كثر الحديث عن مشروع أو مشاريع لقانون التأمين الصحى منذ سنوات ونشرت بعض مسودات لهذا المشروع التى أثارت الجدل كما تصدر تصريحات رسمية عديدة تقدم الوعود الوردية لنشر مظلة التأمين الصحى على كل مصرى فى أرض الوطن نظير دفع مبالغ متواضعة ولكى نوضح أبعاد هذا الموضوع الحيوى ينبغى أن نراجع بعض المبادئ والحقائق التى لا تقبل الجدل أو الإنكار ومنها: 1 التأمين الصحى كغيره من وسائل التأمين يهدف إلى التكافل والترابط بين مجموعة من الناس لمواجهة أخطار متوقعة ولكن حدوثها غير معروف ولذا يتكافل الجميع لمواجهتها، أما التأمين الصحى الاجتماعى فهو أن يوفر المجتمع والحكومة الأمن الصحى لكل مواطن طبقا للموارد المتاحة بحيث يحصل الجميع على المستوى المقبول من الخدمات الصحية دون أن تكون تكلفة هذه الخدمات عائقاً يمنع الحصول عليها أو سببا فى كارثة مالية للمريض وأسرته عند مواجهة المرض وبحيث تكون هذه الخدمات مقبولة ومحل ثقة المواطن حتى لا ينصرف عنها ويلجأ للقطاع الخاص الذى يختاره أو يضطر إلى استخدامه عند الشعور بخطورة المرض. 2 تواجه الدول الغنية والمتوسطة والفقيرة على السواء تحديات عامة هى الإصلاح الصحى، ومن خلالها يتم التطوير الجذرى للنظم الصحية كلها لمواجهة تحديات ثلاثة: أولها التغطية الشاملة للسكان بخدمات مقبولة الجودة فى حدود القدرات المالية للمجتمع وللمواطن وثانيا رفع مستوى الجودة إلى المعايير المقبولة علميا وعالميا إذ ليس هناك فائدة من تقديم خدمات لا ترقى إلى هذا المستوى، حيث إنها تعرض المنتفع بالخدمة إلى مخاطر قد تكون قاتلة.. وأما ثالث هذه التحديات وأهمها فهو الارتفاع الفلكى لتكلفة الخدمات الصحية عالميا مما اضطر الدول كافة إلى مضاعفة الإنفاق على الصحة كل عدة سنوات وذلك بسبب تقدم التقنية الطبية فى التشخيص والعلاج وزيادة توقعات الحياة فى المجتمعات، حيث يعيش الأفراد سنوات أطول كثيرا عن الماضى ولتوضيح ذلك نجد أن الفرد الذى كان يحتاج إلى أشعة عادية يجرى له الآن أشعة مقطعية وفوق صوتية وغيرهما مما يخدم الدقة فى التشخيص، ولكنه يضاعف التكاليف، أما المريض الذى كان يرضى بالاتكاء على عصاه فيتاح له الآن تبديل مفصل الركبة أو الفخذ وتزداد هذه التكاليف مع كبار السن الذين تزيد أعدادهم ونسبتهم فى جميع المجتمعات. 3 إن مصر تعانى مع باقى دول العالم من مواجهة هذه التحديات الثلاثة ولكن يضاف إلى ذلك مجموعة من المشاكل الأخرى التى تنفرد بها مصر أو بعض الدول النامية ومنها: الزيادة السكانية العالية، فمصر سوف يتضاعف عدد سكانها بعد 37 سنة وستواجه بالحاجة إلى توفير احتياجات صحية ل160 مليوناً وهو عدد يفوق دولاً كبرى مثل روسيا أو اليابان فى حين أن هذه الدول يتضاعف عدد سكانها كل 200 إلى 300 سنة. ثانيا: هناك نقص فى المعلومات الأساسية اللازمة للتخطيط والإدارة العلمية للخدمات الصحية أهمها حسابات التكاليف واستخدام الخدمات والملفات الطبية كاملة البيانات وغيرها وجميع البيانات المتوفرة حاليا هى إما أن تكون دراسات متقطعة للخبراء من الجهات المانحة وما أكثرها وأكثرهم أو بيانات أو مسوحاً لا ترتقى إلى مستوى الدقة والاعتماد والاستمرارية اللازمة لصحة استخدام هذه البيانات والمعلومات. وتعانى مصر أيضا من نقص الاستراتيجيات والخطط طويلة المدى والتى ترشد وتنفذ عمليات الإصلاح الصحى التى لا تتغير بتغيير المسئولين أو الوزارات وفى غياب الخطط العلمية الفعالة يرى المسئول الذى يعين حديثا مبررات قوية ليس فقط لتبديل الخطط بل أيضا تبديل القيادات والمسئولين القائمين عليها فيأتى القادة الجدد ويتكرر معهم مع حدث لمن سبقوهم. ونعانى فى مصر أيضا من ضعف المستوى العام لجودة الخدمات أو وجود فروق شديدة بين القطاع العام والخاص وكذلك فى داخل كل قطاع على حدة وقد نتج ذلك من أسباب عديدة أهمها عدم وجود نظم مستدامة لمراقبة الجودة وتدنى مستوى التعليم الطبى والتمريضى والفنى والإدارى فى مجالى الطب والإدارة الصحية. أما السبب الأخير وليس الأوحد فهو نقص تمويل الخدمات فى مصر بالمقارنة بالدول ذات المستوى المالى