رواية »عائلة جادو» للروائي أحمد الفخراني والصادرة 2017 عن دار العين بالقاهرة تكشف عن صوت روائي يتمتع بقدر كبير من الجموح والطموح الشديد لإنتاج خطاب روائي فذ أو لا تعوقه الحدود والقيود من استغلال أقصي ما يمكن أن يمنحه النوع الروائي من قدرة علي التعبير وإنتاج الجمال الأدبي، الرواية مشغولة بالكثير من الأسئلة والقضايا والأفكار وتمثل نموذجا للثراء الدلالي كما لو كانت تريد رصد كل ما بالعالم من أوجاع. النص الأدبي الجيد في ظني هو ذلك الذي يكون أكثر قدرة علي إثارة الجدل والخلاف ويثير الإشكاليات حول ذاته وحول النوع الأدبي الذي ينتمي له هذا الجنس بحيث يحاول ترسيخ قواعد النوع وخلخلتها في الوقت نفسه، فهو بقدر ما يعمل وفق قواعد النوع يعمل في الوقت نفسه علي هدمها. فعلي سبيل المثال تطرح الرواية نموذجا مكتملا في التصور القرائي/التلقي للشخصية وللمكان والزمان والحدث المتماسك وكافة عناصر الرواية وتقاليدها ومسالكها في السرد والراسخ من بنيتها وفق الإنتاج السابق لهذا النوع، وفي الوقت ذاته يكون ثمة قدر كبير من الاختلاف في تمثُّل هذه العناصر وإنتاجها من نص روائي لآخر. في مساحة الاختلاف دائما ما تكون محددات الإجادة والبراعة وما يشكل هوية أو تميزا لكل نص روائي جديد. من السمات التي تحقق خصوصية هذه الرواية ما يمكن وصفه بالتشعب والتعدد والتنوع في مستويات العالم الذي تطرحه الرواية وملامحه. الرواية تقارب حياة رزق بن نخنوع الهواري وهو شخصية مصرية من الجيل الذي ارتبط بما بعد يناير 2011، ورزق له أب هو الآخر أكثر غرابة وطرافة تسميه الرواية وتحدده دائما ب(مولانا)، في بداية الرواية نحن بإزاء عالم غريب يعيشه رزق بن نخنوخ الهواري الذي يعمل مع مولانا أبيه الذي لا يعترف به ابنا شرعيا، يعمل معه في أعمال غريبة ترتبط بالقتل وترميم الإجساد والجثث وما يمكن وصفه بمهن المستقبل أو علي الأقل المتوقعة في المستقبل كأن يتحول الإنسان إلي قطع غيار ومحض سلعة باكتمال هيمنة الرأسمالية. رزق شخصية ملبسة وغامضة في كثير من صفاتها، فهو ينتسب لعائلة جادو وهي عائلة زوجته التي لا تقل غرابة عن شخصية نخنوخ مؤسس عائلته ووالده الذي يتراوح بين الاحتواء والرفض والمحبة والكراهية بحيث يمكن أن تكون الغرابة هي الحاكم لشخصيته علي الدوام، فلا يمضي علي وتيرة واحدة، فهو الذي يهينه ويفضل عليه أخاه ناجي وفي الوقت نفسه يعتمد عليه ويدعه يعمل معه ويجعله يتربح من وراءه، ثم ينقلب عليه ويعذبه مر العذاب ثم يعود مرة أخري لاحتوائه، وهكذا.
