خطر السيول يمكن تطويقه ومواجهته.. أما خطر سيول الخطابات الدينية الطائفية الإسلامية والمسيحية فهو الأخطر والأعظم علي مستقبل هذا الوطن والدولة المدنية، الأمر الذي دعا الرئيس مبارك لانتقاد الخطاب الديني المسيحي والإسلامي علي السواء. وترتبط هذه الخطابات بارتفاع مؤشرات التدين الشكلي علي الجانبين بحيث أصبحت حياة المصريين ترتبط أشد الارتباط بالرموز الدينية من أزياء وإشارات مثل الحجاب والنقاب أو إشارات مثل ارتداء الصليب وإطلاق اللحي بل ووصل الأمر إلي رنات المحمول والدعاءات التي وصلت إلي المصاعد واختلط الحابل بالنابل حتي وصل الأمر إلي كرة القدم التي بات فيها الخطاب الرياضي دينيا وطائفيا الأمر الذي جعل حياة المصريين ترتبط بفتاوي الدعاة الجدد أو القساوسة الفضائيين وحتي الاكتشافات الحديثة مثل المواقع الإلكترونية والإنترنت استغلت من الطرفين لدعم ثقافة الكراهية المتبادلة. وإذا توقفنا بشكل خاص أمام فوضي الخطاب الديني الطائفي علي الجانب المسيحي سنجد أن ذلك الخطاب مر بمراحل متعددة منذ السبعينيات ليصل إلي ذروته في نهاية الحقبة الأولي من الألفية الثالثة، نجد تصريحا للأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس لإحدي الصحف الخاصة الأسبوع الماضي حول تقرير الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية لظهورات السيدة العذراء مريم فيقول: السبب وراء ظهور العذراء بالوراق هو مساندة البابا في مرضه ومواجهة الاختراق البروتستانتي للكنيسة القبطية الأرثوذوكسية!! وترتفع حدة الخطاب الكنسي غير المتسامح في خبر آخر بصحيفة أخري يقول: زار وفد من كبار أساقفة الكنيسة القبطية المصابين في أحداث نجع حمادي الذين يتلقون العلاج في مستشفي فيكتوريا قريبة الصلة للكنيسة بالإسكندرية وذلك بعد يوم واحد من زيارة البابا شنودة لهم، ومن جهة أخري انتقد التيار العلماني علاج مصابي الأحداث الطائفية في مستشفيات خاصة بدلا من مستشفيات الدولة، وقال كمال زاخر مؤسس التيار: هذا أمر مرفوض ويأتي كمنتج طبيعي لحالة الفرز الموجودة في المجتمع ويحمل أكثر من دلالة أولاها، الشك في الاهتمام بمرضي الأقباط في المستشفيات العامة وهو ما يكشف عن حالة من التربص وعدم الثقة وعدم الاهتمام من جانب الدولة بمصرية هؤلاء المصابين، وأضاف زاخر: رسبت القيادات الكنسية في تقديم رسالة للتسامح فيما بينها وبالرغم من المسافة التي تتجاوز ال900 كيلو متر بين نجع حمادي والإسكندرية تم نقل المصابين لأسباب ترتبط بخلافات بين القيادات الكنسية!! لعل هذه المقتطفات من الخبرين تجسد وبحق افتقاد الخطاب الديني المسيحي للتسامح إضافة إلي تحوله إلي خطاب طائفي يواجه الطوائف الأخري المسيحية بل يمتد حتي للتناحر داخل القيادات الكنسية القبطية الأرثوذوكسية الأمر الذي بات معروفا سواء في مواجهة الأفكار اللاهوتية المختلفة مثل كتابات الراحل متي المسكين أو الصراع بين الأساقفة علي الكرسي البابوي. -- ربما لابد من التوقف حول الأسباب التي أدت إلي الانتقال من الخطاب