يقف العراق الآن في مفترق طرق ومنعطف تاريخي بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة والتي أفرزت خريطة سياسية تختلف إلي حد كبير عن الخريطة التي سادت من قبل. والتي ارتكزت بشكل أساسي علي المحاصصة الطائفية والتدخل الخارجي واللتين شكلتا البيئة التي ترعرع فيها العنف الطائفي وعدم الاستقرار السياسي. فانتخابات مارس الماضي شهدت العديد من التغيرات الإيجابية من قبيل تراجع العامل الطائفي في اختيار المرشحين, بعد أن ذاق المواطن العراقي وبال الطائفية, كما شهدت أيضا تشكيل الائتلافات الانتخابية علي أسس سياسية وليست طائفية, إضافة لتراجع التدخل الأمريكي في دعم طرف بعينه لأسباب تتعلق بتوفير انسحاب آمن من البلاد, وانحسار الدعم الإيراني المباشر للكتل الشيعية وإن ظل في صورته الضمنية, كذلك زيادة مشاركة المكون السني في العملية السياسية بعد مقاطعتهم للانتخابات السابقة, وهذه التغيرات وإن بدت لا تمثل تحولا جذريا في المعادلة العراقية المختلة, إلا أنها في المقابل تمثل فرصة حقيقية أمام جميع العراقيين لتوظيفها التوظيف الأمثل باتجاه إعادة تشكيل مستقبل بلدهم وفق أسس جديدة تستهدف تحقيق الاستقرار السياسي والأمن وتحقيق التنمية واستعادة العراق لسيادته الكاملة ولدوره الإقليمي والعربي. ونجاح العراقيين في توظيف هذه الفرصة التاريخية يتطلب بدوره عددا من الشروط المهمة أولاها: إجراء مراجعة ذاتية شاملة لتفاعلات السنوات السبع الماضية وفقا لمنهج مختلف يراعي التعلم من الأخطاء السابقة والعمل علي تلافيها, وعلي رأسها الفكر الطائفي الذي يحكم العملية السياسية وتوزيع السلطة واقتسام الثروات, وبرغم أن غالبية الائتلافات السياسية حاولت التنصل من الطائفية في برامجها الانتخابية والتركيز علي المواطنة والعلمانية, فإنه لم يكن سوي خطاب سياسي للاستهلاك ومغازلة الناخب لحشد الاصوات دون تخل حقيقي عن تلك الطائفية, وهو الأمر الذي يتجلي الآن في الصراع السياسي المحتدم علي تشكيل الحكومة ومنصب رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية, والذي أصبح بالانتخاب المباشر بأغلبية ثلثي البرلمان بدلا من صيغة المجلس الرئاسي, حيث ساهم تقارب نتائج الكتل العراقية وعدم حصول ائتلاف بمفرده علي أغلبية مقاعد البرلمان, وبالتالي عدم قدرته علي تشكيل الحكومة دون التحالف مع الكتل الأخري, في زيادة تعقيد تشكيل الحكومة واحتمالات تأجيلها لشهور, كما حدث عقب انتخابات عام2005, الأمر الذي يخلق بدوره فراغا سياسيا وأمنيا يؤدي إلي استمرار دوامة العنف وإلي سعي أطراف إقليمية مثل إيران لملء هذا الفراغ, ومن ثم فإن اختزال الأولويات والاستغراق في تفاصيل توزيع المناصب علي أسس طائفية أيضا, قد يفوت علي العراقيين هذه المرة فرصة التحرك صوب طريق جديد نحو الاستقرار والخروج من النفق المظلم الذي تعيشه البلاد. لذلك فإن الخيار الوحيد لتجنب مأزق تعثر ولادة الحكومة, هو تشكيل حكومة شراكة وطنية تضم كافة ممثلي الكتل الفائزة وكافة المكونات العراقية الشيعية والسنية والكردية. ولاشك أن هذا الخيار يوفر حكومة قوية ومتماسكة تكون قادرة علي مواجهة