عالم رواية عائلة جادو تكاد تحكمه الغرابة بشكل كامل وتسيطر عليه المفارقة، فالأب مزيج من الحب والكراهية، من النعيم والانتماء والسند والجحيم والعذاب والفساد والرفض للابن زرق، يمثل رزق لأبيه أو مولانا الوجه الزائف والزائل ونقيض الخلود والمثالية التي يراها في ناجي الذي يبدو كما لو كان شخصا مصنوعا بإرادة أبيه، انتقي له من الصفات أحسنها ومزجها فيه فصار مصطنعا علي عين مولانا. هذه الغرابة الكاملة في الأنساق الحاكمة لعوالم الرواية تجعلها تنتج عالماخاصا يخرج عن قواعد الحياة فنكون بإزاء هذه الديستوبيا أو أدب المدينة الفاسدة، وتلك اللحظة التي يبدو فيها المجتمع في أغرب أحواله بعد الخروج الكامل عن القواعد الطبيعية فيصبح سوداويا في كافة مناحيه، بل تصير السوداوية والفساد هما الأصل وما خلاف ذلك هو النادر والغريب. لدينا الابن المنسوب لغير أبيه ولدينا الابنة ليلي التي تتمرد علي أبيها وتتزوج رزق ثم تتمرد بعد ذلك علي زوجها وتطلق منه، وكذلك الأم التي اسمها الحركي القديسة وهي عاهرة، أم حقيقية وأم أخري غيرها مزورة، منسوب إليها أو ربته. عالم تهيمن عليه المتناقضات والانتكاسات، فلدينا القيمة ونقيضها في تجاور يبدو قريبا في المساحة النصية، فيمكن القول بأن القاعدة الأكثر تحكما أو فاعلية في سرد هذه الرواية هي الارتداد أو الانتكاسات الدلالية وهيمنة المفارقة. حتي إن هذه القاعدة يمكن رصدها في أي عينة لغوية أو مساحة سردية صغيرة يمكن اقتطاعها من سرد هذه الرواية، فلو أخذنا فقرة معينة سنجد أن السطر الواحد فيها قد يحوي مفارقة مثل (في المرة التالية آتي ومعي مولانا بنفوذه، لا كأبي، بل كولي نعمتي الذي لا يمكن لأحد رد خاطره، فيجلس المهرج بعباءة غالية الثمن وهو لا يملك ثمن سجائره، لا يتوقف مثلي عن التدخين. يصمت ويجعل صديقه سائق التاكسي يتحدث في حضرة مولانا القوي. لا يتفوه، شامخ كنمرة في سيرك. يحتقر الحدث ويرفض الأمر كله ويظن أن العباءة تجعله أفضل من الجميع، ولا يقول إلا كلمة واحدة، لن ندفع مليما، فيقول مولانا، سأتكفل بكل شيء». الرواية ص68. فهنا نحن أمام أب ليس أبا، بل ولي نعمة، صاحب عمل، وأمام والد الزوجة الذي يرفض هذا النسب، وهو فقير يحتمي بالعباءة الغالية ويحاول أن يكتسب منها كل قيمته، ولا يشغله غير التأكيد علي كونه لن يدفع مليما، فيحضر وجه الأب وقلبه بشكل مفاجئ حين يعلن أنه سيتكفل بكل شيء. وهكذا في كل أجزاء الرواية. في الرواية كذلك برغم ظاهر الديستوبيا مستوي من الحقيقة أو الواقعية، فيما يشكل طبقتين متناقضتين من الحياة، فثمة ديستوبيا آلة ترميم الأجساد وذلك العالم الذي يهيمن عليه القتل والمخدرات والتعذيب وفساد حياة المستقبل القائمة علي المضاربة والمراهنات والعمل في كل ما يمنح المال دون أي حسابات أخري، كما لو أن العالم كله يحكمه قانون المافيا، العالم صار محكوما بالشركات متعددة الجنسيات وهي تخترق كل قوانين الحياة الطبيعية والإنسانية، تحكمها التحالفات والمكاسب المادية فقط دون أي قيمة إيجابية أخري. وفي مقابل هذه الحياة الديستوباويةتتبدي أو تتشكل الحياة الواقعية الأخري التي تتبع ملامح الحياة المصرية والعربية ابتداء من ثورة 52 وحكم عبد الناصر وقدوم الماركسية إلي المنطقة العربية وحتي يناير 2011 وما بعدها حيث انفجار الثورات والأيديولوجيا وتتجلي مشاكل كثيرة ترتبط بفساد الثورات وإخفاقها، ومن هنا ينفجر النص في مسارات معرفية عدة منها ما يرتبط بأسئلة حول التيارات الدينية والإسلام السياسي ومنها ما يرتبط بمصير الماركسية أو الشيوعيين في مصر، وما يمكن أن يفيده العرب من التواصل الاجتماعي والنزعات الحداثية المرتبطة باقتصاديات حديثة وعودة الإتجار في البشر وأسواق الرقيق واقتصاد شركات المحمول والكمبيوتر والعملات الإلكترونية والثروات الطائلة المكتسبة من الإتجار في السلاح في المنطقة العربية وغيرها من المستجدات التي تشكل عالما يهيمن عليه الفساد بشكل كامل، فيكون الارتداد أو الانتقال والتحول التدريجي من تفاصيل الواقع المتناثرة والهينة إلي ملامح حياة سوداوية أو ديستوبيا طاحنة تفتت الأرواح وتصنع نموذج الإنسان المتقسم والمتوزع بين مشاعر متضاربة، نموذج الإنسان الحائر الذي هو لص وضحية وقاتل