تحولت الدولة المصرية الى بركان يفيض بالثورات، يرفض الإحتلال، ويعادى المحتل، ويقاوم الحصار، ورغم قوة جيش نابليون المسلح بأحدث العتاد، الا انهم خسروا الرهان امام المصرى المسلح بجينات البطولة والفداء، شعب تحول الى جيش، جيش صلب بصلابة الجبال، غير معرض للإنكسار او الهزيمة. يستمر جيش نابليون فى اجتياح البلاد، يرتكب ابشع الجرائم، لكن فى النهاية تبقى البصمة المصرية واضحة، عندما ختم الفرنسيون احتلالهم للبلاد بجملة، "لنا نبقى سادة فى هذه البلاد" التفاصيل نواصل سردها من خلال هذا التقرير. من محافظات الوجة البحرى الى الدلتا واصل الجنود الفرنسيون اجتياجهم للبلاد، وارتكاب ابشع الجرائم ضد العباد، بطولات سطرها المصريون بصلابة، وإنهزامات طالت العدو القادم من اوروبا، ابلى فيها الرجال بلاءاً حسناً، ولعبت فيها المرأة المصرية دوراً قوياً ومؤثراً كعادتها، رافضة الاحتلال. البحر الصغير المحطة الجديدة لجيش نابليون كانت فى البحر الصغير، الذى يقع بين المنصورة و بحيرة المنزلة، حيث دفع نابليون بجنوده من اجل تأمين حدوده الشرقية، ومعاقبة القرى الثائرة فى هذا الإقليم، خاصة بلدتى (منية محلة دمنة والقباب الكبرى) الواقعين على بحر أشمون أذ جاهر أهلهما بالعصيان و الامتناع عن دفع الضرائب والغرامات التى فرضت عليهم، ما عرض اهلها للتنكيل. وفى دمياط امتدت شعلة الثورات، وكان حسن طوبار زعيم إقليم المنزلة، انطلق بسفنه لدمياط ليشارك مع أهلها فى الدفاع ضد الاحتلال الفرنسى، لتندلع معارك ضارية فى المدينة والقرى المحيطة بها، وتمكن أهالى عزبة البرج من إفناء الحامية الفرنسية المعسكرة بها، ثم بدأ الجنرال فيال هجومه وتغلب على الثوار و ردهم على أعقابهم، فانسحبوا إلى قرية "الشعراء" جنوبدمياط، فتقدم الفرنسيون نحوها واقتحم الجنود القرية، واستولوا عليها ونهبوا وأضرموا النار فيها، وخسر الثوار فى المعركة نحو خمسين قتيلاً و خسر الفرنسيون إثنى عشر قتيلا وثلاثين جريحا، ثم استمرت حملات الفرنسيين التأديبية حتى أصبحت مدينة دمياط أشبه بسوق أو مولد يبيع فيه الفرنسيون مانهبوه وسلبوه. تفاقمت الثورة فى البلاد الواقعة بين المنصورة و دمياط، و تعددت حوادث مهاجمة الثوار للسفن الفرنسية المقلة للجنود فى النيل، ليأمر نابليون بتجريد قوة برية بحرية مزودة بالمداع للسيطرة على بحيرة المنزلة والقضاء على نفوذ حسن طوبار، و لكن بحيرة المنزلة كانت مليئة بمئات الجزر مما سهل على الثوار المناوة و الأختفاء، و قد فاجأوا القوة البحرية الفرنسية مما اضطرها للتراجع حتى عادت لدمياط، لكنهم احتلوا بلدتى المنزلة والمطرية مما جعل استمرار المقاومة فى الجزر بغير قواعد برية أمرا متعذرا، فترك حسن طوبار المنزلة. معركة الجمالية واصلت الحملة الفرنسية إنطلاقها حتى وصلت بحراً للجمالية، فوحلت السفن الفرنسية فى بحر أشمون من قلة المياه، وانتهزها الأهالى