امرأة واحدة فقط آمنت بأهمية الحرف التراثية لمجتمعها ولبلدها فكافحت حتى أنشأت جمعية «داستاكار للحرف والحرفيين « بالهند والتى وصل عدد العاملين بها إلى ما يقترب من (36) ألف حرفى من كل أرجاء الهند، واليوم تدر الحرف التقليدية التى تعمل بها جمعيتها ملايين الدولارات على الاقتصاد الهندى، هذا ما آمنت به وحققته «ليلى».. والسؤال الذى نطرحه فى هذا التحقيق بعد قرار الوزير منير فخرى عبد النور وزير الصناعة والتجارة بمنع استيراد منتجات الحرف التراثية، هل ستستطيع هذه الحرف أن تنهض من كبوتها؟ وهل ستستطيع الحكومة أن تكون مثل «ليلى» الهندية فى جعل الحرف التقليدية والتراثية مصدرا للدخل وتوفير العمل أم لا؟!فى البداية يقول الدكتور أحمد الأبحر الفنان التشكيلى والرئيس الأسبق للإدارة المركزية للبحوث والدراسات: لدينا قصور متخصصة فى الأنشطة الثقافية والحرف التراثية و التقليدية مثل الفخار و الحصير والسجاد وتعد هذه القصور ورشا للأنشطة الخاصة بالحرف التراثية لكن القانون يحذر عليهم بيع الإنتاج الفنى لهذه الورش لان الخامات التى تدخل فى تكوينه هى تكلفة تدفعها الوزارة أو الدولة ويتم حفظها فى المخازن وعندما تتم إقامة معرض فإن هذه القطع تكون عهدة على الموظف لحين عودتها إلى المخازن مرة أخرى وذلك لأن قانون وزارة الثقافة ينص على أن الخدمة الثقافية هى خدمة مجانية. وضع الحرفى وهو ما يؤكده مسعود شومان الشاعر والباحث فى مجال الدراسات الشعبية والانثربولوجية ورئيس الإدارة المركزية للدراسات والبحوث بوزارة الثقافة سابقا قائلا: الدولة لا تهتم بالحرفيين وبعض هذه الصناعات كادت أن تندثر وموادها أصبحت من الندرة وعم تسييد بعض الأنماط الحرفية على حساب أخرى وذلك طريق نمط إعلامى ممنهج يروج لنا جودة زائفة مما يساعد على إزاحة المنتج الحرفى المصرى والذى للأسف الشديد لا يساهم فى الاقتصاد المصرى إلا بنسبة 4% فقط وهى نسبة ضئيلة جدا إذا ما قارنتها ببعض دول العالم مثل الصين والتى تصل نسبة مساهمة المنتجات الحرفية والتراثية والتقليدية إلى 60% من جملة منتجاتها وتصل فى اليابان إلى حوالى 70% وهو ما يؤكد أنه لا يوجد لدينا اهتمام أو إرادة وألا تكتفى المؤسسات والإدارات التابعة للوزارات المختلفة بترتيب الأوراق، حتى لا يكون مصير الحرفى هو الضياع، فقد فوجئت أثناء بحثى فى هذا الموضوع أن هناك الكثير من الإدارات التابعة لعدة وزارات تعمل فى هذا الاتجاه ونحن لا نعلم عنها شيئا وبعض الحرفيين يعمل فى أكثر من مكان والمنتج فى النهاية يعود إلى المخزن وإذا تم بيعه فإن العائد يرد إلى خزانة وزارة المالية ولا يستفيد منه الحرفى وهو ما يجعله يتساءل «ولماذا أهتم بالبيع إذا؟!!» طالما أن عائد منتجه لايعود بالنفع عليه او على المواد التى يستخدمها فى تطوير منتجه، وخاصة أنه يرى أن مآل ما لم يتم بيعه من منتجاته هو العودة إلى المخازن ومن هنا نجد أن الحرفى ومنتجه يحتاجان بشدة إلى آلية تسويقية كبيرة ومحكمة، فقصور الثقافة جزء صغير جدا من الموضوع ودوره بسيط رغم أهميته فهو يقتصر على التوعية والتثقيف أما الجزء الأكبر والغائب فهو دور الدولة بمختلف مؤسساتها فى دعم وتنمية الحرف التراثية التى من الممكن أن تدر ربحًا كبيرًا جدا على