هذه ليست محاولة لإمساك العصا من المنتصف، ولا للتوفيق بين متناقضات، ولا هي محاولة للجمع بين الماء والنار أو بين الزيت والماء، أنا أحب عبدالناصر وأنحاز له، لكنني بعد كل هذه السنوات اكتشفت أنني لا أكره السادات، لا أراه خائنا أو متآمرا أو يعاني من عته سياسي.. إلي آخر جميع وجهات النظر التي روجت عن السادات، وفي ظني أن مبارك وإعلام مبارك قد شجع عليها ودفع في اتجاهها مستخدما بعض كبار مثقفي اليسار سواء عن قصد أو بغير قصد. حب عبدالناصر عندي لا يعني كراهية السادات ولا تحقيره ولا الإقلال من شأنه أو من شأن اختياراته التي أظن أن عبدالناصر اختارها لمصر حين اختار السادات نائبا له، وفي ظني أنه لم يكن في الأمر خطأ تاريخي ولا تعيين مؤقت علي سبيل التكريم كما ذهب أساتذتنا في الناصرية وهم يفسرون ويعللون أسباب قرار عبدالناصر بتعيين السادات نائبا له، وفي ظني أن السادات لم يخدع عبد الناصر، وأن عبدالناصر كان أذكي من أن يخدعه السادات، اختار عبدالناصر السادات وهو يعرف أنه السادات ويعرف في أي طريق سيسير بعده وكان هذا الطريق هو اختيار عبد الناصر الأخير والوحيد. -- كان السادات هو المنقذ الأخير لنظام يوليو كي يبقي علي قيد الحياة، حيث ثار الضباط الأحرار بزعامة عبد الناصر الذي كان زعيما شريفا جليلا حالما، بعث نهضة أمة وأيقظ أمجادها وتمثل في تجربته تجربة محمد علي باني مصر الحديثة. وكما تآمر الغرب علي تجربة محمد علي وأنهي تجربة نهضته ومحاولة توحيده للأمة العربية فعل نفس الشيء مع عبد الناصر، وأنهي تجربته في النهضة في يونيو ,1967 ولم يكن امام نظام يوليو وهو نظام أكبر من عبد الناصر حتي لو كان ناصر هو رمزه الأعظم وزعيمه الأهم سوي اختيارين .. أولهما أن يعلن هزيمته تماما ويرحل مسلما البلد لفلول النظام القديم أو للغرب وأعوانه، أو أن يختار الاختيار الثاني وهو أن يعيد إنتاج نفسه ومواقفه وأن يسير في طريق أكثر مرونة في التعامل مع الغرب ومع إسرائيل التي كانت الصخرة التي تحطمت عليها تجربة النهضة وآمال الوحدة، ولم يكن هناك أفضل من السادات ليقوم بهذا التحول في مواقف نظام يوليو، ولا أظن أن عبد الناصر بذكائه ودولته وقبضته وأجهزته كان يغفل عن ميول السادات أو عن علاقته بكمال أدهم من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي، بل إن عبدالناصر وليس أحدا غيره هو الذي عينه ممثلا لمصر في منظمة المؤتمر الإسلامي. كان عبد الناصر يعرف عن علاقات السادات بكمال أدهم وبغيره تماما كما كان يعرف عن علاقته بالحرس الحديدي قبل الثورة ويشهد له ومعه وينصفه أمام هجوم زملائه في مجلس قيادة الثورة. -- ما أقصد أن أقوله أن السادات كان هو (الصيرورة ) التاريخية التي آلت إليها ثورة يوليو بحكم هزيمتها في يونيو ,67 أما كيف أدار السادات هذا التحول الحتمي والذي اختاره عبد الناصر فهذا هو محور خلاف الناس مع السادات وحول السادات. -- وفي ظني أن السادات من 70 إلي 75 هو سادات آخر مختلف عن السادات من 75 إلي 80 . السادات الأول سادات ذكي وماهر وماكر يتخلص من خصومه الذين يسيطرون علي مفاصل الدولة بأقل مجهود ممكن، ويخطط وينفذ لحرب أكتوبر كأروع ما يكون التخطيط والتنفيذ، وهو فضلا عن هذا يستغل مواهبه التمثيلية في إحراق أشرطة التسجيلات وإعلان دولة الحريات ونزع الغلالة السلطوية عن جسد الدولة وهي كلها إيجابيات تحسب له، أما السادات الثاني فهو سادات عصبي نزق لا يتحمل أن يبذل المجهود الكافي لكي تتحول أحلامه الكبيرة إلي حقائق علي أرض الواقع، وهكذا يتحول الانفتاح الاقتصادي علي يديه من خطوة عملاقة من شأنها أن تدخل مصر إلي قلب الاقتصاد العالمي والصناعة العالمية إلي مجموعة إجراءات يستفيد منها مجموعة من اللصوص والأرزقية ولاعبي الثلاث ورقات، وهو أيضا لا يصبر علي قراره بالسلام مع إسرائيل ويخرجه في أسوأ صورة ممكنة فيذهب إلي إسرائيل رغم أن إسرائيل كانت هي التي ستأتي إليه زاحفة لو أراد وصبر وخطط كما فعل في حرب أكتوبر، ثم هو لايطيق الصبر علي المفاوضات ولا يتحمل جلد ومناورة مفاوضيه ورجاله من المصريين فيأمرهم أن ينتهوا سريعا وأن ينفذوا ما يطلبه بيجين ووسيطه كارتر دون (مناهدة) أو جدال. -- هذا السادات العصبي والنزق والمختلف تماما عن السادات الأول هو الذي يضع المئات من مثقفي مصر وكبار سياسييها في السجون معتقدا أنه سيدبر لهم مفاجأة سعيدة حين يفرج عنهم بعد انسحاب إسرائيل من سيناء ويراضيهم ويسترضيهم كما يليق برب الأسرة وكبير العائلة أن يفعل إذا أغضب أحدا من أقاربه أو رعاياه. وأنت لا تستطيع أن تمنع نفسك من التعاطف مع السادات وهو يتذاكي ويتخابث ويقرر أن يضرب اليساريين بالناصريين بالإسلاميين ليموت علي أيديهم في النهاية، وهي ميتة درامية لم يكن يستحقها بكل تأكيد مهما كان الخلاف معه أو عليه. ثم إنه بعد ثلاثين عاما من حكم مبارك، يبدو السادات بتاريخه وثقافته وذكائه وسخونة أدائه والفساد الصغير للغاية في عهده وكأنه ملاك بجانب مبارك وفساده وبروده وعفونة عهده وتكلس عظامه وتيبس مفاصله. وهكذا فإن عبد الناصر بزهده وعظمته وأحلامه وكبريائه كان هو الاختيار الأفضل لمصر، لكن السادات كان هو الاختيار الممكن في وقته وفي تاريخه، ولهذه الأسباب أنا أحب عبد الناصر ولكنني لا أكره السادات حيث كان جزءا مما قدر علي جبين مصر أن تراه. وأعتقد أنه آن الأوان لمراجعة شاملة وكاملة للموقف من حكام مصر جميعا من فاروق إلي عبدالناصر ومن السادات إلي مبارك!