وبريء في الوقت نفسه. الرواية كذلك يمكن وصفها بأن بها قدرا كبيرا من التشعب المعرفي أو الانفجار المعرفي الذي يشكل ملامح حياة كاملة وأبعادا عديدة لهذه الديستوبيا، علي أن هذا الانفجار المعرفي في ظننا هو نتيجة لتلك اللمحة التي يمكن وصفها بأنها الأثر الدريدي وهي الحال المرضية لرزق بن نخنوخ الهواري الذي يتشكل عالم الرواية عبر رؤيته هو وهي رؤية تغلب عليها الهلاوس البصرية والسمعية والأحلام السوداوية. التفسير الأقرب للمنطق في هذه الديستوبيا التي تنشئها الرواية أن الديستوبيا حاصلة في عقل رزق ومشاعره ورؤيته، فهو يدرك حياة ما بعد يناير في مصر والعالم علي هذا النحو، وعبر إدراكه وصوته تتشكل هذه الديستوبيا في خطاب رواية عائلة جادو. يمكن علي سبيل التحليل وإنفاذ إجراءاته حذف ذلك الجزء المتطرف في الخيال، حيث عربة الموتي وبيعهم وتسعيرهم وشرائهم من السجون وتلك المخازن الغريبة لمولانا وإمبراطوريته الفاسدة وافتراض أنها كلها لا تدور ولا تتحقق إلا في عقل رزق ورؤيته المرضية المشوشة بالهلاوس والأحلام الغريبة، وحينها سيتبقي الجزء الواقعي المرتبط بحياة المصريين بعد 2011 وملامح هذا العالم الجديد وبعض التنبؤات المرتبطة بتطور الحياة وقسوتها وتحويل الإنسان لسلعة أو التشيؤ الذي تناوله الماركسيون وتحدث عنه جورج لوكاش.
تثير الرواية - عبر بنيتها تلك المازجة بين الغرائبي والحقيقي بين الديستوبيا والواقعي - أسئلة حول مستقبل العالم، وفكرة شيوع المعرفة وتلك اللحظة من تاريخ العالم التي يبدو فيها كل الشعوب متساوية في امتلاك المعرفة وآخر مستجداتها والقدرة علي توظيف هذه المعرفة، وهو الأمر الذي يقلب موازين القوي ويجعلها في حراك دائم فنكون أمام عالم بلا ملامح واضحة ولا يمكن توقع مساره أو معرفة مصيره. قد يكون عالم رواية عائلة جادو هو الانعكاس والتجلي الكامل للعالم في مرآة ذات رزق الهواري المريض نفسيا، هذه الذات غير السوية لا نعرفها عبر تصريح مباشر من النص بمرضها أو حالها النفسية غير السوية، بل تنعكس الحال المرضية في مرآة العالم الذي تراه هذه الذات وترصده في خطاب الرواية، لأن الرواية يهيمن عليها صوت رزق، ولا صوت آخر أو رؤية عامة أخري غير رؤيته، باقي الأصوات الفرعية رؤيتها جزئية فهي تقدم بعض التفاصيل الصغيرة أو الملامح الجزئية التي قد تندمج في هذه الديستوبيا أو هذا التصور المّرَضِيّ للعالم دون أن تهدمها تماما حتي في حال تعارضها أو اختلافها. وفي موضع معين من الرواية أو عبر مشهد معين مثل مشهد رغبة رزق في قتل ابنه زين ورغبته في ذبحه نري هذا الفارق بين رؤية رزق الشاملة ورؤية غيره من الأصوات الفرعية مثل ليلي زوجته، فهي تتواطأ معه علي قتل الابن وتبدأ في التخطيط معه، وهو ما يتنافي تماما مع الواقع والحقيقة وتجلي الأم بهذه الصورة من التواطؤ علي قتل الابن إنما هو التجلي المرضي لصورتها في رؤية رزق الذي يري الجميع في حال من الجنون وافتقاد أدني درجات العقل والمنطق، وفي أوقات أخري ينكرون كل ما يراه أو يحلم به، وهو ما نراه في مشهد شجاره مع أخيه أو شجاره معميمي أمه غير الحقيقية. في أحد المشاهد نجدالعائلة تجمع الإشارات والعلامات الدالة من منامات رزق وتري خلاصه وخلاص العائلة في أن يقتل ابنه زين أو يذبحه؛ (زين النهاية)، وكأن هذا هو السبيل الوحيد للنجاة أو الفرار من الحياة وإفناء نسلهم وانسحابهم من الحياة، وهو لا يعرف كيف يفهم زين الطفل الذي يخرج عن سياق الخير والشر كيف يكون الأب مضطرا لذبح ابنه، ثم يأتي في لحظة ويبكي لمجرد تفكيره أن يمس ابنه بسوء ولو في هلاوسه، بينما العائلة التي يفترض بها العقل مازالت تطالبه بذبح زين، ويغضبون عليه لتراجعه للوراء ورفضه قتل الابن. فهذه العائلة تتبدي علي هذا النحو من الجنون في رؤيته البصرية والسمعية التي تحكمها الهلاوس والمرض. ومثل هذه ما يتصور كذلك من أحداث ترتبط بزاوية النجار ومراد بك وعبد المولي الملقب بهركليز أو المصارع الفتاك ومراهنات الموت وما يحدث من نفيسة البيضاء ومكائدها وجمالها، فهي كلها عوالم تأتي من القراءات ومن ذاكرته القرائية التي تنطبخ مع الحقائق وتصبح جزءا منها وتبدو ممتزجةبالعالم الحقيقي أو جزءا من هذا العالم الذي تتبع الرواية ملامحه وتشكلها.
