وقف الخلق ينظرون جميعاً كيف أبني قواعد المجد وحدي.. وبناة الأهرام في سالف الدهر علموني الصمود عند التحدي.. كان لذكر الأهرام في شعر حافظ إبراهيم شاعر النيل دلالة هامة. فالأهرام رمز تاريخي يدل علي عمق إيمان المصريين منذ فجر التاريخ بالدار الآخرة ويوم الدينونة والوقوف بين يدي الخالق الواحد سبحانه، حتي الفراعنة أنفسهم الذين رفعهم الشعب إلي مصاف الآلهة أعدوا عدتهم لهذا اليوم أكثر من غيرهم، فحنطوا الجثامين ، وخزنوا الأغذية ، وسجلوا كشف حسابهم علي حوائط قبورهم أعمالهم الطيبة، وتناسوا أخطاءهم وخطاياهم. والأهرام نفسها تدل علي قدرة المصريين علي العمل الجاد والشاق المرهق لسنوات طويلة في مشاريع حتي ولو كانت سخرة لصالح الفرعون، فما بالنا بمشاريع قومية حقيقية لصالح الشعب. العالم كله اليوم يترقب ويراقب ويتدخل ويحاول أن تكون له كلمة في مستقبل مصر والعالم العربي والإسلامي.. ليس اهتمام العالم بهذه المنطق جديداً، بل هو قديم قدم التاريخ.لما لها من أهمية استراتيجية.. عرفت مصر موجات الاحتلال ، حتي لم تبق أمة من الأمم لم تطأ أقدام جيوشها هذه الأرض الفرس، واليونانيون، والرومان، والهكسوس ، والنوبيون، والليبيون، والأتراك العثمانيون، والانجليز والفرنسيون، وأخيراً الأمريكيون. لم يرحب أهل مصر إلا بالعرب الفاتحين الذين استقر بهم المقام وتشربت عقول وقلوب المصريين برسالة الإسلام التي حملها قرابة 12 ألف عربي ازداد عددهم بعد عقود إلي قرابة 25 ألف جندي. طبع المصريون الإسلام بنكهتهم، حافظوا علي عقيدته واحتضنوا لغة القرآن، وحملوا رسالته إلي أفريقيا، ودافعوا عن بيضة الإسلام ضد جحافل التتاربقيادة قطز فصدوها وردوها علي أعقابها وأحدثوا بذلك تحولاً تاريخياً عندما دخل التتار في دين الإسلام، واستطاعوا بقيادة صلاح الدين الأيوبي أن ينهوا الوجود الفرنجي الذي تسريل بالصليب وهو منه براء واستمر في فلسطين والشاطئ المتوسط لمدة تقارب قرنين من الزمان، ودخل صلاح الدين يوم الإسراء والمعراج في عام 583 ه المسجد الأقصي مستردا بيت المقدس الي كان عام قبلها في بركة دماء الأبرياء بسيوف الفرنجة (حوالي 70 ألف شهيد).. بقيت بقية من أهل البلاد علي دينهم وعقيدتهم ، لم يمسسهم سوء، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم التي تعد من أقدم كنائس العالم، وتميزوا بإيمانهم الأرثوذكسي، الذي حاربوا ضد قانون الإيمان الروماني الملكاني الي حاول الاحتلال الروماني فرضه عليهم وقدموا مئات الشهداء لتثبيت إيمانهم، ولا يزالون رغم كل محاولات الحوار المسيحي - المسيحي. ووفد علي مصر من علماء الاسلام والقادة الإسلاميين كثيرون، رفض الشعب من رفض منهم وقبل من قبل منهم. استقر الإمام الشافعي (محمد بن إدريس) في مصر بعد أن ولد في غزة، وتعلم في مكة، وتتلمذ علي مالك في المدينة، وزار العراق ليستقر بعد فترة مجاوراً لابن حنبل، ولتلاميذ أبي حنيفة النعمان. احتفي به المصريون واحتضنوا مذهبه الجديد في مصر فازدهر واستقر.. ووصل إلي مصر العبيديون المنتسبون إلي السيدة فاطمة الزهراء من أفريقيا (تونس) وحكموا مصر في ظروف خطيرة أثناء الوجود الفرنجي في بلاد الشام والتهديد المغولي التتري في فارس وما وراء النهر وانهيار الخلافة وانفراط عقد الأمة الإسلامية . وفرض العبيديون مذهبهم وأسسوا مسجدهم الأزهر، ومن الأهمية أن يعرف القارئ أن مذهب العبيديين ليس هو مذهب أغلبية الشيعة ( الاثني عشرية الجعفرية) وليس مذهب الزيدية، ومثله كمثل النصيرية ( العلويون في سوريا).. الذين يعتبرهم غالب مراجع الشيعة الاثني عشرية خارجين عن الملة وليس فقط عن المذهب الشيعي.. تحمل المصريون حكم العبيدبين مدة تقارب المائتي عام، ورفضوا في داخلهم مذهبهم الباطني، وعندما تحرروا من حكمهم بقدوم صلاح الدين الأيوبي الذي أسس الدولة الأيوبية فلم يتبق من حكم العبيديين إلا مظاهر الاحتفال بالمولد وذكريات الحاكم بأمر الله والأهم هو بقاء الأزهر جامعة شامخة للعلوم الإسلامية تدرس المذاهب الأربعة السنية واحتضنت بعد ذلك المذهب الاثني عشري الجعفري والزيدي. اليوم نستطيع أن نقول بعد