في فترة من فترات العصر الذهبي للغناء كانت قصيدة الفصحي سيدة الموقف يتغني بها كبار نجوم الغناء باعتبارها الواجهة الجميلة التي تعبر عن مكانة الأغنية التي ترتقي بالذوق العام لدي المستمعين في مصر والوطن العربي وكان كبار الشعراء يتباهون بكتابة قصائدهم لدرجة أن المشاهير منهم من أمثال نزار قباني والهادي أدم وعبد الله الفيصل يحضرون إلي مصر قلعة الثقافة والفن ويلتقون بأساطين الموسيقي ولمعت في هذا الزمن قصائد عظيمة نذكر منها مصر تتحدث عن نفسها لشاعر النيل حافظ إبراهيم وتلحين السنباطي غناء أم كلثوم, وقف الخلق ينظرون جميعا.. كيف أبني قواعد المجد وحدي ولمعت أيضا رائعة كامل الشناوي لحن عبد الوهاب وغناء أم كلثوم علي باب مصر تدق الأكف ويعلو الضجيج.. رياح تثور.. جبال تدور.. بحار تهيج.. أنا الشعب لا أعرف المستحيلا.. ولا أرتضي للخلود بديلا ونفس الشئ بالنسبة للفنانة نجاة التي تغنت بأشعار نزار الذي هو التقي بالموسيقار عبد الوهاب في باريس وأهدي قصيدة أيظن لتغنيها نجاة, أيظن أني لعبة في يديه.. أنا لا أفكر في الرجوع إليه.. اليوم عاد كأن شيئا لم يكن.. وبراءة الأطفال في عينيه ولمعت هذه القصيدة ورددتها الملايين خاصة في المقطع الذي يقول: حتي فساتيني التي أهملتها فرحت به رقصت علي قدميه, وغني عبدالوهاب بصوته النهر الخالد شعر محمود حسن اسماعيل مسافر زاده الخيال.. والحب والعطر والظلال وانتشرت رائعتا نزار قباني لحن الموسيقار محمد الموجي قارئة الفنجان( في حياتك يا ولدي إمرأة.. عيناها سبحان المعبود, ورسالة من تحت الماء الموج الأزرق في عينيك يناديني نحو الأعمق وأنا ما عندي تجربة في الحب ولا عندي زورق إني أغرق عندما حضر نزار إلي القاهرة ليعقد عدة جلسات بصديقه الموجي في منزله بشارع البراد بالعباسية وحققت القصيدتان نجاحا مدويا وطبع منهما آلاف الاسطوانات والألبومات الغنائية, وغيرها من القصائد الأخري التي تغني بها كبار المطربين في مصر والوطن العربي, حيث كانت القصيدة التي تكتب باللغة العربية الفصحي هي السائدة في ذلك الوقت وتراجعت بسببها أغاني العامية وكانت الإذاعة المصرية تفضل القصيدة الشعرية عن كل الأغاني العامية التي تعرض عليها. وتشاء الظروف أن تلتقي الفنانة القديرة وردة الجزائرية صديقها الموسيقار رياض السنباطي في منزله بشارع إسماعيل الفلكي بمصر الجديدة والذي كانت غنت له من قبل عند مجيئها للقاهرة أغنيتها الرائعة يا لعبة الأيام للشاعر علي مهدي, لتستمع من السنباطي إلي مطلع قصيدة لا تقل لي ضاع حبي من يدي للشاعر إبراهيم عيسي وكانت قد علمت بأنه يعتز بهذه القصيدة ولحنها علي العود ليغنيها بنفسه وأبدت رغبتها في غناء هذه القصيدة ورحب بها وأمسك العود لتغني معه لا تقل لي ضاع حبي من يدي.. يا حبيبي أنت أمسي وغدي.. فترفق لا تحطم معبدي.. إن في عينيك همس الموعد, فتنبهر بأداء السنباطي وتنتظر بعض الوقت إلي أن يكمل هذا المقطع وتغني معه أيضا لا تدعني أشتكي طول الطريق.. ثم أغفو فوق وهم كالحريق.. كغريق مستجير بغريق.. إن قلبي بعد ما ذاق الرحيق..