بدأ عام 2011 بداية كئيبة بالهجوم الوحشى الذى تعرضت له كنيسة «القديسين» بالإسكندرية قبل أن تنتهى احتفالات المصريين - مسلمين ومسيحيين - برأس السنة الجديدة. ولم يتصور معظم المحللين والمراقبين والخبراء أن «زلزالا كونيا» سيهز مصر والبلاد العربية والعالم بأسره بعد خمسة وعشرين يوما فقط، وأن الدنيا بعد 25 يناير لن تبقى كما كانت قبله. لكن المصريين فعلوها، وقاموا بثورة من أعظم الثورات التى عرفتها البشرية قاطبة، وعلى مدار ثمانية عشر يوما مجيدة، من 25 يناير حتى 11 فبراير، أهدى المصريون للعالم نموذجا لم يسبق له مثيل لثورة مدهشة أفقدت تحالف الاستبداد والفساد الحاكم توازنه وشلت تفكيره وأجبرت رأس النظام على التنحى. وتصور الكثيرون أن خلع حسنى مبارك بهذا النحو الثورى لا يوجه فقط ضربة قاصمة لكل من مشروع «التمديد» وسيناريو «التوريث»، وإنما يفتح الباب على مصراعيه لتفكيك الدولة الاستبدادية وتمهيد الطريق أمام إرساء دعائم دولة الحق والقانون. لكن دفتر أحوال الوطن فى السنة الأولى من عمر الثورة بدد معظم هذه الآمال «المنطقية» التى تحطمت على صخرة تطورات «سيريالية» بكل ما فى الكلمة الأخيرة من معنى. فالثورة التى رفعت شعار «سلمية.. سلمية» فى مواجهة أجهزة قمع حسنى مبارك وحبيب العادلى ظلت دماء غزيرة حتى بعد تنحية مبارك ووضع العادلى خلف القضبان، حيث استمرت حملات المطاردة وممارسة العنف المفرط ضد الثوار، كما استمرت عمليات انتهاك حقوق الإنسان، ربما أكثر مما كان عليه الحال قبل الثورة! والثورة التى رفعت شعار «مدنية.. مدنية» والتى تجلت فى أيامها الأولى الثمانية عشر أسمى وأنبل مظاهر الوحدة الوطنية والتآخى - غير المفتعل وغير المصطنع - بين المصريين - مسلمين ومسيحيين - ركبها دعاة الطائفية وأنصار الدولة الدينية، لدرجة أن كثيرا من فصائل تيار الإسلام السياسى احتلت ميدان التحرير يوم «جمعة قندهار» الشهيرة ورفعوا شعارات تدعو إلى «خلافة إسلامية» كما رددوا شعارات تكيل المديح لأسامة بن لادن الذى أسبغوا عليه صفة «الشهيد» كما أسبغوا على المشير محمد حسين طنطاوى لقب «الأمير»، ولم تكن هذه جمعة عابرة، بل إن انتخابات مجلس الشعب أعطت لهذه التيارات أغلبية كاسحة، وكأن هذه الانتخابات جرت فى بلد آخر غير الذى أكدت ثورته على «مدنية» الدولة. وبعد هذه الانتخابات - بل حتى قبل أن تكتمل - قال المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد بديع، أن «الجماعة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق تعاليم حسن البنا الرامية إلى «إقامة الحكومة والخلافة الراشدة وأستاذية العالم». والثورة التى رفعت منذ أيامها الأولى شعار «الشعب والجيش.. إيد واحدة» ساءت علاقتها مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة لدرجة استبدال الشعار المشار إليه بشعار «يسقط يسقط حكم العسكر». وبين الشعارين المتناقضين وقعت مجازر وسفكت دماء وجرت انتهاكات فظة لحقوق الإنسان التى تورط فيها جنوب وضباط من الجيش ليمثل ذلك نهاية محزنة للحقيقة التى كان الكثيرون يعتقدون أنها ثابتة وأبدية والتى تقول: «إن الجيش