بنت العشرين بدت منهكة تماما وهي تقول لأمها رهينة حالة الإعياء الطويلة: «ياما كان نفسي أنام علي قطن نظيف.. وليس هذا الذي تفوح منه رائحة قطط وكلاب الشوارع». القطن الذي تستنكف منه «صباح» هو إجمالي المحصول الذي جمعه أهل الحارة من صناديق الزبالة للمساهمة في صناعة مرتبة تعجل بزواجها من «عبدالله». ماذا لو تمادي حرمان البنت واصطدم بتلك المحاولات التي جاهدت بلا رحمة أو هوادة لإقناعنا بأن القطن المصري كان بالأمس القريب ماركة مسجلة يطاردها العالم،ومنه من لديه الاستعداد لأن يحارب من أجلها.. كان مصدر الدخل القومي الأول وبلا منافس. أكيد الإجابة لن تكون ناصعة البياض كما هو حال القطن المصري في ألبوم الذكريات ولا حتي بلون القطن المعتق برائحة القطط والكلاب الضالة. عموما.. القدر لم يمنح حرمان «صباح» فرصة التمادي، وعاقبها في عز لحظة التمني بلمبة الجاز التي سقطت علي قطن مرتبة الزوجية وفرضت عليه اللون الأسود الكئيب.. اللون الرسمي والحقيقي ليوميات «الحارة». منذ أن بدأ عرض المسلسل وهو متهم بالسوداوية والكآبة.. محاولات عصبية تضغط علي فريق العمل خصوصا المؤلف أحمد عبدالله لانتزاع اعتراف يؤكد الاتهام كأنهم يشوهون الواقع ويلصقون به ما ليس فيه.. هناك من رأي أن قرار عرض المسلسل في رمضان لايناسب أريحية الشهر الكريم.. علما بأن كرم الشهر وأريحيته هو منحة السماء لسكان الحارة المتهم فيهم أحمد عبدالله ورفاقه. -- محاولات الضغط التي ترمي وقائع الحارة بالسواد والكآبة وفضح الأسرار المؤلمة والمحرجة، عابت علي الممثلة المتوهجة «نيللي كريم» المشاركة في المسلسل أصلا، علي أساس أن جمالها ليس من النوع الذي تنتجه الحارة.. ملامحها أوروبية يستحيل خروجها من الأزقة الضيقة والبيوت الصفيح وعوالم الهامش السفلي.. يستنكرون علي الحارة إنتاج عيون هاربة من الأسود إلي الأخضر أو الأزرق ولو علي سبيل الاستثناء الذي يؤكد القبح المحيط ولاينفيه.. أو الرمز لجمال الحارة وكبريائها الذي شارف علي التحلل.. نيللي - أو مني - حرة مأساتها الحزينة لم تأكل كرامتها، لاتزال مؤمنة بحقها في الرفض حتي للشاب المغامر الذي أنقذها ويطلب يدها للزواج عرفيا - مؤقتا - إذ إن زواجه الرسمي منها سيضيع عليه «دبورة» الضابط التي يحلم بها ولديه الاستعداد لأن يدوس علي أي أحد أو أي شيء من أجلها. -- في الحارة لا مكان للخوارق أو الأبطال السوبر، والسنيدة خارج نطاق الأحداث والوقائع.. لكل واحد منهم مأساة ترسم بطولته.. الرجل الذي يعيش حالة رعب وفزع من الانحلال المحيط، يريد الحفاظ علي براءة أسرته من السقوط.. يمسك علي دينه ويتشدد في خطبه.. الدين عنده أقوي وسائل الترويع وأكثرها فاعلية.. يعيش الأمرين بين الصورة النقية التي يجاهد في تثبيتها عن نفسه وبيته.. ورغبة أسرته في التماهي مع الحياة والمتوفر من المستحدثات التي باتت محرمة حسب رؤيته.. في أحد المشاهد يجمع أسرته ليقدم لهم المفاجأة التي أحضرها وكانت جهاز تليفزيون.. فرحة الأسرة انهارت مع تشديد الشيخ - صلاح عبدالله - بأنه ممنوع علي أي منهم أن يفتحه إلا وقت إذاعة الدرس الديني الذي يقدمه.. ثم منع تشغيله في عدم وجوده في البيت.. قال لهم: حاسس إني أدخلت بيتي المسيح الدجال - وكان يقصد التليفزيون. التليفزيون هدية تلقاها الشيخ من مسئول قناة فضائية تدعي حماية الدين بالإكراه، استقطب الشيخ بعد أن اطمأن لمردود خطبه النارية العاصفة في جذب جماهير غفيرة تحركها مركبات نقص معقدة وإحساس مربك بتأنيب الضمير، طامعة في غفران سهل لايشترط الاجتهاد والعمل. صعود نجومية الشيخ يتزامن مع صعود نجومية ابنه في عالم الطرب .. الأب متبرئ من الطريق الذي اختاره الابن باعتباره حراما.. يسمع غناءه - أو بكاءه - خلسة عبر الألبوم، يشفق عليه ولايسامحه، بينما الابن حبيس دوامته الخاصة إذ أنه رافض نوعية الغناء الذي يؤديه لأنه لا يأخذ المستمع إلي مشاعر إيجابية وإنما يزايد علي عزلته لصالح رومانسية مهلهلة وحب عاجز عن أي شئ إلا الولولة والنحيب.. وهو مستسلم، عديم الحيلة أمام سطوة الثروة ولذة الشهرة. الأب يمثل قطاعا عريضا من أباطرة التدين الفضائي منتشر ومتوحش، والابن يمثل القطاع الأعرض من مطربي اللحظة.. فلماذا هما كئيبان في حارة أحمد عبدالله ورفاقه، ومبهجان خارجها؟ «عبدالله» «زوج صباح» - فتاة القطن - هو صوت ما يزيد علي ستة ملايين شاب ينتظرون حلم الثراء السريع عبر شنطة مليانة دولارات ستسقط عليه من السماء.. هكذا دون عناء أو اجتهاد أو عمل.. يوم الصباحية تسأله زوجته صباح: ليه ما رحناش إسكندرية 5 أيام عسل.. فيرد: لو رحنا هنرجع نلاقي أمهاتنا ماتت من الصدمة.. العسل مش لينا. لكنه يشارك متعهد خرابات في البحث عن كنز لأحد المتسولين.. يدفع للعامل الواحد 50 جنيها في الليلة مقابل الحفر.. وفي إحدي الخرابات يظهر الماء، فيوقف الشريكان العمل إذ إن مواصلته - حسب المتعهد - تستدعي الحصول علي الزئبق الأحمر الذي يصل ثمن الجرام منه إلي 100 ألف جنيه، لكن متعهد الخرابات يؤكد ل عبدالله - محمود عبدالمغني - أنه يستطيع الحصول عليه ب 40 ألفا فقط يدفع هو نصفها علي أن يتحمل «عبدالله» النصف الثاني وألا تتوقف العملية.. علي الفور يجري عبدالله إلي منزله ويسرق المبلغ الذي سيحقق حلم الحج لوالدته. كذلك الشيخ الكفيف الغارق في الحزن لشكه في سلوك ابنته، الذي في أحد صداماته معها يقول لها: طب يابنت ال ...... استني لما أموت وبعدين اعملي ما بدالك. تقريبا.. الشيخ الكفيف يعبر عن قناعة عامة تفتقد التواصل مع ماقبلها وما بعدها لايهم ما سيحدث حتي لمن هم من صلبه مادام أنه سينجو، وليأكل الطوفان الأخضر واليابس من بعده.. والصيدلي الذي يمتلك صيدلية في الحارة لكنه يعيش بعيدا عنها أملا في أن ينجو بابنه من قبح الحارة.. هو أكبر المساهمين في صناعة هذا القبح لأنه يبيع الحبوب المدرجة في قائمة المخدرات بدون روشتة.. وعندما يمرض ينزل ابنه إلي الصيدلية ويلقي طعنة بمطواة من مدمن لم يحتمل رفض الابن أن يبعيه حبوبا مخدرة.. والأم التي تتنازل عن ابنتها لعائلة يضمن لها الوسطية وحياة محدودة الألم.. وأخري تبحث مع أولادها الثمن الذي سيبيعون به ابنتها الوحيدة لثري عربي.. والأخ الذي يثور في وجه هذا الثري غيرة علي سمعة أخيه لكنه لحظة بيعها يساوم علي نوع العملة التي سيدفع بها الثري. والابن الفهلوي الذي ينافق والده علي طريقة «اطعم الفم تستحي العين» حتي لايطرده وزوجته من البيت المتهالك. كل هذا التشوه لا يحجب شعاع الأمل المتجدد في شخصية «أم صباح» أو سوسن بدر الذي يزداد بريقه مع وصول المآسي إلي ذروتها.. الأمل في أن تسترد الحارة التناغم المفقود، وتزيل الشحوب الذي طغي علي ملامحها وبوابتها. -- وقائع حارة أحمد عبدالله ورفاقه تمثل النسخة الشعبية من فيلم «كباريه» لنفس المؤلف.. فهل يستدعي هذا التماس الكبير النهاية التي حددها أحمد عبدالله للكباريه بتفجيره بعبوة ديناميت يخبئها مجنون يظن أنه مفوض من السماء للتدمير باعتباره أسهل وأسرع من الهداية.. أم أن هناك نهاية أخري تنتصر للجوانب الإيجابية التي يغلفها الشحوب. ورغم أية تحفظات علي فتيات «الحارة» إلا أنها تضمن للمسلسل تناولاً أرقي وأكثر فاعلية وتأثيرا من تناول أفلام خالد يوسف للشريحة ذاتها.. أفلام خالد أقرب إلي تحقيقات صحفية عنيفة لاترسب أي اهتمام بالشريحة المعنية قدر اهتمامها بمعايرة الأداء الحكومي المترهل الذي لاتنقصه معايرة.. كأنه يلتقط صورة للقطة معينة دموية عنيفة تفعل اليأس والإحباط، ولا شيء أكثر من انتظار مكافأة الظهور علي جمهور يأسره الصوت العالي كمناضل يمتد نسبه إلي محرر القارة المنسية «تشي جيفارا».