كان أهل بابل قد قرروا أن يبنوا برجًا يصل إلي السماء.. ولما كان هذا تحديًا صارخًا للمشيئة الإلهية، فقد أصيب أهل بابل بأعراض غريبة إذ تغيرت ألسنتهم فجأة.. وصار كل منهم يتحدث بلغة غريبة لا يفهمها الآخرون ولا هو يفهم ما يتكلمون به.. ولم تبن المدينة ولا البرج وتفرق أهلها بعيدا عنها. كان أهل مصر يتحدثون لغة واحدة ويتفاهمون ويتواصلون.. وكانوا حينئذ يبنون مدنًا وأهرامات، ويؤسسون علومًا وحضارات.. لكنهم منذ عقود أصابتهم أعراض لعنة أهل بابل.. لا لأنهم تحدوا المشيئة الإلهية، بل لأنهم اتبعوا أفكارًا مختلفة ومتباينة وتشددت كل جماعة منهم لما اعتقدت فيه فصارت اللعنة مرتبطة بالتشدد والتطرف ورفض الآخر. والتطرف - حسب ما جاء في دراسات إنسانية متعددة - قد أصاب العالم وظهرت أعراضه في العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي وما زالت عوارضه تهاجم بلدا تلو آخر حتي الآن.. وبالرغم من شيوع استخدام كلمة التطرف لتعريف التطرف الديني، فكلمة (extremism) يمكن إطلاقها علي التطرف الفكري والسياسي والديني والمذهبي بل وحتي التطرف الاجتماعي أو الطبقي.. ومشكلة التطرف هي دائما مشكلة اللغة الواحدة.. تماما كأهل بابل.. فالمتطرف لأفكاره يقوم غالبا بإغلاق عقله علي مجموعة من المعتقدات التي في نظره تمثل الحقيقة المطلقة الوحيدة غير القابلة للمناقشة علي الإطلاق.. ولا يمكن قبول أي منطق آخر من قبل صاحب اللغة الواحدة أو الفكر الواحد لأن عقله لا يستوعب غير ما انغلق عليه من ثوابت.. وتبقي النتيجة المرعبة أن هذه الجماعات المتطرفة لا توجد بينها أي لغة مشتركة ولا طريقة تفاهم أو حوار. وفي مصر لا يظهر التطرف في معارك «التوك شو» بين المتخاصمين سياسيا فحسب.. بل يتخطي الشاشات ليكشف عوراته في الحياة اليومية للمصريين وفي أية صورة قد تلتقطها عين أو عدسة في شوارع مصر أو داخل بيوتها.. فالملبس متطرف: إما غارق في الحداثة الغربية وما بعدها، أو مأخوذ من عصور ما قبل التاريخ وما قبلها.. حتي لتجدن أصعب الأشياء أن تشتري ملابس محتشمة وفي الوقت نفسه عصرية بالتقاليد المصرية وكأنك لا تعيش في هذا البلد ولا تنتمي إليه ولا تشغل أنت شخصيا بال من يقوم بتصميم وصناعة تلك الملابس! وفي الدراما تجد الفقراء المعدمين أو الأغنياء الطامحين.. وعلي المستوي السياسي لا يمسك دفة الأمور سوي الشيوخ أو الشباب وكأن مواليد الخمسينيات والستينيات قد اختفوا من خريطة مصر السياسية ما خلا نفرا قليلا منهم.. وفي المأكل وأماكن التنزه والمواصلات وأسلوب المعيشة بوجه عام لا يختلف الأمر كثيرا.. فهناك - كما الملبس - نوعان من الحياة.. إما فوق أو تحت.. ولا يوجد وسط.. لا توجد منطقة متوسطة في مصر.. ولم يعد للطبقة المتوسطة ولا الاتجاه الوسطي وجود ولا تعريف.. واختفت تقاليدهما وأخلاقياتهما وحيثيات وجودهما. هذا هو السبب الرئيسي للتطرف في مصر.. إذ إن اختفاء الوسطية من حياتنا الاجتماعية، والاقتصادية أدي بشكل مباشر إلي اختفاء الوسطية الدينية والمذهبية، ثم الوسطية الفكرية، وتبعتها الوسطية السياسية.. صرنا شعوبا وألسنة متشيعة ومتطرفة علي الرغم من تجاورها في بلد واحد طالما اعتمد في قوته وحضارته وتاريخه الطويل علي تشارك شعبه الواحد في حياة ذات قوام متماسك تربطه تلك الوسطية التي تقبل الكل ولا تفرض فكرا علي أحد ولا تنبذ أحدا.. الوسطية لا تمنع الاقتناع بفكر أو عقيدة والعمل من أجل إنمائها، ولكنها تقف ضد التطرف الذي يدعو لنبذ من لا يتفق مع تلك السياسة.. الوسطية لا تمنع وجود ملابس من القرن الماضي أو من نوعية رواد الفضاء، ولكنها تعمر بأسواق الملابس العادية أيضا.. الوسطية ليست الاشتراكية التي تضيق الفروق بين الغني والفقير، فهي ترحب بكليهما ولكنها تفسح الطريق للمتوسطين لكي يعيشوا. التطرف لعنة خطيرة لا يوجد لها حل سوي الحرب أو التفرق.. ولا يتفاهم أصحاب اللغات المختلفة إلا إذا وجد المترجمون.. الوسطيون هم مترجمو اللغات المختلفة والضمان الوحيد لأمان مستقبل هذا البلد.. اللعنة حلت علي أهل بابل من فوق.. وأهل مصر يستدعون اللعنة علي أنفسهم من الأرض.. أهل بابل (كفوا عن بنيان المدينة).. وأهل مصر (كفوا من زمان.. عن البنيان).