سيد قطب، المفكر الإسلامى المعروف والقيادى الإخوانى البارز الذى أعدم فى الحقبة الناصرية متهما بالتآمر على قلب نظام الحكم، من أهم الآباء الروحيين لتيارات التطرف والعنف التالية والمنافسة للإخوان المسلمين، فقد خرجت هذه التيارات من معطف الحركة وتمردت على توجهاتها واتخذت سبيلاً مختلفًا، أسهم بشكل فعال فى عملية التغيير التى قادها السادات وانتهت باغتياله، على أيدى صنائعه ومباركة حلفائه، فى حادث المنصة. الأفكار القطبية فى حواراته مع الناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش، يرصد نجيب محفوظ ما طرأ على أفكار سيد قطب من تغيير عميق بعد انخراطه فى صفوف الإخوان المسلمين، والإفراج عنه بعد قضاء فترة عقوبته فى السجن: «لقد رأيت أمامى إنسانًا آخر، حاد الفكر، متطرف الرأى، ويرى أن المجتمع عاد إلى الجاهلية الأولى، وأنه مجتمع كافر لابد من تقويمه بتطبيق شرع الله انطلاقًا من فكرة «الحاكمية»، وسمعت منه آراءه دون الدخول معه فى جدل أو نقاش حولها، فماذا يفيد الجدل مع رجل وصل إلى تلك المرحلة من الاعتقاد المتعصب». ويختتم نجيب ذكرياته عن سيد قطب بقوله: «ولتأثرى بشخصية سيد قطب وضعتها ضمن الشخصيات المحورية التى تدور حولها رواية «المرايا» مع إجراء بعض التعديلات البسيطة، ولكن الناقد المدقق يستطيع أن يدرك أن تلك الشخصية فيها ملامح كثيرة من سيد قطب». عبدالوهاب إسماعيل فى «المرايا» مع تعديلات بسيطة غير جوهرية، يعبر عن شخصية سيد قطب التى عرفها نجيب عبر أطوارها المختلفة، ويجسد التحولات الهائلة التى مر بها المفكر المعروف، منتقلاً من مجال الإبداع الشعرى والنقد الأدبى إلى التبشير بالأفكار المتطرفة وتكفير المجتمع الجاهلى! بعد الإفراج عنه يزوره الراوى، ويستمع إلى آرائه وأفكاره الجديدة المتطرفة فى جميع مناحى الحياة، والتى تمثل الزاد الفكرى لجيل جديد من الشباب، بدأ مع الإخوان ثم انشق عليهم وغالى فى أفكار التطرف وممارسات العنف. يرى عبدالوهاب «سيد قطب» أن القرآن يجب أن يحل مكان جميع القوانين المستوردة، ويحمل بعنف على الاشتراكية والوطنية والحضارة الغربية، فهى «خبائث علينا أن نجتثها من نفوسنا». ولا ينجو العلم من حملته الشعواء: «لن نتميز به، نحن مسبوقون فيه وسنظل مسبوقين مهما بذلنا، لا رسالة علمية لنا نقدمها للعالم، ولكن لدينا رسالة الإسلام وعبادة الله وحده لا رأس المال ولا المادية الجدلية». إعدام سيد قطب لا يعنى نهاية أفكاره، وقد جاءت هزيمة يونيو 1967 لتصنع مناخا مختلفا عما كان سائدًا قبلها، ويمثل الدين أداة نجاة، على المستويين الذاتى والموضوعى، عند كثير من أفراد الشعب المصدومين، الذين فقدوا توازنهم الفكرى والنفسى بعد الكارثة غير المتوقعة. طوفان التكفير كان الإخوان المسلمون بمثابة الاتجاه الأقوى فى تجسيد الرؤية الدينية السياسية خلال ثلث قرن قبل هزيمة 1967 واصطدموا عبر هذه المرحلة مع نظام يوليو والنظام الأسبق لها، لا يخفى الإخوان، كما يقدمهم نجيب، شماتتهم فى هزيمة الوطن، ذلك أن الهزيمة عندهم من نصيب نظام عبدالناصر فى المقام الأول، ودليل ساطع يؤكد مصداقيتهم بقدر ما يجسد الفشل الذريع للناصرية التى حاربتهم وأقصتهم عن ساحة العمل السياسى. سليم حسين قابيل، فى «حديث الصباح والمساء»،يعتبر الهزيمة الكبرى: «عقابا إلهيا على حكم كافر». وفى «الباقى من الزمن ساعة» يعلق محمد حامد برهان على الهزيمة بقوله: «ما هى إلا بناء من الورق يقوم على الكفر والفساد». العداء «السياسى» يختلط بلغة التكفير «الدينى» عند سليم ومحمد، فالحكم «كافر» عند الأول، ويقوم على «الكفر» والفساد عند الثانى، وفضلاً عن ذلك، يتطرف محمد فى الشماتة كأنه سعيد بالهزيمة، وعاجز عن الفصل بين كراهية عبدالناصر وكرامة الوطن! من أفكار سيد قطب المتطرفة، حيث تكفير المجتمع والدعوة إلى القطيعة الكاملة مع العلم ومعطياته، وممارسات الإخوان التى تخلط بين النقد السياسى والتكفير الدينى، نشأ جيل جديد مهيأ للمزيد من الأفكار المتطرفة والممارسات الإرهابية وتوافقت توجهاته مع رغبة السادات فى تصفية خصومه من اليساريين، الإخوان المسلمون، مع تشددهم وتعنتهم، لا يمكن مقارنتهم مع أبناء التيارات الجديدة الأكثر تطرفا فى الفكر والسلوك، وفى قصة «صباح الورد» يقدم نجيب محفوظ نموذجا متكاملاً لواحد منهم، شكرى سامح. التحق شكرى بكلية الطب فى السبعبينيات، وعلى الرغم من لا دينية أبيه وأمه، فإنه ينخرط فى صفوف الجماعات الإسلامية المتطرفة، ويكشف حواره مع أبيه عن عمق التغيير الذى لحق به، يأخذ عليهما أنهما لا يصليان ولا يصومان، ويشربان الخمر مع ضيوفهما، وصولاً إلى الذروة حيث تعلو نبرة الاتهام: «- ألستما مسلمين؟ - طبعا. - المسلم ليس مجرد اسم ولكنه عقيدة وسلوك. - المسلم مسلم فى جميع الأحوال. - كلا.. إما أن تكون مسلما أو لا.. - هذا رأيك؟ - نعم.. قد هدانى الله إلى طريقه. فتساءلت أمه بقلق: - هل انضممت إلى التيارات التى يتحدثون عنها؟ - هدانى الله إلى طريقه! - إنه طريق شديد الخطورة. - هو طريق الله ولا يهم ما عدا ذلك. - لم تحدثنا من قبل بهذه اللهجة؟ - كنت فى غيبوبة الجاهلية». الأب والأم لا يضمران للدين شرًا ولا خيرًا، وهما بعيدان عن الإلحاد والكفر بقدر ابتعادهما عن الإيمان والتدين، مسلمان هما بالاسم، فأين العقيدة والسلوك؟! المنطق الذى يتسلح به الابن الشاب يحاصرهما، ومفرداته تكشف عن التزام صارم ويقين نهائى يرى الصواب المطلق والحقيقة الوحيدة فيما يؤمن به، والجاهلية والكفر من نصيب الآخرين! أليس ما يردده هو الحصيلة المنطقية المتوقعة لأفكار سيد قطب وممارسات الإخوان المسلمين ؟! الإسلام عند سامح لا يقتصر على الاسم وبطاقة الهوية، ولا يقنع بالفرد وعالمه المحدود، فهو منظومة متكاملة ينبغى أن يخضع المجتمع لها. أفراد التيار الجديد المتشدد لا يراعون الانتماء الأسرى والعواطف الإنسانية، ذلك أن ( إيمانهم ) لا يعبأ بكل ما هو موروث وسائد فى الحياة الاجتماعية المتسامحة، ويدفع الأبوان ثمنا فادحا للهداية التى حطت على ابنهما : ( وضاعف من همهما أنه دأب على تجنبهما تماما، فهو إما فى الكلية أو فى جامع الحى، أو فى حجرته. طعامه يتناوله فى المطبخ، إنها مقاطعة مطلقة). تزايدت أعداد المنتمين للتيارات الجديدة بفضل الحركة النشيطة فى الجامعات والمساجد التى يسيطر عليها المتطرفون ويتخذون منها مراكز لنشر أفكارهم، والسلوك الجاف مع الأسرة يعنى سلوكا أكثر عنفا وحدة مع المجتمع كله، فهو مجتمع كافر تحكمه سلطة كافرة، والمقاومة تصل إلى مرحلة