في سلسلة من المصادفات الغريبة، عكست الروايات التي فازت بأهم الجوائز الأدبية العالمية هذا العام والتي احتلت قوائم الأكبر مبيعاً صورة كابوسية عن المستقبل، أو عن عالم مظلم كأنما هناك سحابة تغطي الأدب العالمي وتصبغه بلون "الديستوبيا". الديستوبيا هي مضاد "اليوتوبيا" أو الجنة الفاضلة، وهي كلمة تشير في الغالب إلي عالم كابوسي لا فرار منه ولا أمل، يشكل الخوف والجريمة والإرهاب والخطايا أركانها، وأحياناً أخري يكون مجازا لنهاية الحياة علي كوكب الأرض، أو نهاية الحياة كما نعرفها. ومن أبرز الأعمال التي حملت هذه الروح رواية The Bone Clocks لديفيد ميتشل والتي وصلت لقائمة جائزة البوكر هذا العام، وتمتد أحداثها حتي العام 2040 حيث تنفد الطاقة ويتضاءل مخزون الغذاء العالمي فتنهار الحكومات والمجتمعات الإنسانية كما نعرفها. وبشكل عام فإن معظم الروايات التي تحتل قائمة الأعلي مبيعاً عالمياً، تقدم نبوءات سوداوية حول المستقبل. هذه "الديستوبيا" امتد ظلها إلي الأدب العربي المعاصر، ونلمح أثره بداية من رواية "فرانكشتاين في بغداد" لأحمد السعداوي (العراق)، وحتي "الانحناء علي جثة عمان" لأحمد زعتري (الأردن)، وفي مصر يبدو ظل خراب "الديستوبيا" قوياً في رواية محمد ربيع الجديدة "عطارد" وفي رواية "روائي المدينة الأول" للشاعر المسجون عمر حاذق، والتي وصفتها غادة نبيل بأنها ليست ديستوبيا بقدر ما هي جنة مصابة يبحث أفرادها الذين يعيشون بتكوين مختلف وصورة شبه موازية لشرور عالمنا عن راحة أخري بعدما حملوا معهم الغيرة والقتل والسرقة. مدن الزومبي العربية أما رواية الكاتب الأردني أحمد زعتري "الانحناء علي جثة عمان" والتي منعتها الرقابة الأردنية من البيع في الأردن لإساءة الرواية للمدينة والمجتمع، فهي كما يوضح الشاعر مينا ناجي تقدم رؤية مستقبلية تتسم بالرعب وشطح الخيال، ديستوبيا لمدينة عمان فيها حرب أهلية مفزعة التفاصيل تفكك المدينة وتقطّع أوصالها، ومع ذلك لا تزال قريبة الشبه بما يحدث في حاضرنا لكن بنزق خيال يضخّم التفاصيل والأحداث بحسب منطقها، حيث الانزلاق من حاضر فارغ ومعلَّق في الهواء إلي مصير بائس ونفعي ينتظر أي ثوري أو مصلح، بسبب أبعاد المدينة نفسها ومكوناتها الانثروبولوجيّة والتاريخيّة والسياسيّة التي تبتلع إحداثياتها أي محاولة من قلب نظامها لتجاوز أزمة الذاكرة وزمني الحاضر والمستقبل. مينا يري أن تكرار "الديستوبيا" كتيمة بأشكال متنوعة في الأدب العربي والمصري بشكل خاص له أسباب وروابط يمكن تلمسها، فقبل الثورة كان هناك إحساس بالجمود والموت. فعلي كل الأصعدة السياسية والاجتماعية كانت مسارات التغيير والحراك راكدة، ثم جاءت الثورة لتعطي قدراً من الأمل سرعان من انكسر، وبالتالي فانكسار الثورة ولد اليأس والغضب. وهما العنصران الأساسيان في تكوين "الديستوبيا". يسجل مينا ملاحظة أخري وهي الكثافة التي تظهر بها "الديستوبيا" وأفكاره كفكرة "الزومبي" الموتي الأحياء في الروايات التي تدور في القاهرة، لأننا الآن نواجه واقع مدينة كابوسية، فعلي حد وصف صاحب ديوان "أسبوع الآلام" فشلت القاهرة في أن تكون مدينة