسلمون واليهود»، حيث انحاز أميركو كاسترو، أحد أبرز المستعربين الإسبان، وأحد أساتذة المفكر والروائي خوان جويتيسولو، للتعايش في أرض الفردوس في ظل الحكم الإسلامي، كما التفت لانفتاح الحياة وتطورها وقدرة المسلمين علي قبول المختلفين معهم دينيًا داخل نفس الأرض، وهو الصوت الذي فتح المجال لأصوات أخري تالية تبنت عدم التعالي علي الماضي الإسلامي لإسبانيا وطرح سؤال الهوية الإسبانية علي أساس تاريخي، صوت في مواجهة أصوات أخري يمينية كانت تسعي لتقشير الثقافة الإسلامية من الجلد الكاثوليكي وتجاوز ثمانية قرون، هي عظم الثقافة الإسبانية، لمنح الفضل في تكوين إسبانيا الحالية لعصر النهضة الأوروبي، رغم ما في ذلك من مخالفات لما تقره كتب التاريخ. في مقابل هذا الكتاب، وفي محاولة لتقديم وجهتي نظر مختلفتين، ترجم المنوفي »إسبانيا بشكل جلي» للمفكر والمؤرخ خوليان مارياس، أحد المفكرين الذين حاولوا رصد تجاوزات الملوك المسلمين والاضطراب السياسي والاجتماعي في خلال فترة الحكم الإسلامي، ليصل إلي خلاصة مفادها الآثار الجانبية لوجود المسلمين في الثقافة الغربية، والصراعات بين الممالك المسلمة والكاثوليكية، ما يعني سلبيات هذا الوجود كونه أحد أسباب تأخر دخول إسبانيا لعصر النهضة. بهذين الكتابين، بترجمة المنوفي، بما فيهما من مصادر تاريخية هامة وبرهنات علي وجهات النظر اتبعت منهجية البحث العلمي، من دون تسرع ولا رغبة في الانحياز لأيديولوجيا معينة، أمكن للباحث والقارئ العربي أن يقف علي تفاصيل تاريخية تساهم في تكوين وجهة نظر عن فترة ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية لكنها في نفس الوقت اختارت لنفسها الانهيار عبر سلسلة من الأخطاء السياسية التي أودت بحياة الجميع وخلفت وراءها حسرات لا تحصي. وبهذين الكتابين، ساهم المنوفي، كمترجم قدير وواعٍ وملتزم، في تسليط الضوء علي خلل أصاب الثقافة العربية، كأن في الكتابين، علي اختلافهما، مرايا للذات. من هنا، وعبر الترجمات، كان علي المنوفي يطرح أسئلته الخاصة التي تتلامس مع أسئلة المؤلفين أنفسهم. ومن هنا كانت ميزته كمترجم وأكاديمي، إذ لم يكتف بأن يبني جسرًا بين الثقافة الإسبانية والعربية، بل طموحه الأشمل كان أن يبني جسرًا بين الثقافة العربية وذاتها بالأساس، أن نري أنفسنا في مرآة الآخر، وأن يعيد التذكير بأصول الحضارة التي انهارت وأسباب انهيارها وتحولها إلي ملوك طوائف، وكأنه يقرأ بالفعل الحاضر العربي. التزام المنوفي كمترجم دفعه، بالإضافة، إلي محاولته لإفادة الثقافة العربية بالكتب الفكرية والفلسفية الإسبانية والإسبانوأمريكية المعاصرة، من هنا كانت خطته التي لم يكتب لها أن تري النور بترجمة ما يخص التحولات الديمقراطية في إسبانيا وأمريكا اللاتينية عقب ثورة يناير. غير أن إحدي هذه الترجمات استطاعت أن تصل للقارئ في فترة حرجة عقب الثورة المصرية، أقصد كتاب »مواطنون في العالم: نحو نظرية للمواطنة» للفيلسوفة الإسبانية أديلا كورتينا، وهو اختيار يعكس مدي إدراك المنوفي لأزمات مجتمعه، وبحثه الدؤوب عن تجارب مماثلة سابقة علينا لتكون لنا مجرد بوصلة نهتدي بها. ولابد أننا نتذكر أن أحد الأسئلة الهامة التي تولدت مع الثورة المصرية كان سؤال المواطنة والتعايش، ما دفعه لقراءة أعمال كورتينا التي كانت، في حقيقة الأمر، بوصلة جديرة بالنظر والاستفادة. هل يجب أن نقول إن أفكار وطموحات المنوفي كانت بصيرة أكثر من المسئولين الثقافيين في مصر في ذلك الحين؟ هل هناك ضرورة لنشير إلي مئات المعوقات التي كانت تواجهه لنشر كتب نحن أولي بأن ننشرها ونفهمها وندرك محتواها؟ وهل هناك ضرورة أن نقول إنه، في مقابل نشر بعض الكتب وتوصيلها للقارئ العربي، اضطر أن يتنازل عن مكافأة المترجم؟ عن مكافأة شهور طويلة من العمل المتواصل لإحساسه بالمسؤولية أمام مجتمعه، مسئولية لم يشعر بها المسئولون ولا دور النشر الخاصة التي رفضت، مرة وراء أخري، اقتراحاته بترجمة أعمال أقل ما يقال عنها إنها عظيمة. أظن أني لست في حاجة إلي إن أقول كل ذلك، لأن هذه الخسائر هي امتداد لخسائر أخري في الثقافة المصرية، خسائر تحققت حين تراجعت الصناعة الثقافية لتنحصر في التجارة الثقافية. لكن يمكن أن أقول إن ستين كتابًا مترجمًا لعلي المنوفي كان يمكن أن يكونوا مئتي كتاب أو أكثر. كان يمكن أن نسمع ما يقوله، أن نبصر ما يبصره، أن نقدّر كل مجهوداته، وأن ننزله منزله الذي يستحق كعالم جليل ومتفانٍ لم يكن يطمح إلا إلي وصول العلم لكل فئات المجتمع، وأن تكون المعرفة حقًا للجميع. بهذه العقلية، التي تسبق المسئولين الثقافيين في مصر بخمسين سنة علي الأقل، تنوع المنتج الترجمي لعلي المنوفي، ما بين »لعبة الحجلة» ل خوليو كورتاثر، والعمارة في الأندلس، وتاريخ إسبانيا الإسلامية، وديوان »هل يمكن للحاسوب أن يكتب قصيدة غزلية» ووصولًا لترجمة رواية »الأرجنتين كان يا ما كان»، يمكن أن نلمح المشروع الضخم والهائل لأحد أهم المترجمين العرب عن الإسبانية، مشروع يضم الأعمال الأدبية المركزية بقدر ما يضم الأعمال الجديدة الطازجة لكُتّاب يصغرونه بربع قرن، مشروع يضم التاريخ والفكر بالتوازي مع الأدب روايةً وشعرًا، من دون أي انحياز إلا للجمال والرؤية، انحياز في عمقه للقارئ العربي حتي لو كان في ظاهره نشر الثقافة الإسبانية في العربية. ولتكتمل الرؤية لمشروع المنوفي الترجمي، نشير إلي كتاب »مرايا مدفونة» للروائي المكسيكي الشهير كارلوس فوينتس، لكن فوينتس هذه المرة ليس روائيًا، بل مؤرخًا ومفككًا لتاريخ أمريكا اللاتينية، ويقدم في كتابه هذا ملخصًا إبداعيًا في إطار تاريخي لكيف تكونت الهوية اللاتينية ووصلت إلي شكلها الحالي. بقراءة فوينتس يمكن فهم المنتج الإبداعي في القارة اللاتينية، كيف يمكن فهم تحولاتها السياسية والاقتصادية والسوسيوثقافية، وهي تحولات تتشابه فيها مع العالم العربي. من هنا كان اختيار المنوفي لكتاب يتماس مع حاضرنا، وقادر علي تناول أزماتنا الثقافية ونبش سؤال الثقافة. هو اختيار، كما فعل المنوفي دائمًا، يمرر من خلاله سؤاله هو ذاته، إذ لا يزال سؤال الهوية العربية السؤال الاول منذ الاستعمار البريطاني والفرنسي لبلدان جنوب المتوسط. رحيل علي المنوفي ليس رحيلًا لمترجم فحسب، بل رحيل لعالم ومفكر وأكاديمي مرموق ومعلم فاضل تربت علي يديه أجيال من الباحثين والمترجمين، وخلّف وراءه مشروعًا فكريًا اختاره بعناية ليكون نقطة نور في نفق مظلم. وخسارته ستبقي ألمًا لمن قرأوه وعرفوه عن قرب، غير أن ألم الخسارة أكبر لمن يعرف عشرات المشروعات المبتورة التي كان يعدها لسنوات أخري مقبلة، وأغلب الظن أنها سترحل برحيله.