فهاجموا السفن الفرنسية وكانوا يتبعونها من بعيد، واشترك فى هذا الهجوم أهالى الجمالية فأطلقوا النار على السفن و أمطروها وابلا من الحجارة من على اسوار بلدتهم، فأمر قائد الحملة بإنزال الجنود إلى البر لرد الهجوم، وامكنه أن يفرق الجموع التى أحدقت بالقوات الفرنسية، ولكنه بعد قتال أربع ساعات انسحب من الموقع الذى نزل به ورأى أنه لايستطيع الثباتبه، ولا متابعة السير فى بحر أشمون، فأضرم النار فى الجمالية وعاد أدراجه إلى المنصورة ومن معه من جرحى و قتلى، و كانت معركة الجمالية ذات شأن خطير، و قد أشاد جنود الحملة ببسالة و شجاعة المصريين المقاومين. الوجه القبلى الجيش الفرنسى او الجراد كما اطلق عليه المؤرخين، واصل زحفه الى محافظات الوجة القبلى، حتى وصلت ديزيه إلى بنى سويف يوم 31 أغسطس واحتلنها دون مقاومة، ثم تحركت الحملة صاعدة فى النيل ووصلت إلى المنيا فى 9 سبتمبر، ثم أسيوط فى 14 سبتمبر، و فى 7 أكتوبر وصل ديزيه بلدة سدمنت حيث جمع مراد بك نحو 4000 إلى 5000 فارس من المماليك و العربان، ودارت معركة من أشد المعارك هولاً كادت ان تسحق بها قوات ديزيه لولا قوة المدفعية الفرنسية، وانتهت المعركة بإنتصار الفرنسيون وقتل منهم أربعة و أربعون و جرح مائة، و قدرت خسائر المماليك بأربعمائة و تقهقر مراد بك إلى الفيوم. وظل الزحف مستمرا حتى أسوان دون أن يقدر الجنرال ديزيه على إخضاع الأهالى، فما وجدا إنسان قبل السلطة الفرنسية أو رضى بالاحتلال، حيث واجه الفرنسيين فى الصعيد ما بين جرجا وأسيوط ثورة واسعة النطاق بعيدة المدى، وكلف الجنرال دافو لقمع هذه الثورة، فقام من جرجا ووصل إلى سوهاج يوم 3يناير 1799 حيث كانت تحتشد قوة من الثائرين تقدر بأربعة آلاف من الفلاحين المسلحين بالبنادق والحراب يشد أزره سبعمائة من الفرسان، و نشب القتال بين الفريقين ولكن الأهالى على كثرة عددهم لم يكونوا معتادين على خوض معارك حديثة، فأصلتهم فرقة الفرسان نارا حامية تراجعوا أمامها تاركين ثمانين من القتلى، و مع ذلك لم تنكسر شوكة الثائرين رغم هزيمتهم مرة ثانية فى طهطا 8 يناير حيث خسروا 150 من الفرسان و ثمانيين من المشاة، و انتقم الفرنسيون انتقاما فظيعا من القرى التى أطلقت عليهم النار فقتلوا من أهلها خمسمائة رجل و احرقوها. وفى نفس الشهر، وقعت معركة سمهود بين جيش مراد بك الذى يتكون من 1500 مملوك و الباقون من الأهلى الذين انضموا إليه، و يقدر نابليون عددهم فى مذكراته بسيعة آلاف من الفرسان المصريين وثلاثة آلاف من المشاة وألفين من عرب ينبع وجده بقيادة الشريف حسن، فى حين كان الجيش الفرنسى وعدده خمسة آلاف مزودين بالمدافع و البنادق الحربية، و هزم مراد بك وفر المماليك إلى الصحراء، والفرنسيون يجدون فى مطاردتهم فلما وصلوا أسوان كان مراد قد أوغل فى أعماق السودان. اسوانوقنا بعدها واصل الفرنسيون اجتياحهم لمحافظات الوجة القبلى حتى