قليلة هى الأعمال السينمائية القادرة على إثارة الجدل من حولها لفترة زمنية طويلة.. وقليلة هى الأعمال القادرة على الاحتفاظ بذلك الجدل، بحيث يصبح بمرور الوقت جزءاً من تكوينها ونسيجها.. بحيث لا تستطيع فى كل مرة تتاح لك فرصة مشاهدة هذا العمل أن تفصل بينه وبين قدرته المتجددة على دفعك نحو اكتشاف مناطق أخرى للتفكير وللجمال بداخله لم تعهدها فيه من قبل. ويبدو أن صناع الفيلم السينمائى «واحد/ صفر» الذى عرض فى ربيع 2009 كانوا حريصين على أن ينتمى فيلمهم إلى تلك الأعمال النادرة سينمائيا. وعندما نتحدث عن الجدل لا نقصد تلك الموجة العنيفة من الانفعالات والتعليقات.. بل والاعتراضات المتشنجة التى وصلت إلى حد رفع قضايا على صناع الفيلم بزعم أنه يسىء إلى العقيدة المسيحية.. أو أنه يسعى إلى خلق بلبلة وفتن طائفية داخل المجتمع وإنما نقصد مفهومًا آخر للجدل.. مفهوماً منح «واحد/ صفر» خصوصية تجعله الفيلم الأكثر تأثيرا فى 2009 فى نظرنا، وربما لا يكون هو الأفضل ولكنه بلا شك الأهم.. ذلك المفهوم يتعلق بأسئلة كثيرة.. مباشرة وغير مباشرة.. مثيرة للتفاؤل وللتشاؤم على حد سواء طرحها الفيلم حول معنيين لا يخلو منهما القاموس الحياتى اليومى للمواطن المصرى. أهمية «واحد/ صفر» هو أنه الفيلم الوحيد فى هذا العام الذى يعيد تشكيل رؤيتنا عن معنى «الانتصار» و «الهزيمة» اللذين اختلت معاييرهما وتضاربت واختلطت ببعضها البعض فأصبحت مبهمة وغير مفهومة. صنع فى مصر أهم ما يميز «واحد/ صفر» هو أنه فيلم مصرى بنسبة مائة فى المائة.. ليس مهجنا.. ولم تدخل فى تركيبته أى عناصر أجنبية أو مستوردة.. وليس هوليوودى المذاق أو الميول.. وإنما هو فيلم شديد المحلية يحكى عن أزمات يومية نعرفها عن ظهر قلب.. عن وجوه نألفها وتألفنا.. عن أشياء تزعجنا ولا نمل منها.. عن هموم صنعت فى مصر لم نرسل فى شرائها من الخارج.. وربما نتصور أن الاستغراق فى المصرية هو السمة التقليدية أو الطبيعية للأفلام التى ننتجها خلال العام، ولكن هذا غير صحيح.. فأيضا قليلة هى الأعمال التى تحمل الهوية المصرية بحق دون تمسح بها أو ادعاء. حتى على مستوى التكنيك واللغة البصرية لم تكن عدسة «واحد/ صفر» من مريدى القصور الفخمة والديكورات المبهرة، وإنما عشقت التجول بحرية فى «حوارى» وأزقة وشوارع العاصمة الضيقة والمزدحمة.. الغارقة بين صناديق القمامة والغارقة بين السيارات الفارهة.. وكأنها تحرص على رصد آلام مجتمع كامل بكافة شرائحه وفئاته المختلفة.. أو كأنها كانت تحاول أن توثق لأجيال ستأتى فى يوم ما.. تفاصيل وملامح بل ويوميات وطن بأكمله فى فترة مليئة بتحديات وصراعات وأزمات بل وتناقضات قد تعيد هيكلة ملامحه وبنيته وقضاياه لسنوات قادمة بدون تنظير أو افتعال. يوميات مواطن مهزوم «واحد/ صفر» هو فيلم ينتمى إلى دراما اليوم الواحد.. أى تلك الأعمال التى تعرض شخصياتها ومشاكلها وأحداثها خلال يوم كامل.. ويحضرنا فى هذا الصدد أمثلة كثيرة مثل «ليلة ساخنة» ل«عاطف الطيب»، وإشارة مرور» ل«خيرى بشارة».. وغيرها من الأفلام التى استفاد صناع «واحد/ صفر» من تجاربها بما تحمله من إضافات ومشاكل ليقدموا فى النهاية عملا متكاملا ومتزنا فى بنائه الدرامى، وفى المساحات التى يمنحها لشخوصه التى تعبر بدورها عن شرائح وقضايا بعينها. الفيلم تدور أحداثه خلال اليوم الذى يلعب فيه المنتخب المصرى أمام المنتخب الكاميرونى فى نهائى كأس الأمم الأفريقية.. تلك المباراة التى انتهت بفوز مصر بهدف واحد جعل الكأس الذهبى فى متناول يدها. المباراة ليست إلا خلفية لأزمات وشخصيات تتحرك فى إطار هذه الخلفية وفقا لقرارات فردية ومجتمعية. فى هذا الفيلم من الصعب ألا ترى أشكال مختلفة لأمراض المجتمع المصرى تتشكل وتتلون أمامك على الشاشة. إذا دققت النظر ستجد المذيع النجم «خالد أبو النجا»- وما أكثرهم على شاشات الفضائيات- الحاكم بأمره الذى يتصور نفسه ملهما.. مبدعا.. وقائد راى.. فى حين أنه فى النهاية مجرد شخص سكير يستغل المرأة التى تحبه.. والفارق الوحيد بينه وبين مدعية الفن التى سخر منها.. أنها تعلم جيدا أنها تبيع جسدها فى مقابل «الحياة المرتاحة»، بينما هو ينكر ذلك ويكذب طوال الوقت..