المصرى لم ولن يطلق رصاصة واحدة على الشعب». الآن أصبحت هذه المقولة فى خبر كان، وحل محلها إرث مخضب بالدم ومحفوف بأشكال غير معهودة من العنف والإذلال والامتهان.. على خلفية ممارسات تثير تساؤلات كثيرة عن «محاباة» لفصائل الإسلام السياسى، خاصة الإخوان المسلمين والسلفيين، بدءا بتشكيل لجنة طارق البشرى وصبحى صالح المكلفة بإعداد التعديلات الدستورية، ومرورا بإقرار مسار «مقلوب» للفترة الانتقالية يخدم هذه الفصائل أكثر من غيرها، مع التغاضى عن المادة الرابعة من الإعلان الدستورى التى تقضى بعدم جواز مباشرة أى نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أساس دينى أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل، وكان التقيد بنص وروح هذه المادة كفيلا بمنع إنشاء العديد من الأحزاب الدينية التى حصل اثنان منها على نصيب الأسد من أصوات الناخبين، فضلا عن أن تقسيم الدوائر الانتخابية بالشكل التعجيزى الذى رفضته معظم القوى السياسية تم تفصيله لصالح الأحزاب الدينية وحدها أيضا. وهى كلها وقائع جعلت كثيرا من المراقبين يتحدث عن «سيناريو باكستانى» يستند إلى «صفقة» بين المجلس العسكرى والإخوان والسلفيين. وهى أيضا وقائع جعلت الكثير من الثوار يتساءل بالمقابل: هل قدمنا آلاف الشهداء والمصابين وقمنا بثورة ضحينا من أجلها بتضحيات هائلة لكى نستبدل استبدادا سياسيا باستبداد دينى؟! بيد أن السيناريو الباكستانى ليس هو السيناريو الوحيد، فهناك أيضا «سيناريو الجزائر» الذى يستمد تبريره من توقع صدام قادم بين المجلس العسكرى والإخوان المسلمين حتى لو كانت هناك صفقة بين الجانبين، فهذه الصفقة لا تحول دون انتهاء شهر العسل بينهما بعد حصول الإسلاميين على أغلبية كاسحة بمجلس الشعب تعطيهم قوة دافعة لمحاولة الخروج من بيت طاعة العسكر والاكتفاء بدور التابع أو الذراع السياسية. وهناك ما هو أسوأ.. «سيناريو طالبانى».. يحاول أن يتكئ على نتائج الانتخابات، محاولا أن يستولد منها استنتاجا مفاده أنها تعطى للأصوليين تفويضا «مطلقا» بتطبيق الشريعة الإسلامية، بما فى ذلك تطبيق الحدود والتدخل فى الحريات العامة والخاصة.. إلخ. وقد رأينا «بشائر» ذلك السيناريو فى الإعلان عن تأسيس هيئة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى مصر على غرار السعودية. وهناك سيناريو أكثر سوءا عن الذى قبله، هو سيناريو تفكيك الدولة المصرية، التى هى أقدم دولة فى التاريخ.. وقد ظهرت بوادر ذلك فى سيناء والنوبة على أسس إثنية، وفى الصعيد على أسس قبلية وعشائرية «أشراف وعرب وهوارة»، وفى مصر كلها على أسس طائفية «مسلمين وأقباطا». وكل من السيناريوهات السابقة له ظهير إقليمى ودولى، لا يبخل بالدعم السياسى الظاهر حينا والخفى فى معظم الأحيان، كما لا يبخل بالدعم المالى من خلال قنوات «شرعية» حينا وخارج القانون فى معظم الأحيان. لكن الإحباط الذى يولده التفكير فى هذه السيناريوهات الكئيبة ينطلق من فرضية ليست فوق مستوى الجدال، وهى فرضية موت الثورة أو سرقتها، فقد أثبتت الثورة المصرية أنها ليست مجرد زوبعة فى فنجان كما تصور البعض، وأثبتت أنها