احتلوا اسوان، لكن عندما أرادوا أن يعبروا النيل إلى جزيرة فيلة فى مراكب الأهالى لم يقبل أحد منهم أن يسلك مركبه، فلقى الفرنسيين مقاومة شديدة وحمل الأهالى أسلحتهم وصاحوا صيحات القتال، لكن بعدها احتل الفرنسيون الجزر وبدأ الفرنسيون فى تحصين اسوان. ويصف الجبرتى مقاومة المصريين قائلاً، لا جدال أن الشعب المصرى كان يعلم أنه يخوض معركة غير متكافئة أمام المدافع والقوة العسكرية المتفوقة، و مع هذا لم يخطر ببال أحدا الفرار و لا فكر فى الاستسلام، بل احتقروا المماليك الذين كانوا يفرون دون أن يشعروا إحساس المواطن الذى يدافع عن شرفه و شرف قومه. بعدها انطلق الجراد الفرنسى الى قنا من قوة مؤلفة من إثنى عشر سفينة مسبحة بالمدافع الضخمة و محملة بالمؤن والذخائر و الأمتعة وخزينة الحرب و آلات الموسيقى، و تقل حوالى ثلثمائة جندى ومائتى ملاح، فهاجم أهلى قنا الأسطول الفرنسى فى 3 مارس 1799، و نزل عدد كبير منهم إلى المياه سابحين نحو السفن، وأطلقت السفن مدافعها على المهاجمين، ومات كثيرون دون أن يوقف ذلك محاولة الوصول إلى السفينة "إيطاليا"، ووجد قائدها "سوراندى" أنه مغلوب على أمره فأمر بحارته و جنوده القفز فى الماء وأشعل النار فى مخزن البارود فى السفينة فنسفت إلى شظايا أصابت الكثيرين، ودارت معركة مائية بالأيدى و الخناجر، و كذلك صنع بقية رجال السفن الفرنسية المرافقة بعد ان رأوا عنف الهجوم، و هلك قائد الفرنسيين فى هذه المعركة و جميع جنوده وعددهم 500 و كانت هذه أكبر خسارة منيت بها القوات الفرنسية فى معركة واحدة. ويصف الجبارتى هذه المعركة قائلاً، روعة التصميم الذى أبداه أبناء قنا فى الهجوم الجرىء لا مثيل له فى تاريخ الفدائية، و لقد غنم الأهالى كثيرا من الذخائر و بعض المدافع التى كانت تحملها السفن المتطورة و الخزينة و مافيها من مال. بعدها اندلعت معارك اكثر شرسة، حيث ظل الجيش الفرنسى يطارد قوات من المصريين لا عداد لها، من الجيزة شمالاً، وحتى اسوانجنوباً، ومن القصير شرقاً، وحتى واحات الصحراء غرباً. وفى احد خطابات ديزيه لنابليون قال، "إنى لا أكتمكم الحقيقة.. إننا لن نكون سادة هذه البلاد، لأننا إذا أخلينا بلدة لحظة من الجنود عادت لحالتها القديمة." فى الحلقة القادمة: نبدأ فى سرد وقائع الاحتلال البريطانى لمصر، وجرائم الانجليز ضد المصريين بدءاً من عام 1882، وحتى الثالث عشر من يوينو من عام 1956، والكفاح المسلح ضد المستعمر الاجنبى، بسقوط الاف من الشهداء فى تاريخ طويل من النضال والتضحيات، والتى إنتهت بإعلان الجمهورية المصرية بقيادة الرئيس الراحل محمد نجيب. جرائم المستعمر البريطانى فاقت جرائم العثمانين فى بشاعتها والفرنسيين فى قسوتها، فمنهم بنبتت بذور الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحين، ومنهم نشأة جماعة الإخوان الإرهابية، وفى تفاصيلها جرائم دموية لطخت تاريخهم النازى.