لا يفيق, ووسط فرحتها باللحن والكلمات تتصل بصديقها الموسيقار أحمد فؤاد حسن قائد الفرقة الماسية وتبلغه أنها عند الموسيقار الكبير رياض السنباطي الذي رحب به وأبلغه بالحضور في اليوم التالي لكتابة النوتة الموسيقية, ويحضر في الموعد المحدد ويتم كتابة النوتة التي استغرقت حوالي ساعتين ونصف ليعود أحمد فؤاد إلي مكتبة في عمارة المقاولين العرب بوسط البلد ويطبع منها خمسة وثلاثين نسخة بعدد أعضاء الفرقة, ويتم حجز الاستوديو46 بالإذاعة وتبدأ البروفات ويمنع السنباطي كالعادة دخول اي أحد للاستوديو في اليومين الأولين للبروفة وربما عشرة أيام بالنسبة لأغاني أم كلثوم في اليوم الثالث ذهبت كاتب هذه السطور لحضور البروفة وجلست في كابينة الاستوديو بجوار مهندس الصوت وأنا أعلم أن السنباطي لا يمانع في وجودي لأني تعاملت معه كشاعر واختار أغنية اتصالحنا أنا وحبيبي غناء فايدة كامل عام1969, ومن مقتنيات صوت القاهرة بالإضافة إلي أنني كتبت معظم أغاني ابنه أحمد السنباطي وكثيرا ما كان يمر علينا ويلقي السلام ثم يتركنا لحالنا, أعود إلي لا تقل لي ليبلغ أداء وردة في الاستوديو قمته ففي المقطع الذي يقول: يا حبيبي أين أحلامي أين.. هل أضعنا كل شئ من يدينا.. بعد أن جن اللظي في شفتينا.. لا علينا إن ظمئنا فارتوينا.. وانتشينا لتغنيها في الحفل الذي نقلته الإذاعة والتليفزيون علي الهواء وتحقق نجاحا مدويا وأشعر أنا وزملائي الشعراء بروعة أشعار إبراهيم عيسي ولولا أنه شاعر متواضع مبتعد عن الأضواء لقدم لنا أكثر من عشر قصائد من هذا النوع ليلحنها كبار الملحنين من أمثال عبد الوهاب وكمال الطويل والموجي ويتغني بها كبار المطربين والمطربات لتزخر بها مكتبة الإذاعة, كما شعرت أيضا بأن إبراهيم عيسي من مدرسة الشاعر الكبير إبراهيم ناجي في حسن العبارة والمعني الجميل والجرس الموسيقي للكلمات وهو ما تأكد بوضوح في المقطع الذي يقول فيه إبراهيم عيسي: عد وعانق لهفة القلب الجريئة.. فالمصابيح علي دربي مضيئة.. عد فأيامي بأحلامي هنيئة.. وهوانا كان في الغيب مشيئة, وتختتم وردة القصيدة وسط تصفيق مدوي للمستمعين وهي تغني يا حبيبي لا تقل كنا وكانا.. لم يهن حبي ولا حبك هانا.. كم ظمئنا فتلاقت شفتانا.. وسكتنا فتناجت مقلتانا, وأيضا في البيتين الآتيين وافترقنا فاحترقنا شعلتين.. ثم همنا في الليالي دمعتين.. اثتنين لتنتهي الحفل وتصبح هذه القصيدة من أجمل ما عنت وردة من ألحان السنباطي وكلمات إبراهيم عيسي لتضيف إلي رصيدها الحافل بالأغاني العامية نقطة تحول جديدة في حياتها بقصائد الفصحي.