يمكن للناس أن يمارسوا الحياة فيها، فالقاهرة أصبحت ديستوبيا حية لا فكاك منها. مينا ربط في حديثه أيضاً بين الديستوبيا وهذا الميل في الروايات التي صدرت مؤخراً لاستخدام لغة تصادمية مليئة بالعنف وأحياناً بالألفاظ الخارجة، حيث يري في الأمر امتدادا لأدب الانحطاط الفرنسي، فالكتاب يستخدمون اللغة لمحاربة فكرة الاستقرار المجتمعي والأخلاقي، ويضرب مثالاً علي ذلك برواية يوسف رخا الجديدة فأحداثها ضد الثورة تماماً عن ضابط يتلذذ بتعذيب أحد النشطاء، لكن رغم ذلك فلغة الرواية لغة ثورية تتحدي الأفكار المجتمعية المهذبة عن اللغة. نهاية الزمن تحطم آمال الثورات العربية تربطها د.أماني فؤاد بتوجهات وسياقات النظام العالمي، فسيادة تيمة "الديستوبيا" تراه نتيجة لتوحش الرأسمالية العالمية. تقول د.أماني: "5٪ يمتلكون أكثر من ثلاثة أرباع الثروة العالمية، وباقي الطبقات والمجتمعات يعيشون علي الفتات، وهذا التباين الشديد بين الأغنياء والفقراء يشعر المبدع بلا جدوي العالم." وهو ما يؤيده مينا ناجي والذي يستعير من "سلافوي جيجك" مصطلح نهاية الزمن والذي يراها أقصي تعبير عن عدم الرضا العالمي علي النظام الرأسمالي العالمي، حيث نعيش لحظة دائمة من الإحساس بقرب النهاية وهذا الإحساس يطغي علي العالم منذ حادث البرجين. د.أماني ترصد الكثير من السمات المشتركة بين الأدب الأمريكي وتحولاته المعاصرة وما تشهده الساحة الأدبية العربية الآن. تضرب مثالاً علي ذلك بالروايات الأمريكية الجديدة والتي تحمل قدرا كبيرا من السخرية والإصرار علي هدم اللغة. وهو ما يبدو واضحاً في اللغة الجديدة في معظم الأعمال التي صدرت مؤخراً والتي توظف الكثير من الألفاظ التي جرت العادة علي اعتبارها ألفاظا خارجة، وأحياناً ما يقوم الروائيان باستخدام كلمات قديمة وإعادة وضعها في سياقات مغايرة لتعكس معاني جديدة. وهذا كله لأن الأفكار لوحدها لم تعد تصمد أمام الرأسمالية العالمية والاستبداد الذي يعود ليطغي علي العالم. ووضعنا في مصر ليس بعيداً عن ذلك حيث بعد ثورتين نعود إلي ذات الأنظمة القديمة، فالأمر يعود إلي السلطة وما تملكه من قوة وليس بالحلم وقوته. وائل العشري الكاتب وأستاذ الأدب العربي يري أن هناك بذورا قديمة لفكرة "الديستوبيا" في الأدب والرواية العربية مشيراً إلي رواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم، تمتد هذه البذور بأشكال أخري في أدب التسعينات، لكن وائل يري أن كتاب التسعينات كانوا مهتمين أكثر بخلق عالم منفصل وموازي للحياة الواقعية، لكن الآن لا يخشي الكتاب من هذا الانغماس في الواقع. يعتقد وائل العشري أن الميل للغة التصادمية منبعه سياقات متعددة، وهو الملمح الواضح الذي يصنع فارقا بين الأعمال التي قدمت "الديستوبيا" قبل ذلك في الأدب العربي وما نقرؤه الآن. تلك اللغة التصادمية والتي تمزج مستويات متعددة من الفصحي والعامية وأحياناً تستعير من لهجات مختلفة هي محاولة لمعاكسة صورة العالم والسخرية من اللغة النظيفة المهذبة للطبقة الوسطي، في الوقت ذاته تحمل داخلها ميلا للرد علي فكرة اليوتوبيا حيث العالم النظيف والمهذب والمرتب.