المماثل، فالدول الصناعية تنفق على الصحة ما بين 8 و5,17% من الدخل القومى تتكفل الخزانة بما يعادل نحو 70% عادة والباقى يتحمله المواطن وذلك بالمشاركة فى تكلفة العلاج ويعفى منها غير القادر، أما فى مصر فتبلغ التكلفة الكلية أقل من 5% من الدخل القومى وهى نسبة ضعيفة «وهى حاليا نحو 600 جنيه للفرد فى السنة» ولكن الأكثر من ذلك أن المواطن يدفع ثلثى هذه التكلفة مباشرة من جيبه الخاص وعند مواجهة المرض، أما الدولة بكل مرافقها الصحية «وهى أيضا التى يمولها المواطن من خلال الضرائب» فهى توفر ثلث التكاليف، فمثلا الهيئة العامة للتأمين الصحى والتى تغطى حوالى 52% من السكان نظريا فإن ميزانيتها تصل إلى 8% من الإنفاق الصحى فى مصر. هذه بعض الحقائق التى لا جدال فيها فما الذى حدث للمواطن المصرى. لا يمكن إنكار أن المؤشرات الصحية للسكان وخصوصا وفيات الأطفال وتوقعات الحياة وغيرها قد تحسنت كثيرا فى مصر ولكنها تحسنت أيضا فى أغلب دول العالم منها الدول النامية والدول الأقل من الدخل المتوسط بنفس الطريقة بل وأحسن من ذلك فى مجالات عديدة فمثلا نسبة الإصابة والوفيات بأمراض القلب والدورة الدموية والالتهاب الكبدى الوبائى فى مصر هى من أعلى النسب فى العالم. * المواطن الذى ينطبق عليه التأمين الصحى يحصل على نحو ربع خدمات العيادة الخارجية والزيارات التى يفترض أن يحصل عليها ونظرا لنقص الجودة أو فقدان الثقة أو كليهما معا فإنه يحصل على احتياجاته بمشقة وعسر مالى من القطاع الخاص. * المواطن الذى لم يطبق عليه التأمين الصحى بعد وهذا يشكل نصف المجتمع مصدر علاجه المتاح هو المستشفيات والعيادات الحكومية والجامعية هذه المجموعة من المواطنين هم هدف قانون التأمين الصحى الجديد والمزمع مناقشته فى الدورة البرلمانية الجديدة وهذه المجموعة تشكل النصف الأصعب من السكان لتطبيق التأمين الصحى، فمنهم 85% من العاملين فى القطاع الخاص الفردى أو الأقل من 10 عمال والعمال الزراعيين والعاطلين، والفقراء تحت مستوى خط الفقر وهم نحو 20 إلى 25 مليونا، وهذا النصف الأصعب بين السكان هو أيضا الأكثر مرضا لأن هناك ترابطاً بين الصحة ومستوى الفقر، وهو الذى ليس لديه صاحب عمل يساهم فى اشتراكات التأمين الصحى ويضاف إلى ذلك أنه الأكثر تعرضا لمخاطر البيئة التى تتفشى فى المياه والمرافق والأغذية والمساكن، ولذا يجب قبل مناقشة مشروع قانون التأمين الصحى تطرح عدة أسئلة أهمها أنه: لقد أعلن برنامج الرئيس مبارك فى عام 2005 نشر مظلة التأمين الصحى على جميع المواطنين وهذا البرنامج هو توجيه والتزام سياسى كان ينبغى أن يتحول إلى استراتيجيات علمية وعملية سليمة وهذه الاستراتيجيات تترجم إلى خطط فعالة وناجحة تحقق أهدافاً مرحلية واضحة، وهنا يجدر بالذكر أنه من غير المتوقع أن يطبق مثل هذا البرنامج بنجاح مقبول وفى أوضاع مماثلة لما هو قائم فى مصر فى فترة تقل عن 15 - 20 سنة، وذلك بشرط أن نبدأ الآن وبصدق وبجدية. فمثلا لقد بدأنا التأمين الصحى فى مصر منذ أكثر من 46 سنة ومن ذلك الوقت ونحن نتخبط ونتأرجح من قرار إلى قرار ومن خطة عشوائية إلى أخرى، وحديثا رفعنا شعار الإصلاح الصحى منذ 1986 ولم يحدث إصلاح صحى هيكلى فى النظام الصحى وأغلب ما حدث هو إضافة مبانٍ ومنشآت صحية تنقصها المعدات أو الأدوية والمهمات الطبية ويغيب عنها أغلب الأطباء الذين ينصرفون إلى الممارسة فى القطاع الخاص وهو مصدر الدخل الأساسى لكثير منهم. فى المقال القادم نستعرض مشروع هذا القانون وما الذى يمكن أن يقدم من إصلاح أو نشر للتأمين الصحى، وسوف يتضح لنا أن هذه التحديات المتراكمة والمعقدة لن يحلها قانون يركز على زيادة التمويل خصوصا أنه بوضعه المطروح لا ينتظر أن يحقق استدامة التمويل أو كفايته، وبالإضافة إلى هذا فإن المشروع لم يعالج المشاكل الرئيسية الأخرى فى تنظيم وتقديم وجودة الخدمات وصنع القر ار فى مجال الصحة والتأمين الصحى بل ترك هذه المشاكل الرئسية فى علم الغيب وفقاً لما تقرره الحكومة لاحقاً. أستاذ ومستشار التخطيط الصحي الدولي رئيس جمعية الصحة العامة بالولايات المتحدة