تغرق منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من ثلاثين سنة وحتى اليوم بمشكلات صعبة ربما لم تمر بها سابقا بتحول أزمات القرن العشرين السياسية وصرعات المؤدلجات الفكرية إلى حالات جديدة من الانقسام الثنائى فى العالم الإسلامى وبواجهات ليست سياسية حقيقية، بل بمضامين طوائفية ودينية وعرقية، سيقود المنطقة حتما نحو انقسامات اجتماعية خطيرة، علما بأن العالم الإسلامى كله، لم يمر بسلطة كهنوتية ولا بصراعات هرطقية كما حدث فى أوروبا، وقد انقلبت المجتمعات على عقبيها اليوم، لكى تمر بصراعات طوائفية لأن السلطة أصبحت بأيدى رجال دين، ولأول مرة فى تاريخنا.. واستنادا إلى أفكار كارل مانهايم، فإن المجتمعات تتقبل بسرعة ما يدغدغ أحلامها، فتعيش سرابا وهى تعتقد أن رجال الدين فوق الجميع.. فى حين أنها متهرئة ومتهتكة ولا تعرف معالجة أوضاعها إلا من خلال شعوذات سيكولوجية أو من خلال صراعات هرطقية! * من صراع الدول إلى تفكك المجتمعات لقد أفرغت الموجات والجماعات الدينية المتعصبة مجتمعاتنا من كل ترسبات الأيديولوجيات اليسارية وفراغات التنظيمات الحزبية سياسيا، وقادت بالضرورة إلى انقسام طائفى فاضح بين السنة والشيعة، أى بمعنى تفكك المجتمعات واقعيا.. ولم يكن بوسع أى فكر سياسى ليبرالى أن يسد الفراغات الناتجة عن أفول الانتماءات الوطنية والقومية، بحيث كانت الامتلاءات الطائفية أكبر بكثير من أفكار الأحرار المدنية، وهى قليلة ومحاربة، بل إنها اتهمت بالعمالة للأمريكان.. علما بأن السياسة الأمريكية قد ساهمت بإشعال حروب المنطقة، وإذكاء روح الطائفية والكراهية بين الأعراق والملل وشرائح المجتمعات، وهى بالأصل مجتمعات معقدة جدا. فتحولت من صراعات سياسية عرفناها فى القرن 20 إلى تصدعات اجتماعية سيعانى منها الجميع فى القرن ,.21 وفى هذا خطورة، لا يشعر بها إلا من يتأمل طويلا فى متغيرات المعادلة فى الصراع من الخفى الصامت إلى المكشوف المتحول.. واللعبة الدموية هنا هى بين الأكثريات لا بين الأقليات، فعلى الأقليات ألا تتدخل فى الصراع إزاء هذا أو ذاك أبدا لأنها سوف تحترق مباشرة! إن الانقسام بدأ يترسخ شيئا فشيئا فى مجتمعات الشرق الأوسط قاطبة، بعد أن استثمرت خفاياه ومسكوتاته طويلا لتنفضح علنا.. من يراقب ثقل المركبات الاجتماعية والتعقيدات التى تتفاقم الانقسامات من جرائها.. سيجد أنها تزداد ثقلا ودموية بفعل ازدياد التعصبات يوما بعد آخر.. وكأن ثمة سياسة مخططا لها أن تكون، ويغدو الشرق الأوسط فى رعايتها تماما.. إن ازدياد الشروخ ومشروعات التمزق وعمليات القتل وكل عمليات الإرهاب والتفخيخات والأعمال المضادة هى فى الحقيقة تنفيذ لخطط موضوعة على الأرض من أجل تمزيق نسيج المجتمعات فى المنطقة، أو الإسراع بخلق الصراعات الداخلية وتفاقمها سريعا إلى حيث المواجهة الكبرى من خلال حروب أهلية مسعورة! وعلى من يبحث عن المسبب والمنفذ عليه أن يبحث عن المستفيدين الأساسيين من ذلك. * بعد خمسة قرون من الانقسام التاريخى للشرق الأوسط