هى قادرة على رؤية حقيقتها، أما هو فلا! ستجد «نانا» أو «زينة».. واحدة من أنصاف الموهوبات الجميلات اللائى يجدن استغلال هذا الجمال كمبلغ يتم دفعه فى مقابل أن يتم الدفع بهن نحو أضواء الشهرة الزائفة. يمكنك أيضا أن ترى شقيقتها «ريهام» - أو نيللى كريم - الفقيرة الكادحة.. التى تسير فى الحياة بطرقاتها المتعرجة وهى محجبة الرأس والقلب والروح.. قد تجد تشابها بينه وبين «الحفافة» - انتصار - التى تبيع مستحضرات تجميل للأغنياء وتقوم بتزيينهن أملا فى الحصول على لقمة عيش.. متناسية أنها كتمت جمالها الذاتى بداخلها حتى إشعار آخر قد لا يأتى! أمل تلك «الحفافة» هو فى ابنها - صبى الكوافير - الموهوب الذى يرى فى السرقة الحل الذى يؤهله لأن يفتتح محله الخاص. فى الصورة ستجد «نيفين» الأرستقراطية المسيحية التى تريد الزواج مرة أخرى، ولكن قوانين الكنيسة تمنعها وتقف حاجزا بينها وبين رغبات سوية وطبيعية. بالإضافة إلى الشخصيات السابقة لن يمكنك أن تنسى بسهولة شخصية «لطفى لبيب».. الرجل المسن العاطل الذى يكاد يكون مصدر رزقه الوحيد بيع البانجو والذى يستغل حادث حفيده فى ابتزاز المذيع المشهور ماديا. صور حقيقية الآن تصبح صورة من صور مجتمع ما فى لحظة زمنية معينة متكاملة أمامك.. إعلام مضلل يتحمل مسئوليته قادة فى حاجة إلى من يقودهم إلى حقيقة الصواب والخطأ... بقايا فن.. يتحمل مسئوليته بعض الأدعياء وأنصاف الموهوبين.. حجاب مجتمعى يرغمنا أحيانا على كبت رغباتنا واحتياجاتنا.. حاجة مادية ملحة تجعلنا نبرر لأنفسنا استخدام الوسائل غير المشروعة أحيانا.. مؤسسات دينية ترغمنا على اتخاذ مسارات قد لا نرضى عنها. ومثلما تعددت المسارات تتعدد النتائج.. فالإعلامى المضلل يكتشف حقيقة نفسه مؤخرا.. ومدعية الفن تحاول التخلص من مروضها، ولكنها تفشل، فتدرك أن أوان العودة قد فات.. بينما تتفاعل المحجبة التى بكت فى عزاء رجل لا تعرفه فقط لتنعى حالها مع الشاب الذى يرغب فى الارتباط بها، فى الوقت الذى يطمع فيها أمين شرطة فيلفق لهما محضر أداب.. وصبى الكوافير يفشل فى مواصلة مخططه فيكون الحل أمامه افتعال مشاجرة مع الرجل الذى انتزع منه حبيبته ولكنه يخرج من معركته مهزوما. «الحفافة» تجد من يحاول استمالة رغباتها المستترة فى الأوتوبيس فتستجيب وتتجاوب، ولكن الأمر يتطور دراميا ويصل إلى محاولة اغتصاب يتم إنقاذها منها بصعوبة. أما الأرستقراطية فتكتشف أن أزمتها ليست مع الكنيسة، ولكن فى أن الرجل الذى حملت منه بدون زواج لا يريد الاستمرار فى العلاقة. وهكذا تتوالى الهزائم وراء الهزائم.. ويصبح المنتصر الوحيد هو الجد المستغل الذى نجح فى توريط المذيع وابتزازه ماديا بعد أن صدم حفيده بالسيارة، وتكون النتيجة حصوله على مبلغ وقدره.. الإنسان الوحيد الذى فاز فى المعركة هو الذى خسر كرامته وآدميته، وقبل أن يدفعها ثمنا لحفنة جنيهات. فى سياق كل هذه الانكسارات يأتى هدف المباراة ليصبح بمثابة المعجزة.. فالجلاد يتحد مع المجنى عليه.. والذى انتزع حقه يتصالح مع من استولى على هذا الحق.. وتتشابك أقدار الجميع فى لحظة احتفالية صاخبة تتعالى فيها أصوات النشوة والفرح بالهدف والفوز. ولكن الفرحة ليست حقيقية.. والانتصار أشبه بنشوة كاذبة.. لا تسمن ولا تغنى من جوع.. والحقيقة الوحيدة التى ستخرج بها هو أن جميع أبطالك خرجوا من المعركة خاسرين.. لقطات كاميرا «كاملة أبو ذكرى» كانت قريبة جدا من الأبطال الذين خلقتهم على الورق «مريم ناعوم».. وجوههم بدت لنا واضحة.. عارية.. ومهزومة. فى معركة «مصر والكاميرون» ربما خرجت مصر وهى تحمل الكأس عاليا.. وانتصبت رءوس الناس بعد أن أسكرها الزهو والفخر.. ولكن فى معركة «واحد/ صفر» تدرك المعنى الحقيقى والأصيل ل«الانتصار» و«الهزيمة». «واحد / صفر» هو فيلم فتح باباً للنقاش والتفكير والتساؤل بينه وبين مجتمع يبلغ تعداده ما يقارب الثمانين مليونا.. واستحق أن يكون بجدارة فيلم .2009.