مصر خاصة وأننا لدينا تراث عريق جدا. وأوضح أن الفارق بين الحرف التقليدية والحرف التراثية، أن الأخيرة مفهوم أوسع وأشمل حيث تجمع كل الحرف التى قاربت على الانقراض والاندثار مثل صناعة الفرانشات، الصناعات الجلدية والخشبية، وحرفة عمل الحصير والكليم للأرضيات. ويضيف شومان: أن أكبر دليل على أهمية الحرفيين هو ما فعله الأتراك عندما أخذوا الحرفيين المهرة وأرسلوهم الى تركيا، وأنا فى ظنى أنهم فعلوا ذلك ليس لكى ينقلوا الخبرات إلى الأتراك بقدر ما كان قصدهم «وأد» الحرف المصرية، أما الآن فنحن نفعل ذلك بأنفسنا حيث نقوم بتهميش هذه الحرف ولا نهتم بالحرفى فى مهنته أو فى صحته أو حقوقه الاجتماعية وأيضا بفرض ضرائب كبيرة جدا عليه فى نفس الوقت الذى تعفى فيه الكثير من المنتجات الاستهلاكية من الضرائب. الحل والعلاج ويرى شومان أن الطريق إلى علاج هذه القضية الهامة يبدأ بخطوات وضحها قائلا: أولا وقبل قرارات المنع أو بالتوازى معها يجب عمل حصر للحرف التقليدية والتراثية فى كل مكان فى مصر ويتم عمل قاعدة بيانات حيث تختلف الحرف من مكان لآخر وتتميز فى بعض الأماكن عن الأخرى بهدف ربط الحرف بالتعليم الفنى والجامعى وبخاصة كليات التربية الفنية والفنون التطبيقية، وقد نجح هذا فى دمياط عندما أدخلوا فى كليات التربية الفنية بعض الحرف خاصة المرتبطة بصناعة الأساس وهو ما أدى إلى خلق فرص عمل كبيرة جدا وإلى الربط بين التعليم والحرفة والمجتمع، وعندما تم إنشاء كلية للثروة السمكية فى مدينة السويس ازدهرت صناعة الأسماك المملحة بالسويس والقناة، فهناك الكثير من الحرف التى لا نلتفت إليها ولا نعرف عنها شيئا بدءا من الأقماع إلى الفوانيس والطرابيش والملابس التراثية وصناعات الصفيح والمنائد ولدينا خامات طبيعية فريدة وهامة مثل «النخيل» والذى يوفر لنا وحده حوالى (18) حرفة، وفى أسيوط توجد حرفة وصناعة مهمة جدا تسمى «التاللى» وهى عبارة عن شرائط مصنوعة من خيوط ذهبية بطريقة فريدة جدا، وأتمنى تدعيم هذه الحرفة بتدريسها فى جامعة أسيوط حتى نحميها من الاندثار، خاصة وأن الصين تقلد هذا المنتج بخامات زائفة. ثانيا: التغلب على العقبات القانونية والإجرائية التى تقيّد الحرف وأصحابها فهناك مشكلة خطيرة جدا وهى أن الحرفى وبعد أن يصل إلى مستوى عال جدا من الخبرة والنضج يحال إلى المعاش ومن ثم نفقد هذا الكنز من الخبرات وبالتالى فنحن نحتاج إلى قانون أو آلية لاستبقاء العناصر الخبيرة خاصة وأن من يتم تعيينه حديثا تنقصه الخبرة وفى بعض الحرف لا تتم تعيينات جديدة، كما يجب أيضا أن تهتم الدولة بتوفير الرعاية الصحية والتأمينية للحرفيين. ثالثا:لدينا مشكلة كبيرة تتعلق بالمادة الخام التى يستخدمها الحرفى والتى يجب تسهيل استيرادها وأيضا فيما يتعلق بالمواصفات والجودة يوجد لدينا هيئة تسمى هيئة المعايير والجودة ولكن ما لديها من معايير لا يشمل أى معايير للحرف التراثية أو التقليدية ولدينا مشكلة فى التشطيب والشكل الجمالى للمنتج حيث لا يتم الاهتمام بها، كما أن بعض الدول تصدر لنا منتجات حرفية ليست من الخامات الأصلية أو غير مطابقة للمواصفات وبعضها يكون ضارا بالصحة أو خطرا عليها وبعضها يسىء إلى منتجنا أو تراثنا خاصة إذا ماكان المنتج ضار