سمير درويش أتصور أن الموسيقي ولدت معي في اللحظة ذاتها، فعلاقتنا قوية حد الاندماج، بدأ الأمر قبل أن تتكون ذاكرتي، كنت كلما استمعت إلي موسيقي اهتزت أعضاء جسدي كلها بانتظام، الأمر يتخطي الحركة الخارجية إلي العمق، لهذا تصورت في صغري أنني سأكون مطربًا، لأنني أغني أو أدندن المقطوعات الموسيقية -التي أحفظها فور سماعها للمرة الأولي- طوال الوقت. حتي الآن أفعل هذا، أغني، في البيت والشارع ومقر العمل وفي وسائل المواصلات.. تجذبني الموسيقي الكلاسيكية أكثر، كنت شغوفًا بالموسيقي العربية فقط في صغري لأنها الوحيدة التي كانت متاحة، ثم اكتشفت الموسيقات الأجنبية، واستمعت إلي الكلاسيكيات وحفظت بعضها، وأصبحت جزءاً من تكويني النفسي والفني. الشعر شكل من أشكال التأليف الموسيقي، هذه حقيقة بدائية مجردة، ليس لأنه كان تفعيليًّا منتظمًا فقط، ولكن لأن الشاعر الحديث، الذي استغني عن الموسيقي التراتبية، يصنع تناغمًا بين الحروف والكلمات والجمل والمقاطع، يضمن سلاسة القراءة، كأن القارئ يمشي علي الماء، فلا يقع في الفجوات التي تكون موجودة في النصوص الرديئة، وهذا -بالتحديد- يجعلني أتأمل النصوص الجديدة جدًّا طويلًا، نصوص الفيسبوك والشعراء الذين لا يعرفون العروض، هل يمكن أن يكون النص خاليًا من الموسيقي إلي هذا الحد ويعيش؟ تجربتي المتواضعة في كتابة الشعر لم تحتف بالموسيقي فقط، ظاهرية كانت أم باطنية، ولكنني اتخذت من الموسيقي الخام مادة لها، فكتبت في بداية التسعينيات الماضية قصيدة بعنوان »العرافة والعطور الساحرة» عن موسيقي باليه وضعها عمر خيرت لفرقة باليه بولندية بالاسم نفسه، وبعد ذلك كثيرًا ما ضمنت مقاطع من أغنيات أثرت فيَّ وأحببتها، أو كانت حاضرة وقت الكتابة، أو علي الأقل وقت اختمار الحالة، وفي قصيدة طويلة مكونة من 15 مشهدًا تعكس فصولًا من يومي، كان أحدها مقطعًا من أغنية لأم كلثوم، دون أية إضافات. أم كلثوم.. سأعترف لك أن كلمة »غناء» تحيلني إلي أم كلثوم، ثم يمكن أن نتفرع بعد ذلك، لكنها الوحيدة التي لا أسمعها بأذني، لأنها تتسرب وتتسلل وتتوغل داخلي دون أن ألحظها، فعلًا، حين أستمع إلي أم كلثوم لا أشعر إلا بالتوحد، بالصمت، وبالحب العميق، أستطيع أن أقرأ وأكتب وأعمل وأنجز وأنا أستمع إليها، أنا الرجل الذي لا يستطيع التركيز في شيئين معًا! علاقة الشاعر بالموسيقي إذن ليست علاقة ظاهرية متعمدة، وأنا أتحدث عن نفسي هنا بالتأكيد، بمعني أنني لا أدير موسيقي ما وأنا أكتب القصيدة، أو أنني أتوقف عن كتابة الشعر إن لم استمع -هنا والآن- إلي الموسيقي، الأمر ليس مباشرًا هكذا، لأن الموسيقي تسكن الشاعر وتدخل في تكوينه، لذلك لا يكون محتاجًا إلي استدعائها من الخارج، لكنه حين يمتلئ بالقصيدة، يمتلئ في الوقت ذاته بالموسيقي واللغة والألوان والأصوات، بالضبط كما لا يستدعي الموسيقي قصيدة مثلاً أو مقطوعة موسيقية له أو لغيره لكي يبدع، فهذه الأشياء تكون باطنية أكثر، روحانية وصافية وعميقة بقدر الإمكان. في فترات طويلة كنت أستمع إلي أصوات الطبيعة، صوت اهتزاز فروع الأشجار، وصوت الموج، وأصوات الطيور، وحتي صوت الهواء، وفي الليل أستمع إلي الوشيش الخافت لجهاز الكمبيوتر، والأصوات المكتومة التي تتسرب من الشارع، وأصوات حشرات الليل، وأستعجب لأنها تأتي متناغمة كأنها تصدر عن أوركسترا، كثيرًا ما كتبت هذا في قصائدي، خاصة في ديوان »أبيض شفاف”، الذي يحفل بتلك الأصوات الموسيقية، أو المموسقة. مع كل ذلك علينا أن نعترف أن ثمة فسادًا صوتيًّا مفروضًا علينا في حياتنا اليومية، أولاً الآتي من ضجيج السيارات في الشوارع وعوادمها، ومن الأغاني العشوائية التي تذيعها سيارات الأجرة، والتي تنطلق من المحال التجارية والورش، وأصلاً أصوات الورش التي تتخلل الأحياء السكنية، كل هذا -وغيره كثير- يصنع حائلاً بين المرء والموسيقي، أو في حالات كثيرة يربط الموسيقي عنده بهذه الأصوات المنكرة، لذلك أول ما لفت نظري في شوارع نيويورك شيئان: الأول أنه من النادر أن تسمع صوت بوق سيارة، والثاني أن السلطات تذيع موسيقي كلاسيكية في الشوارع عبر ميكروفونات مثبتة في أماكن معينة، وبدرجة صوت لا تجرح الأذن، فلا تبدو خارجة عن الحركة العادية للناس والسيارات!