الديني المسيحي منذ مطلع الثمانينيات إلي خطاب طائفي في السنوات القليلة الماضية الأمر الذي حذرت منه في كتابي: الأقباط بين الحرمان الوطني والكنسي عام 1995 حيث إن الطائفية هي عكس الدين تماما لأنها بدلا من أن تدعو إلي الروابط والتكافل بين الأفراد وهو ما تهدف إليه الرحمة، العدل، الحب، التسامح والمعاونة لتلك القيم التي تشكل جوهر الدعوة الدينية في كل العصور، تقوم الطائفية بالعكس علي استغلال هذه التضامنات أو العصبيات من أجل محاولة الحصول علي أفضل شروط لتقسيم السلطة والثروة ولذلك فالطائفية تجمع النقائض جميعا، فهي رغم أنها تعتمد في التعبئة علي الدعوة الدينية إلا أنها تشكل النفي المطلق لجوهر القيم الدينية لتنتهي لإعادة تقسيم السلطة والثروة علي أساس عصبوي، فالطائفية هي ظاهرة سياسية بالجوهر لا علاقة لها بالتمييز الديني إلا كعلاقة النار بالحطب.. ففي حين أن الحطب ليس سببا في النار إلا أن النار لا تتم بدونه. -- خطورة الطائفية أن الصراع علي السلطة والثروة - إذا ما استخدمت فيه الدعوة الدينية - يجعل الولاء للدين وليس للأرض أو القومية المشتركة ومن ثم هو ولاء يستحيل بالنسبة لأصحاب العقائد المخالفة.. ومعني ذلك كما يقول فرج فودة: إن الأقليات ستصبح في وضع أقرب إلي نظام الانتساب في الكليات النظرية أي طلاب بلا حقوق (الطائفية إلي أين 1987). والخطورة أن المسيحيين كانوا يرفضون نعتهم بالأقلية إلا أن الخطابات الطائفية المتبادلة لو حللنا مضمونها سنكتشف أن الطرفين المسيحي والإسلامي يتمتعان بأكبر قدر من الطائفية والمشاعر الأقلياتية بمعني أن شعور الأغلبية المسلمة بالاستهداف الخارجي ومع انتشار نزعات الإسلامافوبيا في الغرب بات المسلمون يتوجهون شأنهم شأن الأقلية المسيحية التي تشعر بالاستهداف الداخلي ويدعم ذلك أنه ربما كان لوجود الجماعات الإسلامية المتطرفة في الثمانينيات ومطلع التسعينيات والتي كانت تستهدف أبناء الوطن من الطرفين وكذلك الدولة الأمر الذي جعل الجميع يستشعرون بالخطر المشترك للعدو المشترك، ومع تراجع دور هذه الجماعات من جهة وبروز الخطابات القبطية المهجرية وانفراد القيادة الكنسية بزمام الأقباط جعل الخطاب الديني المسيحي يتحول إلي خطاب طائفي بالإضافة إلي عوامل أخري مثل نظرية الحرمان النسبي والتعبئة الاجتماعية التي يشار إليها في أدبيات العلوم الاجتماعية بمصطلح Social Mobilization وهي تأخذ مظاهر عديدة منها الهجرة وتحول الإنتاج من مظاهره البسيطة إلي آليات السوق والاندماج في الاقتصاد الوطني والعالمي والحراك الاجتماعي أفقيا ورأسيا والتعرض لوسائل إعلام جماهيرية Mass Media والاختلاط والتفاعل مع جماعات بهذا المعني ينطويان علي مزيد من السيولة بين الجماعات المختلفة وبين الأفراد داخل كل جماعة وعبر الجماعات ككل وتجعل الأفراد خصوصا مهيئين لتكوين أو الدخول في أنماط وعلاقات اجتماعية جديدة مغايرة للعلاقات والأنماط التقليدية، كما تضع الأفراد في تفاعل مع السلطة السياسية مباشرة، ومع تآكل أنماط العلاقات