ماذا فعلنا بهؤلاء الخبراء الحاملين للإرث الثقافي والفنى والجمالى ؟ عندما أحكم العثماني »سليم الأول» قبضته علي مصر، لم ينهب كنزا أو متحفاً أو شيئا من مظاهر الحضارة التي نزخر بها القاهرة في ذلك الوقت، كان ذكياً بعيد المدي، إذ حمل معه صناع هذه الحضارة من فنانين وحرفيين مهرة، وبنصفهم حيث غرقت إحدي السفن التي أبحرت بالصناع المهرة أقام المظهر الحضاري لعاصمة حكمه في إسطنبول. نتأمل الحال الآن ماذا فعلنا في بلادنا العربية بهذه الصناعات الثقافية التي مازالت تبهر وتدهش العالم، فماذا فعلنا نحن بهؤلاء الخبراء الوطنيين والطاقات البشرية الحاملين للإرث الثقافي والفني والجمالي، الذي هو في طريقه للاندثار؟؟، بينما في دول أخري تقيم وزارات خاصة للحرف وتوفر كل الدعم والرعاية لها، ولنا أن نتخيل أن إجمالي صادرات الصين من الحرف التقليدية يعادل 60 % صادراتها، وأن صادرات فرنسا من الحرف التقليدية تعادل 8 أضعاف صادراتها من السيارات. المحافظة علي التراث الحرفي ومحاولات تطويره وعصرنته، لاستمرار هذه الصناعات الثقافية الحرفية الأصيلة المتوارثة منذ آلاف السنين، وبإمكانها أن تؤدي دورها بأبعادها النفعية والجمالية، من المفترض أن تكون هذه القضية علي قائمة الدول المتحضرة التي تؤمن بإرثها الثقافي والفني . الحرف التراثية هي أحد الأعمدة الرئيسية التي لها ارتباط وثيق بعدة عوامل:الطبيعة والبيئة الجغرافية والاحتياجات الضرورية للحياة، والمعتقدات والقيم والعادات الشعبية، ومرتبطة أيضا بأنماط الحياة اليومية، ومرتبطة باقتصاد الأفراد وبالتالي بالاقتصاد القومي للدول التي تؤمن بقيمة هذه الحرف، وكما أنها مرتبطة بمهارات الإنسان وتنمية قدراته المنسجمة مع هويته وثقافته ومدي استغلاله للخامات البيئية المتوافرة، وهي حرف لها بعدها الاجتماعي حيث تنقل الخبرات عن طريق الاحتكاك اليومي المباشر بين الأسطي الخبير وبين الصبية وغالباً ما يكونون من أبنائه أو أقاربه أو أبناء منطقته أو قريته الراغبين في تعليم الحرفة. إن منتجات الحرف التراثية هي إبداع الشعب الحقيقي الذي يتوارثه الأجيال، تلبية متطلباته: العقائدية والدنيوية، المتمثلة في المعابد والمسلات والمقابر، وفي المساجد والأسبلة والبيوت، من التراث الفني في الخزف والسجاد وأعمال النحاس والزجاج والخوص والجريد والخ ..والتي ميزت العصور الفرعونية والإسلامية، في عهد قريب كانت العمارة الشعبية التي تستخدم الإمكانيات المتاحة من طوب أو حجر أو خشب مزدهرة. السؤال الأهم: هل هذا المصري الذي عمل وأتقن، وكأنه يتعبد ويبتهل إلي الله في كل ما تنتجه يداه من إرث جمالي، مازال باقياً قادراً علي الإمتاع والدهشة، هو ذاته المصري الآن الذي يفضل الاستهلاك والفهلوة عن العمل الجاد الصبور؟؟. الحرف التراثية هي التي تستخدم خامات محلية متوفرة في بيئتها الجغرافية وهي رخيصة الثمن جدا، في أحيان كثيرة بلا ثمن، مثل الطمي، والخوص والجريد والصوف والسمار والحلفا....والخ.. والعنصر الفارق في هذه الحرف هو الفنان الحرفي الصانع، ومدي إيمانه وتدريبه وإلمامه بكل التقنيات والساعي لتطويرها وجعلها إعمالا فنية وجمالية تجمع بين المنفعة والاستمتاع الجمالي، وكانت هذه الحرف هي أهم ما تصدره مصر حتي أول القرن الماضي، وكانت الحرف بمثابة الفنون التشكيلية، التي لم تعرفها مصر إلا في أوائل القرن العشرين علي يد بعض أبناء محمد علي المستنيرين والأوربيين. الفنان عز الدين نجيب أحد المولعين والمناضلين من أجل الحفاظ علي إرث الأجداد، ولم يتوان يوماً أو يكل، مواصلا الجهود من أجل المحافظة ورعاية الحرف، سواء الكتابة أوالمشاركة في المؤتمرات والندوات والمعارض من أجل تذكير المسئولين بأهمية هذه الحرف للإنسان المصري وللدولة باعتبارها أحد مصادر الاقتصاد القومي، وللحفاظ علي هويتها الثقافية .