إن ما يحدث اليوم شبيه إلى حد كبير بالذى حدث فى أوائل القرن 16 فى منطقتنا، إذ كان هناك انقسام خطير بين السنة والشيعة ممثلا بإمبراطوريتين مثقلتين بالأحقاد والكراهية واحدتها إزاء الأخرى.. العثمانية السنية والصفوية الشيعية، وقد دام الصراع قرابة أربعة قرون، وكانت العراق وأرمينيا وأذربيجان ساحة فعلية لحروب الطرفين، بل إن تأثيرات ذلك الانقسام كانت كبيرة جدا على التركيبة الاجتماعية والثقافية.. الفرق بين الأمس واليوم هو الفرق بين وجود إمبراطوريتين قويتين تصارعتا حربيا واقتصاديا قبل صراعهما اجتماعيا وثقافيا، ولم يسمحا بتدويل الصراع، اليوم نجد الصراع أخطر بكثير جدا من صراعات التاريخ الحديث بفعل الحجم السكانى وتكنولوجيا الإعلام وتدويل المشكلات وازدياد التعصبات وتنازع الدول العديدة وتباينات النسيج الاجتماعى..! إننى لا أريد من استدعاء التاريخ إلا رسم صورة مشابهة لما يحدث اليوم من صراع لم يزل فى طور التبلور، وأعتقد أن الثلاثين سنة المقبلة ستشهد تفاقما فى حدة الخلافات الاجتماعية فى منطقتنا، وبين قوتين اجتماعيتين تسعى كل واحدة منهما لإلغاء الأخرى، أو بالأحرى منظومتين اجتماعيتين ترعاهما دول ذات كيانات سياسية، إلى أن كسرت شوكة إحداهما، وتغيرت المعادلة .. ليرقب المرء حالة التخندق وافتقاد أغلب السياسيين وحتى أعلى المثقفين قناعاتهم المدنية ومبادئهم الوطنية كى تغدو الهوية الطائفية والدينية أبرز عناوينهم وأغرب همومهم.. تجدهم يتشدقون باسم الوطن والوطنية أو العروبة والقومية أو الإسلام والروح المحمدية أو الاتحاد والوحدة الإسلامية.. ولكن أولوياتهم مع النزعة الطائفية والتحسس منها.. لقد ازدادت الاصطفافات مع هذا التخندق أو ذاك فى حقيقة الأمر، بالرغم من كل الأكذوبات التى نسمعها إعلاميا والتى تتحدث عن الأخوة والمحبة والتعايش.. وثمة دلالات واضحة عن حرب أهلية شاملة.. وهنا أنبه إلى ما سيحدث متمنيا أن يسمع كل الفرقاء لما أقول. * الانقسام الثنائى وراء التمزقات الاجتماعية إن الانقسام سيصيب المنظومة الشيعية إزاء المنظومة السنية المتشظية دوما بعد الحرب الباردة ونزاعات الدواخل والاستئصال والتهجير إلى حيث يقع الانفجار بأعتى صوره الدموية، وبطبيعة الحال إنه منطق التاريخ أن تصطدم العقائد إن وصل أصحابها إلى سدة الحكم وصنع القرار، فانظروا ماذا حدث فى العراق ولبنان وفلسطين والصومال ومصر والبحرين والكويت وغيرها.. إن الشحن الطائفى واللغة العصابية هما تعبيران عن إرادة تريد أن تحيا لوحدها فى السلطة، ولكن أى نوع من السلطة؟ إنها السلطة السياسية والاجتماعية معا.. ولماذا؟ لأن كل طرف يسعى لكى يقول أنا الأفضل على الآخر وبفضل التشبث بالوازع الدينى، والإبقاء على كل عفونات التاريخ تتحكم فى مصائرنا ومستقبلنا.. تصبح الطائفة هى المقدسة بنظر أصحابها ضد الطائفة الأخرى التى تعدها كافرة «أو: خارجة» لا تستقيم مع حياة الدنيا ولا الآخرة! إن مشاهد تاريخية القرن 16 خلال العقود الثلاثة الأولى منه ستعيد سيناريوهات ضمن سيرة ثانية، ولكن بألبسة جديدة، وشخوص مختلفة، وبآليات متباينة، وبقوى متنوعة وبكيانات وتحالفات أخرى.. وسيكون هناك الأقوى والأضعف، لكن مع غياب الخاسر والمنتصر.. سيكون هناك كم هائل من المآسى والانسحاقات الاجتماعية، واستئصال الإنسان وغيبوبة الأقليات التى ستدفع أثمانا باهظة من ضرائب الدم وهى واقعة بين مطارق هذا الطرف وسنادين الآخرين ولن تتخلص مجتمعاتنا من هول كوارثها إلا بعد سيادة التفكير المدنى وتمفصل السلطات. * الطريق نحو المستقبل إننى أعتقد أن انقسام الشرق الأوسط: أولا: سيخرجه بعد مضى أزمان بأوضاع مختلفة تماما عما ألفه تاريخنا منذ مئات السنين. ثانيا: إن البشرية جمعاء ستستفيد من ذلك وخصوصا من النواحى الاقتصادية. ثالثا: ضرورة الوعى الجمعى لمجتمعاتنا وإيجاد بدائل مدنية عن تقاليدها الرثة. إن مجتمعات الشرق الأوسط تتراجع إلى الوراء يوما بعد آخر، بازدياد حدة التناقضات فيها، مع زيادة الغلو والتطرف وكثرة التدخلات الخارجية فيه.. ولقد ساهمت ثورة الميديا والإنترنت بتفاقم الأخطار، ذلك أن الإنسان كان يرتبط ارتباطا عضويا وعاطفيا وبيئيا بكل موروثاته وتقاليده وطقوسه.. وفجأة يجد نفسه عاريا تنفضح كل أسراره، وتتدفق كل مكبوتاته، وتتصادم كل أفكاره على كل شاشات التليفزيون وكل شبكات المعلومات الدولية.. عالم لم يزل يستهلك أقواله وحكاياه.. وعالم يعبر عن واقع مأساوى بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.. عالم مضى عليه مائة سنة وهو يشهد تحرر العالم كله من دون أن يتحرر هو من كل قيوده وأصفاده ومركباته وتعقيداته.. عالم تكثر فيه الكوارث والاضطهادات وكل مظاهر العصور الوسطى.. عالم موبوء بالأمراض والمجاعات والطواعين والجهل والسيكولوجيات الصعبة والحروب والتقسيم على مفاصل قبلية وعشائرية وطائفية وجهوية يتفاخرون بها.. عالم تمارس فيه كل الطقوس الجنونية المضمخة بالدماء الحمراء القانية.. عالم لم تزل مجتمعاته تؤمن بالهلوسات والخزعبلات وتسحق فيه النساء ويمتهن فيه الرجال ويعذب فيه الأطفال.. عالم يستهلك وقته كله بالكلام الفارغ والمواعظ الرتيبة والأحاديث التافهة.. عالم بلا آليات ولا خطط ولا برامج.. عالم لا يعرف إلا الكراهية والأكاذيب وتوافه الأمور.. عالم ملىء بكل التناقضات والمزدوجات.. عالم بحاجة إلى أن يفكر كى ينفتح على الدنيا كى يخرج من المحنة.. يقف معه ليرسم له طريق الخلاص.. يساعده من كوارثه ومجاعاته وأمراضه ونكباته.. عالم بحاجة إلى أن تعالج مآسيه البشرية قاطبة.. عالم بحاجة أن يختزل الزمن بواسطة من يقف إلى جانبه ليخلصه من الحروب والمآسى.. عالم يضم الآلاف المؤلفة من أهم المثقفين وأبرع الفنانين وأبرز المبدعين الذين ينتظرون أحلامهم تتحقق بأوطان هادئة ومنتجة وعاملة ومسالمة ومتعايشة.. منطقة شرق أوسط نريدها مدنية بلا احتلالات وبلا إرهاب وبلا غزوات وبلا ملل ولا نحل، وبلا طوائف وبلا تقاليد وعادات بالية.. ونردد قائلين: لا تصفقوا أصدقائى الأعزاء، فالمهزلة لم تنته بعد!