استقراء هذا التاريخ الطويل أن أثمن ما حرص المصريون علي الحفاظ عليه والدفاع عنه هو استقلالهم : الديني والحضاري والفكري والسياسي والاقتصادي والروحي. أثر المصريون في محيطهم بل في غزاتهم ، حتي سافر الأسكندر الأكبر إلي واحة سيوة ليقدم فروض الطاعة لآمون ويُعد نفسه ابن الآلهة، وانتسب "مينو" خليفة كليبر ونابليون إلي الإسلام زوراً، وحاول كرومر التقرب إلي أئمة الإسلام وأخيراً لبس فرانك ريتشاردوني الطاقية الخضراء وجلس وسط أبناء الطرق الصوفية في ساحة مسجد السيد البدوي بطنطا.. وتأثر المصريون بغزاتهم وظهر ذلك في عطائهم الحضاري وثقافتهم الشعبية، تراه في الاسكندرية عاصمة المتوسط الكوزموبوليتانية، والقاهرة تحتضن حضارة مصر بعصورها جميعاً: فرعونية ورومانية وقبطية وإسلامية قديمة ووسيطة مملوكية وحديثة معاصرة. وتراه في كل ما تبقي من أمثال وحكم شعبية، بل في أسماء القرية نفسها وتراه في تقاليد وثقافة المصريين واحتفالاتهم من شم النسيم إلي وفاء النيل إلي عاشوراء إلي مولد الرسول والاحتفال بالعذراء وعيد الجهاد وانتصار أكتوبر / رمضان. ورغم كل التأثر والتأثير ليبقي الاستقلال هو عنوان جهاد المصريين طوال تاريخهم الطويل. واليوم نقول للعالم كله الذي يترقب ويراقب ويتدخل ويحاول أن يعرقل مسيرة التحول الديموقراطي: أن أوان احترام أراء ملايين المصريين الذين ثاروا ضد نظام وهتفوا لتغييره، ليس من أجل لقمة عيش ( و هي حق مشروع)، وليس من أجل وقف انتهاك حقوقهم، فهذا النظام أهدر كرامة مصر نفسها وليس فقط كرامة المصريين، ورهن استقلال البلاد بسبب مشروع التوريث، ووصفه أعداء مصر الألداء بأنه كنز استراتيجيي يحقق لهم كل ما يريدون حتي باع لهم ثروة مصرمن الغاز بثمن بخس، وساهم معهم في حصار وتجويع وقتل وتشريد شعب فلسطين بأكمله. نظام بدأ مع مقولة أن 99 ٪ من أوراق المنطقة في يد أمريكا، ورهن القرار المصري مقابل المعونة ( السنوية) وسار في مركب الدول الإقليمية التي سبقته إلي الحظيرة وأصبح رئيسه يتلقي الرواتب من شيوخ وأمراء وملوك في ذلة وصغار، ويصمت علي إهانة أبناء بلده في تلك البلاد. نقول لشعوب العالم من اليابان وألمانيا، وروسيا وبولندا، وأمريكا وأوروبا: تعالوا لزيارة مصر، نريد في الموسم القادم أن يتضاعف عدد السياح إلي بلادنا، ولا يجب أن نكتفي بالزوار العرب. لدينا الآن معلم سياحي جديد هو ميدان التحرير. علي شركات السياحة المصرية اليوم أن تقدم برنامجاً متميزاً يبدأ بمصر ولا تكون محطة في برامج الآخرين. نقول لحكومات الغرب : نريد اعتذاراً صريحاً واضحاً عن سنوات الاحتلال والهيمنة والتبعية ونزف الثروات. هذه النظم التي ثرنا ضدها ويثور إخواننا في ليبيا واليمن وسوريا قد ساندتموها وسلحتموها بترسانات عسكرية وأدوات التعذيب الأمنية وسلمتموها البلاد وحكمتموها في رقاب العباد. ألم يأن أوان الاعتذار؟.. إذا أردنا أن نبدأ مرحلة جديدة فلابد من الاعتذار عن التاريخ الحديث علي الأقل ثم نبحث عن التعويضات المستحقة وأولها رد الأموال المنهوبة المسروقة تطبيقا لمعاهدة مكافحة الفساد.. ثم ألم يكفكم المآسي التي تسببتم في إحداثها في فلسطين وأفغانستان والعراق وليبيا، فتتجهزون للتدخل في سوريا واليمن ؟. ألم يأن أوان الانسحاب السريع وترك البلاد لأهلها قبل أن تثور عليكم فيكون رد فعلكم قتل الآلاف بدل قتل العشرات والمئات ؟! نقول لأدوات الغرب الاقتصادية التي تحدث عن "بريتون وودز" والتي تتحكم في اقتصاديات العالم النامي المتخلف : البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.. كنتم أحد أسباب الثورات عندما تسببت سياستكم المفروضة بقوة المنح والقروض في زيادة الفقر وتدهور الخدمات واتساع الفجوة بين الحكام والمحكومين وبين الاغنياء والفقراء .. نقول لهم : سنبني بلادنا بجهودنا وأموالنا وثرواتنا، ولسنا في حاجة إلي المزيد من الثورات كفوا عن التدخل في شؤننا كفاية .. كفاية .. كفاية. نستطيع أن نبدأ مرحلة جديدة في تاريخ البشرية مبنية علي الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وعدم التدخل في شؤن بلادنا او بلاد الآخرين.