بالصحة أو بالبيئة. أخيرا: يجب إعادة النظر فى المنظومة الحالية وأن تلعب الوزارات دورا فاعلا فى تسويق هذه المنتجات ومن هنا أقترح إنشاء وزارة دولة للحرف التراثية وتكون معنية بالاهتمام بهذه الحرف والتى يتوزع دمها بين الوزارات والإدارات المختلفة وتوحيد الجهود المشتتة بينها مثل وزارة الثقافة والسياحة والصناعة والتجارة ووزارة التعاون الدولى ولو تجمعت هذه الجهود فى وزارة واحدة فنحن إذا ننظر نظرة جديدة إلى الحرف التقليدية والتراثية تعيد لها الاعتبار لأنها منتج جمالى بالإضافة إلى كونها منتجًا اقتصاديًا يعود بالنفع على الدولة وعلى الدول الأخرى. تجربة واقعية وعن التجربة الواقعية لممارسة الحرف التراثية فيقول محمد رفاعى مدير قصر الإبداع بالسادس من أكتوبر التابع للهيئة العامة لقصور الثقافة: إن الحرف التراثية كانت رائجة فى عصر الدولة المملوكية وللأسف هى الآن مهددة بالاندثار، ولدينا فى القصر مشروع أساسى وهو حماية هذه الحرف من الاندثار حيث نأمل أن تعود هذه الحرف لتلقى رواجا وتُقبل الأسر المصرية على شرائها مرة أخرى، فهذه الحرف تصلح أن تكون وسيلة رزق إلى جانب كونها تُعبر عن هوية ثقافية فهذة المنتجات يتم تسويقها على مستوى العالم وبعض الدول مثل «تونس» ودول شرق آسيا أنشأت وزارات للحرف التراثية وهو ما وفر فرص عمل كبيرة للأسر وللشباب. ويضيف رفاعى قائلا: مطلوب من الهيئة والوزارة والدولة أن تساعدنا لأن القصر تحت الترميم ونعمل بالجهود الذاتية حيث لا توجد منظومة لإدارة هذه الأنشطة الهامة، ففى المعارض يأتى المسئولون لافتتاحها وزيارتها ثم لا شىء بعد ذلك ويتم تخزين هذه القطع مرة أخرى، بالإضافة إلى أن المنتجات لا يتم بيعها، وإن تم البيع فالعائد يرد إلى خزانة الدولة ولا يستفاد منه القصر أو الحرفى، مشيرا إلى أنه عند استلامه القصر كان أغلب الحرفيين قد خرجوا إلى المعاش أو توفوا، واستطعنا أن نحضر شبابًا يمارسون هذه الحرف وأحضرنا آلات من مخازن الوزارة وقمنا بترميمها وبدأنا العمل عليها ولدينا الآن ورش لفن الخيامية والزجاج المعشق والنقش على النحاس وأضفنا مؤخرا ورشة لتعليم الأزياء التراثية والشعبية وكل هذا بدون أجر، ويتمثل العائق الأساسى أمامنا فى عدم دعم الهيئة بتسويق هذه الخبرات والمنتج أو توفير الخامات ونحصل على المخصصات المالية بصعوبة ولا يحصل الخبراء والمدربون على مكافآت مالية مجزية رغم أنهم متميزون وأعمالهم تسوق عالميا مثل الفنان فرج عبد السيد الديب وباسل عبد العاطى وطلبة عبد الغنى. ويستكمل رفاعى حديثه قائلا: شاركنا فى المهرجان القومى السابع للحرف التراثية بدار الأوبرا المصرية بحوالى 75 قطعة تراثية، وافتتح المعرض المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزارء والدكتور جابر عصفور وزير الثقافة السابق، وتم تكريم فنانين وبعدها عادت القطع إلى مخزن القصر ويجب أن يكون هناك اهتمام بالبيع والتسويق لأنه لا أحد يقدر قيمة المنتج وذلك لعدم وجود رؤية سليمة للتسويق وهو ما دفعنا إلى التفكير فى إنشاء جمعية أهلية للتغلب على هذه العقبة ونسعى الآن فى تأسيسها لكى نساهم بمجهوداتنا الفردية فى الحفاظ على هذه الحرف من الاندثار ولتوفير أبسط الأساسيات من احتياجات الحرفيين.