من أجل شراكة حوار مفعم بالمعلومات، ومؤطر بالاحترام، ومعزز بالتجربة.. ومن أجل ربط الفكر بالسياسة وبالواقع السياسى.. ومن أجل الاستفادة من التاريخ بعد توظيفه لصالح حاضرنا وبناء مستقبلنا.. من أجل تقديم المزيد من الحلول لمأزق العراق اليوم بعد أن دخل النفق الصعب، من أجل خلاص أهله من كل التحديات التى حاقت بهم، ولم تزل تقيدهم بكل قيودها، فإن من الأهمية بمكان، أن نحاور شخصية مرموقة، وهو واحد من أعز أصدقائنا العرب نعم أنه الأستاذ عبدالله كمال النائب بمجلس الشورى المصرى ورئيس تحرير كل من جريدة ومجلة روزاليوسف.. وقد عرفت فى الرجل خصاله العربية، وثقافته العليا، وأسلوبه الرائع، وخصب معالجاته لقضايا عدة فى آن واحد، وهذا دليل حيويته ونشاطه الإعلامى والسياسى فى قلب مصر، ناهيكم عن قوة حجته وبيانه، خصوصا فى مجادلاته وحواراته التى أجده يصول ويجول فيها بكفاءة نادرة.. وبعد هذا وذاك فثمة حاجة اليوم إلى حوار عراقى مصرى لمسائل حيوية وأساسية فى الحياة العربية حاضرا ومستقبلا. اليوم دعونى أتوقف مع الرجل فى الذى طرحه لأول مرة وهو يعالج مسألة الديكتاتور العادل فكان أن أوضحت له فى رد مقتضب بعض ما أجده من رأى وتفكير بهذه المسألة التى تشغل بالنا نحن كواحد من البدائل التى طرحت منذ مائة سنة..وإن مجرد البحث عن بديل، يعنى إخفاق مجتمعاتنا فى تقبل الأدوات والعناصر الجديدة، ولكن أن قبلنا طرح بديل كهذا على ألسنة بعض مفكرينا قبل مائة سنة، فهل من الصواب أن يطالب بنفس البديل اليوم معنى ذلك أن مجتمعاتنا لم تزل تراوح فى مكانها.. علما بأن الديكتاتورية أو الاستبداد لا يمكنهما أن يستقيما أبدا مع العدالة! وإذا آمنا حقا بمثل هذا الحل فمن يضمن أن يكون حلا مرحليا أو وقتيا، ولقد علمتنا تجارب العراقيين أنه متى ما استحوذ ديكتاتور على السلطة والقوة والمال، وخصوصا فى العراق فسيعمل بكل طاقته على أن يجعل العراق مزرعة له، ويجعل شعب العراق عبيداً لإرادته والأمر لا يتوقف على حفنة من الضباط العسكريين بل يبدو أن النزعة الديكتاتورية أو حتى طبيعة الاستبداد كامنة فى البعض من الناس سواء جاء بثياب عسكرية أو ببدلة مدنية.. دعونى الآن التفت إلى الصديق القدير عبد الله كمال لأعلمه بسرورى الكبير بهذا الجدل الحيوى سواء كان فكريا أو تاريخيا أو سياسيا، وأتمنى أن يكون حوارا رائعا.. شاكرا وقفته عند العراق الذى غدا يكوى القلب فعلا.. العراق الذى تغنى به الناس، وخصوصا فى مصر وصدحت الحناجر بمفاخره وعظمته وعاصمة أمجاده كى يغدو اليوم يثير اللوعة والأسى.. أننى أشكر صديقى العزيز على هذه الوقفة الدقيقة، وخصوصا عند بعض الأفكار التى طرحتها فى مقالى المختزل.. ودعنى أتوقف أنا الآخر عند نقطة بعد أخرى متسائلا أو مجيبا، وخصوصا فى موضوع يعد اليوم فى غاية الأهمية، كونه يخص الرؤية بالنسبة لمستقبلنا ومستقبل أجيالنا. أولا : لا يمكن مقارنة الأوضاع الماليزية برغم كل تنوعاتها إزاء الأوضاع التى عليها مجتمعات إسلامية أخرى، مثل الباكستان أو أفغانستان أو العراق أو إيران أو غيرها.. الماليزيون مسالمون، لهم القدرة الصامتة على الاستجابة للتحديات، وهم يعملون بصمت أيضا تختلف طبائعهم الاجتماعية عن طبائعنا نحن سكان الشرق الأوسط، وبالتالى ستختلف أساليبهم السياسية.. صحيح أن مجتمعهم متنوع، ولكنه