"إعادة توزيع الدعم" من أصعب الملفات التاريخية التي لا تستطيع أي حكومة مواجهته، رغم أن كلمة السر المحورية التي ستعالج العديد من المشاكل المستعصية علي هذه الحكومات، خاصة أن فاتورة الإنفاق الاجتماعي تجاوزت الآن ال 200 مليار جنيه، وتزايد مع استمرار الانفجار السكاني، لكن كان واضحا أن هناك منحي جديدا يتردد بشكل غير صريح في كواليس المؤتمر السنوي السادس للحزب الوطني، وبالذات لأن الحديث حول إعادة النظر في تقسيمة فواتير الدعم جاءت هذه المرة من القاعة، حيث القواعد الجماهيرية، لا من المنصة، حيث الوزراء والقيادات فقط، حتي وصل الأمر إلي أن اقترح أمين الفلاحين بالوادي الجديد زيادة سعر رغيف العيش من 5 قروش إلي 10 قروش لتحسين مستواه، وتوجيه جزء من الدعم الذي يحصل عليه العيش إلي المحاصيل الزراعية التي تزيد متاعب الفلاح، تحت شعار أعيدوا الحق لأصحابه.. وراجعوا الدعم! وكان مفاجئا للبعض أن علَّق "جمال مبارك" الأمين العام المساعد وأمين السياسات بالحزب ومدير جلسة الفلاح والتنمية الزراعية عليه بأن هذا اقتراح جريء مشكور عليه! والأغرب أن هؤلاء المصدومين لا يواجهون الواقع ويتهربون منه، فنسبة غير قليلة من المصريين تحصل علي رغيف الخبز الذي ثمنه 52 قرشا و05 قرشا، بينما تعاني الأغلبية في طوابير المخابز حتي تحصل علي رغيف مستواه أحيانا يكون غير آدمي، ورغم الضوابط التي حاولت أن يصل الخبز المدعم لمستحقيه، إلا أن الواقع غير ذلك، حيث تحول الخبز إلي علف للحيوانات والدواجن في الريف والنجوع لأنه أرخص من العلف الذي تشتعل أسعاره مع مرور الوقت، ولا يختلف في ذلك تاجر المواشي ولا مربية الفراخ في بيتها إلا في الكميات! ورغم تراجع أسعار الدقيق إلا أن أوزان الرغيف الذي ثمنه 52 قرشا كما هو منخفض منذ الارتفاغ الأخير للأسعار، وفي المقابل ستواجه وزارة التضامن الاجتماعي والمحافظات أزمة مرتقبة بعد زيادة أعداد المخابز المغلقة لاستمرار غرامات المخالفات عند مستواها المبالغ فيه، ومعروف أن منظومة الدعم تشمل أوجها عديدة، والخبز أحدها رغم أنه يحصل نسبة كبيرة من الفاتورة، لكن ليس الأكبر مقارنة بالمواد البترولية علي سبيل المثال التي وصلت إلي 08 مليار جنيه وحدها، فيما اعترفت الحكومة بأن هذا الإنفاق الاجتماعي يعطل الكثير من الطموحات خاصة لأنه يحتل 06٪ من الموازنة، ورغم ذلك فالخدمة عامة لا تقدم بالمستوي المرجو، فعلي سبيل المثال اعترف وزير الإسكان أحمد المغربي بأن مشروعات الإسكان الاجتماعي الموجودة في البرنامج الانتخابي لا تلبي المستهدف، ولن تستطيع أن تفي بتطلعات محدودي الدخل رغم أنها تصل إلي 005 ألف شقة لم تنفذ منها إلا 532 ألفا فقط، حينما انتقد المشاركون في المؤتمر حالة الصرع التي يعاني منها رجال الأعمال حتي أنهم، ينهبون أرض الدولة المتر ب 7 جنيهات ويبيعون الشقة التي لا يتجاوز سعرها ال 56 ألف جنيه ب 051 ألف جنيه! ودعوا لإعادة "لافتة" "للإيجار" في محاولة للترشيد وتوجيه الدعم لمستحقيه! وكان هناك العديد من الأصوات الداعية لتغيير هذه المنظومة الصعبة، فقال جمال مبارك إن جملة الإنفاق الاجتماعي تمثل تحديا