تستعصى على «الترويض» كما تستعصى على «التركيع»، رغم نقاط ضعفها المعروفة وأهمها عدم وجود قيادة موحدة ورؤية استراتيجية وسياسية واحدة. والدليل على ذلك أن موجة ثانية للثورة - بعد الموجة الأولى من 25 يناير حتى 11 فبراير - أو بالأحرى «نوبة صحيان ثانية» قد اندلعت فى شهر نوفمبر حينما ظنت الثورة المضادة أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، ثم أعطتها المرأة المصرية العظيمة «قبلة الحياة» فى أعقاب «موقعة ذات النقاب»، نعنى الفتاة المصرية التى جاءت بشهامة إلى المعتصمين أمام مجلس الوزراء لتقدم لهم العون الطبى فتعرضت للضرب والسحل والتجريد من ملابسها على أيدى عدد من الجنود والضباط الذين نسوا تقاليد الجيش المصرى وتجردوا من النخوة والرجولة. هذه الحادثة التى تبدو جزئية أطلقت الموجة الثالثة من الثورة وأعادتها إلى دائرة الفعل والتأثير. وأغلب الظن أن هذه الموجة مرشحة للاستمرار والتصاعد إذا استمر أداء المجلس العسكرى على ما هو، وإذا نسيت فصائل الإسلام السياسى - فى نشوة انتصارها - أن هذا الفوز الكبير ليس بريئا من تجاوزات كثيرة، غضت عنها النظر اللجنة العليا للانتخابات، وهى تجاوزات ربما تؤدى إلى صدور أحكام قضائية بإبطال عضوية الكثيرين أو حتى حل البرلمان بأكمله، وإذا نسى الاثنان - المجلس العسكرى وفصائل الإسلام السياسى - أن إجراء الانتخابات - على أهميتها - ليس نهاية المطاف. والأهم أن البرلمان الجديد سينعقد ويمارس أعماله فى ظل رقابة شعبية حقيقية هذه المرة، حتى بالمعنى الجسدى فأعضاؤه سيدخلون إلى مقر البرلمان تحت سمع وبصر آلاف المعتصمين «وهذه ظاهرة غير مسبوقة» أى أن «شرعية البرلمان» ستظل موضوعة دائما على محك «شرعية الميدان». والشرعيتان.. شرعية البرلمان وشرعية الميدان.. لن تكونا بمعزل عن تداعيات الوضع الاقتصادى والاجتماعى، وهناك من الأسباب ما يسوغ الظن بأن الاقتصاد المصرى مرشح لأزمات بالغة الصعوبة فى ظل التركيبة الهشة المشار إليها، كما أن الأوضاع الاجتماعية بدورها مرشحة لمزيد من التردى فى ظل الشطب المتعمد للثورة والثوار من الخريطة السياسية، وهذا معناه إعادة إنتاج أسباب موجة جديدة من الثورة بالتوازى مع الجهود الدءوبة الرامية إلى إعادة إنتاج نظام حسنى مبارك ولو بدون حسنى مبارك! ومن المتوقع أن يكون الصراع بين «الثورة» و«الثورة المضادة» هو القسمة الرئيسية للكر والفر وشتى معارك العام الجديد التى ستؤجهها تفاصيل وجزئيات من قبيل الحكم يوم الخميس الماضى بتبرئة المتهمين بقتل الثوار فى السيدة زينب أو اقتحام مقار منظمات حقوق الإنسان. وربما يكون الفارق الأساسى بين عام 2011 وعام 2012 أن السمة الرئيسية التى رسمت الخطوط العريضة للعام الأول هى التضاغطات بين «نصف ثورة» و«نصف انقلاب». أما العام الجديد فستكون القسمة الرئيسية له هو الصراع بين «الثورة» و«الثورة المضادة». والسؤال المهم الآن هو: هل يربط المجلس العسكرى والإسلاميون أنفسهم بالثورة المضادة ويقودونها أم يبتعدون عنها بهذه المسافة أو تلك؟! الإجابة ستشكل أجندة عام .2012 وكل عام.. ومصر بمسلميها ومسيحييها.. بخير.