ظلت مصر منذ فجر التاريخ شامخة وابية، صنعت الحضارة قبل ان تعرف الدنيا الحضارة، وبشعبها وجيشها ملئت العالم نوراً وسلاماً وعلماً، لم تنكسر مصر الا بإنكسار جيشها الابي الذى هزم التتار وتصدى للمغول واذل الصهاينة، وفى تلك الفترات الاستثنائية التى تهاوى فيها الدرع وانكسر السيف، استباح العدو الوطن وارتكب الاجانب افظع واقذر الجرائم ضد المصريين، والان جاء وقت الحساب حلقات تاريخية استثنائية بالتعاون مع الدكتور عاصم الدسوقى استاذ الاساتذة فى التاريخ المعاصر أسرار فرمانات العسكر ضد المصريين الجراد الفرنسى يعاقب أهالى المدن بالإعدام علناً وفرض الضرائب..ونساء المنصورة يذلون المحتل فى الحلقة الماضية، كشفنا اولى حلقات جرائم الحملة الفرنسية ضد المصريين، وكيف اجتاحوا الاراضى المصرية من الشمال متجهين نحو الجنوب، بسرعة البرق، وبينهما كانت مقاومة المصريين تحاول إيقاف الجراد الفرنسى، والثورات التى تحولت مثل الحية، كلما حاصرتها من جهة، اندلعت فى مائة جهة اخرى. نواصل فى هذه الحلقة الكشف عن سر تعينات الجنرلات فى المحافظات المصرية، وفرمان احراق القرى التى تندلع منها مقاومة المصريين، وكيف إنطلقت الحملة الفرنسية الى باقى المحافظات المصرية. بعد المقاومة العنيفة التى لاقها الجراد الفرنسى فى المنوفيةوالغربية، اصدر نابليون قراراُ بتعين الجنرال زايوتشك قومندانا للمنوفية، و الجنرال فوجير قومندانا للغربية، وفرماناً لهما بالتعاون على توطيد سلطة فرنسا فى هذه المديريات، و أن يجردوا الأهالى من السلاح و يصادروا خيولهم و يعتقلوا أعيانهم رهائن، كل ذلك لإخضاع البلاد و إلقاء الرهبة بها. فرمان اخر اصدره جنرال المنوفية لومندنا، بإعدام خمسة من الأهالى فى كل قرية من القرى الثائرة، و أمر أن تقدم كل قرية جوادين من خير الجياد، و كل قرية لا تذعن لهذا الأمر وتمضى خمسة أيام على إعلامها به تفرض عليها غرامة ألف ريال، و قد كان لهذه الأوامر الظالمة أثرها فى تأجيج نار الكراهية ضد الفرنسيين بشكل اكبر واوسع. اما جنرال الغربية قومندان فإنطلق بقوة من الجند الفرنسى من القاهرة الى منوف، كان هذا فى اغسطس من عام 1798، ثم غادرها قاصداً المنوفية ليتصدم فى طريقه بمقاومة عنيفة من قريتى غمرين و تتا و هما بلدتان متجاورتان شمالى منوف، حيث ثار أهل القريتين، و حملوا السلاح، و أغلقوا الأبواب فى وجه الجند، فحاول القائد الفرنسى عبثا أن يكره البلدين على فتح أبوابها فلم يستطع، و لما أعيته الحيل طلب المدد من قومندان المنوفية الذى كان مرابطاً بمنوف، فأمده بقوة من جنوده، و تعاونت القوتان على إخضاع القريتين بعدما دافع أهلها دفاعا شديداً، و اشتد القتال بخاصة فى غمرين، و اشتبك الأهالى و الجنود فى طرقاتها، فانهمرت فيها الدماء وغطيت الأرض جثث القتلى، قال أحد الضباط الفرنسيين:"جائنا المدد، و تعاونت الكتيبتان على مهاجمة قرية غمرين، فأخذناها عنوة بعد قتال ساعتين، و قتلنا من الأهالى من أربعمائة إلى خمسمائة بينهم عدد من النساء كن يهاجمن الجنود ببسالة و إقدام، أما خسائر