للموازنة والدولة، ومن الضروري رفع كفاءة هذا الإنفاق للوصول به لمن يستحق ليكون أكثر فاعلية من خلال استهدافه للمزيز من الأسر والمناطق التي تعاني، فيما يهاجم د. أحمد نظيف رئيس الوزراء استخدام الخبز المدعوم كعلف للحيوانات لأنه إهدار للمال العام وتهريب أنابيب البوتاجاز لدول مجاورة تباع فيها ب08 جنيها، واعترف بأن الدعم العيني ليس الأسلوب الأفضل لأنه لا يساعد علي وصول الدعم لمن يستحقه، وطرح تساؤلا حول هل الأفضل هو توزيع الدعم في كوبونات أم لا؟! لكنه نفي في كلمته أمام المؤتمر والتي نالت استحسان المشاركين إلغاء دعم الصحة كما تردد مؤخرا بخصخصة التأمين الصحي! وفاجأ حسام بدراوي رئيس لجنة التعليم بسياسات الوطني بكلماته الحماسية بتأكيده "والله العظيم لم يعد هناك وقت"، مطالبا بتوزيع الدعم من جديد، فعلي سبيل المثال من المهم أن يوجه دعم مشروعات الصرف الصحي إلي التعليم لاستكمال تطويره، ووصل به الأمر إلي أن قال إن التعليم أهم حتي من الدعم، وطالب، بالخروج بتوصيات حقيقية لزيادة ميزانية التعليم من خلال إعادة توزيع فاتورة الدعم، لأن الوطني حزب الأغلبية ويجب أن يكون مبادرا مهما كانت ردود الفعل، فعلينا الاختيار وحسم الجدل! وكشف د. يوسف بطرس غالي وزير المالية عن أن أحدث محاولة في هذا الملف الصعب هي لا مركزية الدعم حيث تعلم القيادات المحلية مشاكل مناطقها وأهاليها أكثر من المركز، وبالتالي ستكون قادرة علي توجيه الدعم بشكل أكثر دقة، وبالتالي لن تهدر مبالغ أكبر من المرادة، وأوضح أنه في هذا الإطار تم صرف 3 مليارات جنيه، ومن المتوقع أن يتم تخصيص اعتمادات قليلة إضافية لهذا البند، خاصة أن كل المؤشرات تؤكد نجاحه! ورغم أن فكرة الكوبونات رددت علي لسان نظيف وعدة مرات علي لسان وزير التضامن الاجتماعي لم تثر تساؤلات حولها، في موقف مثير، خاصة أن هذه الحكومة ترفض بل تنتقد العودة للستينيات، وهي الآن تريد أن توزع الدعم بالكوبونات رغم أنها هي نفسها التي تعد لبطاقة الأسرة التي تضم عدة خدمات من معاش الضمان والبطاقة التموينية والتأمين الصحي، ويبدو أن الحكومة لا تزال متخبطة حتي الآن وغير قادرة علي اتخاذ قرار مصيري في هذا الإطار خاصة أن أجواء التغيير الوزاري سيطرت علي الساحة الداخلية خلال الساعات الأخيرة، وكانت القضية الأكثر إلحاحا! ومن المواجهات الساخنة التي حدثت بين قواعد الحزب وقياداته والوزراء، يبدو أن للحكومة حقا ما في هذه الطبطبة والهروب من الحل المباشر للموقف خاصة أن الأصوات كانت تعلو رافضة في بعض الأحيان أي مساس بالدعم، وتنتقد بشدة حتي ولو همسا في الكواليس أي مطالبات بالتعرض للدعم والذي ينعكس لدي كثيرين بارتفاعات مجنونة في الأسعار، خاصة مع غياب الانضباط عن السوق، وهو الأمر الذي يخيف الناس، لأنهم لا يجدون من الحكومة سوي تصريحات ووعود بعيدة عن الواقع لا تتحقق أبدا، لكن الحكومة اتهمت بأنها حاولت أن تحمل المشاركين في المؤتمر مسئولية اقتراح إعادة توزيع الدعم ورفع أسعار الخبز، خاصة أن د. محمود محيي الدين وزير الاستثمار طلب من الفلاحين تقديم اقتراح برفع سعر الخبز عشرة قروش في ورقة لدراسته!