يأتي المكان في الرواية محكوما بهذه التصورات المرضية ووفق معطياتها الإدراكية التي يصبح الخلل والخلط فاعلا فيها، فهي أماكن علي قدر كبير من التباعد مثل مصنع ترميم الأجساد وآلته الحديثة التي تحصل علي البيانات عبر عقل تكنولوجي متطور فتصبح قادرة علي حرق الإجساد وإعادة تخليقها مرة أخري وفق تصورها أو وفق حساباتها الخاصة، وكذلك تلك المخازن والأماكن الغريبة والقصر العجيب الذي يملكه مولانا علي طريق الإسماعيلية في الصحراء، بينما يبقي مكان المنشأ في زاوية النجار هو الأغرب، فهي مجرد حي في القاهرة الكبري أو ضواحيها ومناطقها الشعبية التي تتعرض للاحتلال والصراع من مراد بك، فيما يشبه عودة المماليك، وهو ما يمكن تلقيه رمزيا وفق فهمه بعودة أي من الأنظمة المستبدة أو المأجورة أو قوات الاحتلال بشكل عام. ومثلها ما يحدث في زاوية النجار من محاولات للاتحاد والتمترس ضد العدو واستخدام هذه الزاوية الشعبية لأحدث وسائل الدفاع الحربي في مفارقة تتسق مع ملامح هذه الغرائبية الكاملة. ثمة انحياز جمالي آخر لخطاب رواية عائلة جادو يخص اللغة المكشوفة أو الصريحة التي لا تعمد إلي الانتقاء، فتستخدم الرواية الألفاظ الجنسية الواضحة أو العامة التي يستخدمها المتحدثون غير الراغبين في أي مستوي من المداراة أو المواءمة الاجتماعية، فنجد تصريحا بأسماء الأعضاء الجنسية بألفاظها، وهذا السلوك في ظني هو خيار جمالي في المقام الأول مالت إليه الرواية حتي تكون هناك مطابقة تامة بين اللغة التي تدور في الأذهان أو اللغة المضمرة ولغة خطاب الرواية، وهو ما يعلي من الإيهام بحقيقة هذه العوالم أو ثقل تلك الحال المرضية التي تفرض تجاوز الانتقاء أو حذف اللغة المكشوفة وتفرض لغة المضمر بكاملها دون مراعاة للفكرة الكلاسيكية بأن لغة الأدب يجب أن تكون لغة الطبقة الرفيعة أو يجب ألا تنحدر إلي ما يمكن نعته بالسوقية وفق معايير أخلاقية لم تكن تنحاز للجمالي بقدر انحيازها للقيمة الاجتماعية والأخلاقية. وهذا النزوع إلي اللغة المكشوفة يجعل الرواية تثير سؤالا مهما حول لغة الأدب والقيمة الجمالية لتفاوت مستويات لغة الأدب بحسب تفاوت مستويات لغة الحياة، فإذا كانت اللغة في الحياة متفاوتة بين لغة شعبية أو غير رسمية ولغة أخري يمكن وصفها بالطبقة الأرفع أو المتأدبة أو الرسمية في مقابل الشعبية أو المضمرة أو الممنوعة فإن الأدب قد يكون من الناحية الجمالية بحاجة لأن يطابق هذا التفاوت ويأخذ من كل هذه المستويات ويكتب بالمضمر والممنوع وغير الرسمي ولا يكون مقصورا علي ما يعرف باللغة الأدبية أو العامة أو الرسمية، وهذا السؤال أصبح واضحا ومحسوما لدي الغرب كما كان محسوما لدينا في الأدب العربي من قديم، فنجد كتبا أدبية رفيعة تكتب بهذه اللغة المكشوفة علي رأسها ألف ليلة وليلة وبعض كتب الجاحظ مثل الحيوان والرسائل التي نجد فيها الألفاظ الجنسية الصريحة دون أن يقلل هذا من قيمة الخطاب الأدبي وأهميته.