وله محاولات وجهود أثناء عمله الوظيفي أو بعده وقدم بعد ثورة 25 يناير، مشروعاً من أجل إنشاء كيان قومي للحرف يجمع الجهود المتناثرة والموزعة بين الوزارات، ومن خلال إنشاء جمعية أهلية ترعي الحرف والفنون التي أصدرت موسوعة الحرف التراثية في عدة مجلدات في محاولة لتوثيق لهذه الحرف . الحلول والمقترحات التي طرحها ويطرحها عز الدين نجيب ومعه قلة مؤمنة بهذا المشروع القومي .. من خلال ممارستي لأحد الحرف في طفولتي بالصعيد وعشقي لها وعملي الوظيفي، واحتكاكي بعشرات الحرفيين والباحثين والمؤمنين بتطوير هذه الحرف، وأمكنني معرفة تاريخ ونماذج كل حرفة، والإلمام ومتابعة الجهود المستقبلية الرامية لتطوير وإنقاذ الحرف. الحرف التراثية كما قلت هي نتاج طبيعي نشأ لتلبية الاحتياجات الضرورية للناس مستخدمين ما في بيئاتهم من خامات ومهارات وملبين طلبات السوق المحلية وبعضها يلاقي رواجا عالميا مثل السجاد والخزف، هذا قبل عصر الشركات العابرة للقارات مستغلة تطوير الآلة واستغلالها لخامات مصنعة تضر البيئة والإنسان، وأصبح عصرا يطلق عليه بحق »عصر البلاستيك» و»غابات الاسمنت»، وأصبحت الخامات المحلية مخلفات تلوث البيئة حين أُهّملت، وأصبح الإنسان مجرد مستهلك لا ينتج ولا يستخدم مهاراته وخاماته للتعبير عن هويته وحاجاته، ومع توقف حركة السياحة التي أنعشت الحرف اليدوية حينا، فغاب الأمل الأخير. الجهود المستمرة للحفاظ علي هذه الحرف بدأت في أوائل القرن العشرين، وكانت جهود فردية لبعض الوطنيين المخلصين، بإنشاء بعض المدارس أو الورش الكبيرة لتعليم بعض الحرف منها تجارب(علي سبيل المثال): مصنع هدي شعراوي للخزف،مركز رمسيس ويصا واصف بالحرانية لتعليم الأطفال القرية تصميم ونسج السجاد مستخدمين ألوان وخامات من صنع أياديهم، جهود البعض في أقاليم مصر كتجارب، الفنان سعد زغلول في الحفاظ علي حرفة التلي، وفي أخميم في النسيج، قرية جرا جوس في حرفة الخزف، في صعيد مصر. الجهود الرسمية لم تبدأ إلا متأخرة، بعد ثورة يوليو عام 1952، إنشاء وزارة الثقافة علي يد ثروت عكاشة التي أولي لهذه الحرف الاهتمام فحول وكالة الغوري بقلب القاهرة التاريخية إلي مركز للتدريب وإقامة الورش الفنية وتعليم الصبية مهارات فتواصل الأجيال وتسلم جيل جديد راية الحرف . يمكن للدولة لتحسين أوضاع الناس الاقتصادية والثقافية والاجتماعية بواسطة الاهتمام بالحرف اليدوية بمشاركة جهود وزارات متمثلة في: الصناعة بما تملكه من إمكانيات في إدارة المشروعات الصغيرة .. التربية والتعليم، بالاهتمام بادخال منهج الاشغال الفنية التي تستفيد من الخامات البيئية المتنوعة، وإنشاء وتطوير المدارس المهنية والصناعية، بدءاً من المرحلة الإعدادية لتعليم الحرف علي غرار المدارس التي أنشئاها محمد علي باشا وهناك مدارس مازالت تمارس عملها في الإسكندرية، وبعض المدن .مع استغلالها لتعليم للكبار والذين تسربوا من التعليم وعلي غرار مدارس تعليم الخطوط العربية . ويبقي الدور المهم والمحوري هو وزارة الثقافة باعتبار أن الحرف تمثل هوية ثقافية لمصر، يمكن توحد جهودها وتجميع مواردها المالية والفنية المبعثرة بين قطاعات (صندوق التنمية الثقافية الفنون التشكيلية قصور الثقافة ) ما يؤهلها إحداث طفرة في تدريب جيل من الحرفيين ومن خلال الثقافة الجماهيرية »قصور الثقافة وبيوتها» بما تملكه من الامكانيات البشرية والمادية متوفرة في كل الأقاليم مصر الجغرافية،وتعاونها مع الجمعيات الأهلية ومراكز الشباب والجمعيات المرتبطة بالمساجد والكنائس، مع توفر الخامات المحلية والخبراء الممارسين لهذه الحرف ويمكن لها أن تلعب دورًا هاماً لإحياء هذه الحرف وتوفير فرص إقامة ورش ومعارض داخل القصور والبيوت والمكتبات الثقافية، ويتاح لهذه المعارض تسويق منتجاتها . ويبقي المشروع الطموح الذي طرحه الفنان عز الدين نجيب لإنشاء مجلس أو هيئة قومية تتبع مجلس الوزراء أو رئاسة الجمهورية، يديره مجلس أمناء من المتخصصين المخلصين، لتجميع الجهود الأهلية والرسمية لإحياء مشروع الحرف التراثية بما تملكه من أبعاد اقتصادية وثقافية واجتماعية، والمشروع هو قبلة الحياة الأخيرة لإنقاذ الحرف من الاندثار والفناء.