المواجهة المسلحة والعنف المتبادل مع السلطة : ( فما يدرى ذات يوم إلا وشكرى يُلقى القبض عليه فى أعقاب معركة دامية مع الشرطة بتهمة القتل ، أدرك سامح أنه خسر ابنه الوحيد الذى عقد به آماله، وانطلق يبحث عن محام قدير ويدبر له المال اللازم من مدخراته وبيع بعض حلى زوجته. ورفض الشاب مقابلة والديه وأنكرهما. وفسد مذاق الحياة تماما، ومرت الأشهر السابقة للمحاكمة كأسوأ ما تكون الأيام. وتمت المحاكمة وقضى على الشاب بالشنق، ونُفذ الحكم، وأسدل الستار على المأساة الدامية) الابن الشاب ينكر الأب والأم والمجتمع والنظام جميعا، ويقين أفراد التيارات المتطرفة يتجاوز تعصب الإخوان المسلمين ولا ينفصل عنه. قد يكون فى التبسيط المخل غير الموضوعى أن يتهم السادات بأنه صانعهم والإخوان المسلمون بأنهم أباؤهم الروحيون، لكن من الخلل الفادح أن يُبرأ السادات والإخوان من مسئولية التمهيد والتشكيل والسعى المحموم إلى الاستثمار السياسى غير المحسوب. التجهم والتنطع شكرى سامح ليس نموذجا استثنائيا، وفى مقدمة (السيد س)، مجموعة (التنظيم السرى)، أسرة مصرية تقليدية يتوزع أبناؤها بين مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية، وواحد منهم ينتمى إلى التيار الدينى المتشدد : (أطلق الرابع لحيته وقذف الجميع بتهمة الكفر). وسرعان ما تتفاعل معه السلطة، وتبدأ دائرة لا نهائية من الصراع العنيف : ( تورط فيما لم يجر لى فى بال وحكم عليه بعشرين سنة). وتكشف قصة (المسخ والوحش)، فى المجموعة نفسها، عن جيل أكبر سنا ينتمى إلى التيار المتطرف الذى يرفع رايات التكفير، ويبالغ فى تأكيد خروجه عن المجتمع والقطيعة الكاملة مع قيمه ومعتقداته وسلوكه: (تذكرت صديقا قديما انخرط منذ أعوام فى تيار دينى متطرف فقصدته دون تردد استقبلنى مداريا فتوره إكراما للعهد القديم ولكنه امتنع فى الوقت نفسه عن مصافحتى متمتما: معذرة.. لا أصافح كافرا)!! الامتناع عن مصافحة (الكافرين) ليس إلا فعلا فرديا هامشيا، ينم عن التعنت والمبالغة فى التشدد، والرؤية الأكثر شمولا تقتحم الثوابت العامة وتهدد بزلزلة كل ما هو مستقر. الصديق القديم يختصر الفكر الذى يؤمن به فى قوله : ( المسوخ هم حكام البلاد الإسلامية ورجال الدين بها، ومسوخ المسوخ هم جمهرة المسلمين، وأما الوحش فهو نظام الحكم فى كل مكان). الظاهرة أعظم شيوعا من النطاق المحلى المحدود، وحاملو الأفكار المتطرفة يديرون ظهورهم للعصر ويخاصمون الحياة ويسعون إلى الخلاص عبر مبادرات وممارسات غير مسبوقة. محمود المحروقى، الذى يظهر بشكل هامشى عابر فى «يوم قتل الزعيم»، واحد منهم: (حل مشاكله بالمروق من العصر. إنه يعتقد أنه هزم العصر وطوعه لأغراضه. ماذا صنع بنفسه ؟ تعلم حرفة السباكة. دفن شهاداته فى أول وعاء قمامة. سألته: والدكان؟ أجاب دون أن يبتسم.. فنادرا ما يبتسم : أسير حاملا حقيبة حاوية للأدوات وأنادى سباك.. سباك.. فتنهال علىَّ الطلبات. سأصير قريبا أغنى من سيدنا الزبير !. وعندما هممت بالانصراف قال لى ساخرا : أدعوك للدخول فى دين جديد اسمه الإسلام )! احتقار للعلم، واحتكار للدين، ونفور من الحياة، وكراهية للمرح والابتسام، وتشبث بالتجهم والكآبة، ورغبة عارمة فى ممارسة العنف والتنكر لكل ما هو عصرى وعقلى.