القديمة وعدم بروز الأنماط الجديدة بالكامل أو كونها لا تشبع الاحتياجات والتوقعات والطموحات التي تختلج في عقول وأذهان هذه الجماعات المختلفة دينيا أو عرقيا الأمر الذي يجعل أبناء هذه الجماعات يصابون بعدم الرضا والإحباط ويتعمق ذلك في المقارنات المستمرة بين أبناء الأغلبية والأقلية، تلك المقارنات التي باتت تعيش في أذهان المسيحيين تجاه المسلمين من حيث السلطة والمكانة أو المسلمين تجاه المسيحيين من حيث الثروة أو ربط الصورة الذهنية لدي المسلمين عن الأقباط بربطهم بالمسيحية الغربية الصهيونية ويزيد من ذلك الحراك الأفقي مثل الهجرة يوجد لدينا أكثر من مليوني مسيحي ومسلم مهاجرين في الغرب وعلي علاقة وطيدة بأوطانهم وكذلك التعرض لوسائل الإعلام في العالم المفتوح يوجد حوالي 300 فضائية دينية ناطقة بالعربية تهاجم بعضها البعض وتزدري الأديان، مثال الكتابات القبطية عن الغزو العربي، وحتي صحيفة الأهرام الرصينة نشرت في 25 يناير الماضي تحقيقا بعنوان كيف يتعامل المسلم مع السيول والزلزال وهكذا فأسلوب حياة وتطلعات كل جماعة تصبح في متناول الملاحظة المباشرة وغير المباشرة للجماعات الأخري كما يتعمق عدم الرضا والإحباط ويتشوه فيصبح بديلا للصراع الاجتماعي الصراع الطائفي ويتناسي الطرفان وحدة المصير والمساواة مادام الصراع تحول إلي صراع طائفي بين المسلمين والمسيحيين ويغذي ذلك من خلال المعايير غير المتكافئة في الثروة والسلطة والمكانة، وأسوأ من ذلك إذا لم تتحقق لهم مسلمين ومسيحيين شروط المواطنة الكاملة. -- هكذا يؤدي الحرمان النسبي وشروخ النسيج والتعبئة الاجتماعية إلي مطالبة المسيحيين ببناء كنائس أسوة بالمسلمين، ويطالب المسلمون بفتح المساجد ليلا وعدم التدخل في تعيين الأئمة أسوة بالكنائس إلخ راجع مقال أ. فهمي هويدي الشروق 26/1/ 2010 بدلا من أن يطالب الطرفان بمطالب دستورية أو مدنية ويحتشد المسيحيون حول الكنيسة في محاولات الضغط الديني والطائفي، وتصبح أخبار المرشد الجديد لجماعة الإخوان المسلمين هي الخبر الأكثر انتشارا من كل الأخبار المتاحة، ويبدأ مسلسل القتل علي الهوية ويتحول مجرم جنائي إلي مدافع عن الإسلام!! مثلما حدث في نجع حمادي ويهتف المسيحيون في الكاتدرائية بالروح بالدم نفديك يا صليب وهكذا نجد الخطاب المدني تحول إلي خطاب ديني في السبعينيات والثمانينيات، ويتحول الديني إلي خطاب طائفي عشوائي مؤخرا وينقسم المجتمع إلي طائفتين وأقليتين، وحتي مؤسسات المجتمع المدني تنقسم إلي إسلامية ومسيحية، ويتجه المسيحيون إما للهجرة الخارجية أو للهجرة للكنائس التي تمثل مجتمعات بديلة، ويفقد الخطاب المسيحي تسامحه المرتكز علي قيم مسيحية ويتحول إلي خطاب طائفي عشائري بطريركي. هنا لابد أن تتدخل الدولة ببناء منظومة فولاذية دستورية وقانونية لسد هذه الأنفاق الطائفية الأمر الذي لن يتأتي إلا بعدم النظر إلي مطالب الطائفة المسلمة والأخري المسيحية علي حساب مطالب الوطن الذي صار هو الأقلية الفعلية. اللهم إني قد أبلغت.. اللهم فاشهد.؟ كاتب