الفرنسيين فكانت قتيلا واحدا و اثنى عشر جريحا، و لم تكن عندنا فؤوس، فكان ذلك من أسباب التى أخرتنا عن اقتحام أبواب القرية"، وبذلك استولى الفرنسيين أولا على غمرين ثم قصدوا إلى تتا فاستولوا عليها، و أضرموا النار فى القريتين عقابا لهم على الثورة. المحلة وطنطا الاوضاع فى المحلة الكبرى ازادات سوءاً بعد الحملة الفرنسية، حيث تدهورت اوضاع اكثر من الفين عامل يعملون فى قطاع الغزل والنسيج. اما فى طنطا التى بلغ عدد سكانها حينها عشرة الاف نسمة والتى كانت مقصداً للسياحة الداخلية والخارجية لنحو مائة الف ظهرت فيها أعراض الهياج و الثورة، وأجمع أهلها عن الامتناع عن دفع الضريبة أوغرامة تفرض عليهم، فرأى نابليون ان يتحاضى التصادم مع اهلها، او ان يعتدى جنوده على الشعائر الدينية فيثور مواطنيها، الا ان قومندان الغربية ارسل إليها كتيبة من الجنود و عهد إليها اعتقال زعماء المدينة وأخذهم رهائن، وكلفها كذلك أن تخضع الأهالى فيما جاورها وفى البلاد الواقعة على طريق الجنود و أخذ الرهائن منها، و كان دعاة الثورة فى القرى يحرضون الأهالى على العصيان. معركة ال 3 ساعات وصلت الكتيبة تجاه طنطا يوم 7 أكتوبر 1798 و رابط قائدها بجنوده و كلف حاكمها سليم الشوربجى أن ينفذ إليه أربعة من كبراء المدينة يكونون رهائن، فجاء بأربعة من أئمة مسجد السيد البدوى، و رفض أكابر المشايخ أن يحضروا معه ليعطوا القائد الفرنسى موثقا بالمحافظة على السكينة فى طنطا – و كان المولد قائما آنذاك – و قد تجمع فيه خلق كثير من أرجاء البلاد، فلم يكد قائد الكتيبة ينزل الرهائن الأربعة إلى المراكب ليبعث بهم للقاهرة حتى هرعت الجماهير مسلحين بالبنادق والحراب يصيحون صيحات الغضب و السخط، رافعين الرايات و البيارق، فلما رآها أهالى البلاد المجاورة أقبلوا من كل حدب و صوب و انضموا إلى الثائرين و فيهم 150 من الفرسان، فاندفعت هذه الجموع على الكتيبة و كادت تستولى على على المراكب التى معها فقابلتها الكتيبة بنار شديدة من البنادق الحديثة، فانهزمت الجموع إلى المدينة ، وعادت غير مرة تهاجمها ثم ترتد إلى داخل البلد، و رأى قائد الكتيبة أن لا سبيل إلى تعقب الثائرين فى مدينة كبيرة كطنطا لقلة عدد جنوده و افتقاره للمدفعية، فلزم خطة الدفاع و اقتصر على منع الثائرين أن يحيطوا بجنوده و على الدفاع على مراكبه، و تمكن من إنزال معظم قوته بالسفن و معهم الرهائن، ثم أقلعت سفنه، و ترك قوة من رجاله على شاطئ الترعة لمنع الثوار أم يلحقوا به، وانسحب الثوار بعد المعركة دامت أربعة ساعات، وقد قرر القائد الفرنسى عدد الثوار بعدة آلاف، و قدر خسائرهم بثلثمائة بين قتيل و جريح، و طلب من نابليون معاقبة أهالى طنطا لأن معظم الثوار كانوا منهم، و ألح فى طلب المدد من الرجال و المدافع لإخضاعهم. و لكن نابليون جنح وقتا ما إلى الحكمة، و آثر أن يتريث و لا يتمادى فى التقتيل و التنكيل، إذ خشى عاقبة انفجار الهياج فى مدينة لها حرمتها عند الأهلين، و كان القائد قد نبه نابليون إلى أن الثوار قد استعانوا بالعرب، فكفه نابليون أن يأخذ الرهائن منهم لإخضاعهم، و إن لم يذعنوا فالينكل بهم. و قد عزم نابليون على تجريد الحملة عليهم بقيادة قائد جديد عينه قومندانا لمديرية المنوفية، و أمره أن يسير إلى العرب فى سنباط حيث يرابطون بها و يحاربهم، و ينتزع منهم الرهائن و الأسلحة. مقاومة عشما وفى عشما قرر الجنرال لانوس مهاجمة القرية التابعة لشبين الكوم، لتقليم اظاهفر زعيمها المشهور "ابو شعير" ليتمكن لانوس بجنوده من تطويق القرية ومحاصرة بيت "ابو شعير" الذى وصفه "لانوس" بإنه قصر محصن تحصينا تاما بالنسبة لحالة البلاد، و قد علم أبو شعير بوصول الفرنسيين فركب فى رهط من رجاله استعدادا للقتال، وسعى لانوس فى أخذه بالحسنى، و لكنه أجاب بإطلاق الرصاص على الفرنسين، فأمر الجنرال لانوس رجاله باقتحام أسوار القصر ، وأدرك أبو شعير أنه واقع لامحالة فى أسر الفرنسيين ، فأمر جنوده أن يطلقوا النار على الجنود ليشغلهم عن نفسه و يلوذ بالنجاة، وقد تمكن من تسلق الأسوار ثم ألقى بنفسه فى الترعة و قطعها سباحة، و ما إن وصل إلى الشاطئ الآخر حتى أصابته رصاصة جندلته فمات شهيدا، وكان بطلا من أبطال المقاومة الأهلية، و أعتبر الفرنسيين أن القضاء عليه انتصارا كبيرا، فقد ابتهج الجنرال لانوس، و أرسل إلى نابليون بتاريخ 23 أكتوبر ينبئه بمصرعه. نساء المنصورة انطلقت الحملة الفرنسية الى المنصورةودمياط، مضى الجنرال فيال قومندانا بفرقته الى المديريتين لإخضاعهما وإحتل المنصورة وترك فيها 120 جندياً متجهاً الى الشمال، الا ان اهل المدينة لم يتحملوا، وقامت نساء المنصورة بتحريض ازواجها على الثورة ومقاومة الاحتلال الفرنسى، ولما شعر الجنود الفرنسيين بالخطر، احتموا بثكناتهم، الا ان اهل المدينة حاصروهم وشرعوا فى دك حصونهم واشعال النيران فيها، وابادوهم عن اخرهم الا من امراة احد الضباط وابنتها ابقوا عليهم. وتشير المراجع الفرنسية فى هذا الشأن ان الفتاة اشتراها شيخ العرب "أبو قورة" بميت العامل (مركز أجا) و تزوج بها فلبثت عنده حتى مات عنها سنة 1808 فى عهد محمد على، و بقيت حافظة على عهده قائمة على تربية أولادها منه. وكان لواقعة المنصورة مردود فعل فى البلدان المجاورة، وهو ما دفع اعيانها يكتبون رسالة يتبرؤون من الاعتداء على الجنود الفرنسيين، وإنطلق قاضى المنصورة الى القاهرة ليدفع عن اهل المدينة وحتى يمنع عنهم العقاب، الا ان الجنرال الذى وصف بالحكيم حينها ليكتفى بإصدار حكم على رجلان كانت لهما شهرة فى المنصورة بالاعدام، وهما الأمير مصطفى وعلى العديسى، بعد ان ثبت تورطهما فى اعمال القتل، وتم تنفيذ حكم الاعدام ضدهما، وطاف الجنود برأسيهما فى شوارع المدينة عبرة وإرهاباً. فى الحلقة القادمة: نكشف وقائع الحملة الفرنسية على البحر الصغير، وشعلة الثورة فى دمياط، ومعركة الجمالية العنيفة، ومقاومة محافظات الوجة القبلى، وأكبر خسائر منيت بها القوات الفرنسية فى قنا، وسر عبارة ديزية لنابليون عندما قال: " انى لا اكتم الحقيقة، إننا لن نكون سادة فى هذه البلاد، لإننا اذا اخلينا بلدة لحظة من الجنود، عادت لحالتها القديمة".