التحديات الكبيرة التي يواجهها العراق داخليا وخارجيا وعلي رأسها الاستعداد لمرحلة ما بعد انسحاب القوات الأمريكية المقاتلة هذا العام تمهيدا لانسحابها بشكل كامل نهاية العام المقبل, وهذا الأمر يتطلب إعادة بناء قوات الجيش والشرطة العراقية لفرض الأمن والنظام والقانون ومنع انزلاق البلاد إلي حرب أهلية محتملة فيما بعد الانسحاب الأمريكي. إضافة لتحديات حل القضايا العالقة مثل مشكلة كركوك وقانون النفط والعلاقة بين المركز والأقاليم وتعديل الدستور وتحقيق التنمية ومحاربة الفساد الإداري وإعادة المهجرين العراقيين في الخارج وبناء علاقات العراق مع جيرانه علي أسس وعدم التدخل في الشئون الداخلية. وثانيها: أن الوضع في العراق يفرض أولوية ملحة لإجراء حوار وطني جاد بين كافة الطوائف والفئات العراقية لتقرير مستقبل البلاد وينطلق من أن استمرار الأوضاع المختلة الحالية سوف تعود عواقبها الوخيمة علي الجميع وأنه لا مخرج من المأزق العراقي الحالي سوي بأيدي العراقيين وحدهم وليس بأيدي الاطراف الخارجية, ونجاح هذا الحوار يتطلب أيضا التخلي عن منطق المباراة الصفرية ومحاولة طرف بعينه فرض سياسة الامر الواقع أو الحصول علي أكبر قدر من المكاسب علي حساب الآخرين, بل من الضروري تقديم تنازلات متبادلة تقوم علي التوفيق والتوازن بين مصالح جميع الأطراف, كذلك التخلي عن الماضي المرير وإجراء مصالحة وطنية حقيقية تدفع العراقيين لتوجيه جهودهم ومواردهم صوب البناء والتقدم وليس الانتقام أو السيطرة والتي أدخلت البلاد في دوامة رهيبة من العنف والقتل, والتي كان آخرها التفجيرات ضد السفارات الأجنبية. ربما تبدو المعضلة العراقية صعبة لكنها ليست عاصية علي الحل إذا ما حدث تحول حقيقي في أسس العملية السياسية وفي إحلال الديمقراطية القائمة علي مبدأ المواطنة التي تساوي بين جميع العراقيين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن اختلافاتهم السياسية والمذهبية واللغوية والعرقية, بل يمكن تحويل هذه الاختلافات إلي عامل ثراء في إطار صيغة التعايش المشترك, والذي نجحت فيها دول أخري كثيرة تشهد تنوعا عرقيا ودينيا, بدلا من أن يكون عامل تناحر وصراع تزكيه مصالح ضيقة داخلية وتوظفه أطراف خارجية لتحقيق مآربها. إن التأثير الخطير لما يحدث في العراق من تكريس ديمقراطية الطائفية ليس في عواقبها الوخيمة في استمرار العنف وعدم الاستقرار, وإنما بالأساس في أنه يشكل عائقا جوهريا أمام استعادة العراق لوضعه الطبيعي بين الأمم وفي توظيف ثرواته الطبيعية والبشرية الهائلة من أجل التقدم ورفع مستوي معيشة مواطنيه. ولذلك فإن الانتخابات البرلمانية الأخيرة برغم كونها تعد إنجازا في حد ذاته, فإنها تظل في إطار ديمقراطية الطائفية التي تتخذها الأطراف العراقية وسيلة للهيمنة والصراع للسيطرة علي السلطة والذي تزداد احتمالاته مع تعثر ولادة الحكومة الجديدة, ويظل الخاسر الوحيد في كل ذلك هو المواطن العراقي الذي يدفع ثمن التصارع بين نخب سياسية طائفية تعلي مصالحها الشخصية علي حساب مصلحة العراق العليا والتي تجعل من الضوء في نهاية النفق العراقي أمرا صعب المنال.