لم يمر فى تاريخه الحديث بمخاضات صعبة كالتى خاضها العراق مثلا، نتجت عنها تناقضات لا أول لها ولا آخر كالتى نعيشها اليوم، أو لم يحدث فى بلدان جنوب شرق آسيا كما حدث فى مجتمعاتنا العربية. وعليه لا يمكننى مقارنة مهاتير محمد بصدام حسين، فلكل منهما شخصيته وتاريخه ومواصفاته وكيفية صنع أدوات الحكم لديه. لا يمكن البتة مقارنة ديكتاتورية صدام حسين بديكتاتورية مهاتير، فلكل منهما أسلوبه فى التعامل مع أبناء شعبه ! أن العراق كما قلت استثناء ليس فى المنطقة فحسب، بل فى بيئات العالم.. كنت أتمنى أن يتأهل عراقى واحد ويمتلك مؤهلات مهاتير ليكون باستطاعته قيادة الدفة الصعبة لمرحلة ما بعد صدام، والتى طالبت بها منذ العام 2002 وأسميتها من أجل فترة نقاهة، يستعيد العراق خلالها عافيته ويتأهل لخوض الديمقراطية، قبل أن تترجم الأخيرة إلى فوضى عارمة، وهذا ما حصل ويا للأسف الشديد. ثانيا : ومثلما هو الفرق كبير جدا بين ماليزى مثل مهاتير، وعراقى مثل صدام، كذلك هو العراق إزاء الهند.. صحيح أن تعقيدات الهند المزمنة، لا يمكن أن تحل بسهولة ويسر بعد تاريخ حافل بالأمجاد والتعاسة معا، ولكن جاء بعد المؤسس المهاتما غاندى كل من الرئيسين نهرو وابنته أنديرا، ومع كليهما نخبة من الساسة المحنكين، ورافقهما تطور بناء سياسى بمؤسسات قائمة بذاتها وأحزاب مدنية.. كما كان هو حال محمد على جناح فى الباكستان، أو أتاتورك فى تركيا.. ولقد بقيت رموز هذه البلدان باقية حتى يومنا هذا فى الذاكرة الجمعية والضمائر الوطنية.. لم تقلع كالذى حدث فى مصر 1952 والعراق 1958 مثلا ! وإن وجود كل من مصر والعراق يمتد إلى أعماق العصور الكلاسيكية قبل الآخرين. إن العراق الذى تأسست دولته الحديثة عام 1921 على يد الملك فيصل الأول، والذى جمع شمل المجتمع فى لحمة وطنية واحدة وبإطار مدنى وبأحزاب وطنية ومن خلال دستور رصين.. لكنه أخفق، ولم يتطور سياسيا، وخصوصا بعد العام 1958 جراء المشكلات الصعبة التى ألمت به على أيدى الحكام العسكريين أو الحزبيين القوميين والبعثيين والصراع مع الشيوعيين، فتوالدت تناقضات لا يمكن تخيلها، وهذا لم يحدث فى الهند مثلا.. فى الهند لم نجد الدولة تجنح لهذا الدين أو تلك الطائفة أو هذه القرية أو تلك العشيرة.. ولكن فى العراق، حلت الفجائع مذ انقسم المجتمع إلى نصفين اثنين لأسباب مذهبية وطائفية، وترسخ دور القبيلة والعشيرة والأسرة والطائفة.. حتى لنجد انعكاسات ذلك على المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية وحتى على الأحزاب والمنظمات والنقابات.. ناهيكم عن تأثير زحف الريف على المدينة واغتيال طابعها الحضارى الذى عرفت به منذ أزمان طويلة تمتد فى عمق التاريخ. ثالثا : وهل تعتقد عزيزى أن البيئة السياسية العراقية، هى التى أفرزت جوقات من يحكمه اليوم ؟ وهل تعتقد أن البيئة السياسية العراقية هى التى جاءت بحكم صدام للعراق سابقا؟ لدى قناعة ربما كنت على خطأ فيها.. أن أغلب الذين حكموا العراق منذ تأسيسه حتى يومنا هذا، كانوا صناعة أجنبية، ولم يكن للعراقيين أية إرادة فى اختيار حكامهم، ولا أية بيئة سياسة باستطاعة المرء أن يجد نفسه صاحب مسئولية فيها! اليوم، رحل صدام عن حكم العراق بعد أن أفرغ العراق من كل السياسيين المستقلين والمتحزبين وحتى من النقابيين.. وهاجر أغلب المفكرين والمختصين ناهيكم عن المعارضين والمناوئين أو حتى الصامتين إلى شتات العالم كله! وكان العراق يعيش فراغا سياسيا كبيرا مع تداعيات أحادية سياسية مقدسة، وحروب دموية مستمرة، ومأزق حصار اقتصادى قاس، وغليان اجتماعى، وكبت نفسى، ورعب جماعى، ومخاوف من المجهول.. ولم تزل كلها تفرز حتى اليوم بآثارها فى ظل واقع كئيب ومستنسخ ومتفجر بالتناقضات!! صدقّنى أن هؤلاء من حكام العراق اليوم الذين جاءوا بعد صدام، لم يفرزهم الواقع، بقدر ما كانوا ورقة كرديت بأيدى الآخرين من غير العراقيين، ولقد برزوا على الساحة فجأة بعد أن تم تنصيبهم من قبل الأمريكان ! هنا أسأل : هل تعتقد يا عزيزى أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تعجز بالإتيان بكفاءات ورجالات ونسوة من العراقيين توليهم شئون تصريف البلاد وإعمارها وخلق الظروف المناسبة للبدء بالعملية السياسية، إن ثمة نخبا عراقية بمختلف التخصصات ينتشرون فى العالم.. وكان أغلبهم ينتظر دوره لخدمة البلاد والعباد، ولكنهم أبعدوا وهمشوا وأقصوا ضمن أجندة واضحة منذ العام 2003 وحتى يومنا هذا.. فلقد ذهب العديد من العراقيين المتميزين بشئون المؤسسات والإدارة والنفط والإعلام والاقتصاد والجيش والإعمار والصحة وحقوق الإنسان.. إلخ إلى العراق منطلقين من أماكن تواجدهم أو نفيهم فى العالم، ولكنهم اصطدموا بواقع سياسى يرفضهم رفضا تاما.. ومنذ تلك اللحظة، خلق ما يشبه الصراع بين أبناء الداخل وأبناء الخارج من دون أية أسباب حقيقية، علما بأن العراقيين فى الخارج قد وقفوا وقفات إنسانية لا تنسى إزاء أهلهم العراقيين فى الداخل طوال أزمان الحروب والحصار. إننى أعتقد أن العراقيين قادرون على بلورة نخبة حاكمة جديدة من بينهم، إذا منحوا دورهم كرجال ونسوة أكفاء ووطنيين يعوون حجم المأساة، ولكن السياسة الأمريكية كانت لا ترغب بهم واستندت على أحزاب دينية وطائفية وعرقية، وخرجت على العالم باسم «المكونات العراقية الأساسية الثلاث: السنة والشيعة والأكراد» بديلا عن تسمية الشعب العراقى الواحد، علما بأن المجتمع العراقى مختلط ومركب من عدة قوميات وأقليات وفئات، ولكن الأغلبية فيه عربية، إن العراق الذى ترونه ممزقا وكسيحا، متأخرا وضعيفا.. ولا يقوى على الحياة إلا من خلال ديكتاتور عادل، أو حاكم مستبد عادل وحتى إن كان ذلك لفترة مؤقتة، فإننى أعتقد أن العراق ليس بحاجة إلى مثل هذا «الديكتاتور» الذى لا ولن يستطيع أن يجمع البطش والعدالة فى العراق بيد واحدة!. إن العراق اليوم بحاجة ماسة إلى لحظة زمنية معينة، تصل من خلالها نخبة عراقية مؤهلة دستوريا لحكم البلاد، وليس لها إلا مشروع وطنى للتغيير والنزاهة والإصلاح، كى تبدأ مرحلة جديدة تسقط فيها كل السياسات التى طبقت عراقيا حتى الآن كالمحاصة مثلا، مع قوانين ردع، وعدالة توزيع، وتأسيس خدمات حيوية وتعديلات دستورية.. إلخ. إن مثل هذا سيأخذ العراق بعيدا عن مأزقه، وسيخرجه من النفق الذى دخل فيه.. وسيبدأ يحيا من جديد ضمن أسلوب جديد منفتح فى الداخل والخارج.. إن أى خطوة إيجابية من أجل ذلك.. هى تحقيق لحلم أغلب العراقيين. فالواقع يتغير فى لحظة زمنية معينة من دون أية حاجة إلى ديكتاتور جديد سيصفق له الناس ويهرجون ويرقصون أمامه، وما أن يسقط حتى يلعنوه أو يسحلونه أو يقطعوه إربا إربا فى الشوارع!.