كثيرون هم من يتحدثون باسم الشارع المصري، يقولون إن الشعب المصري قلق وغاضب من إيقاع الحركة السياسية الانتقالية السائدة منذ الإطاحة بالنظام السابق وحتي الآن، منهم من يبدي شديد الانزعاج لأن الثورة لم تحقق أهدافها بعد، ويخشي أن تكون محاولات إجهاضها قد نجحت، وبالتالي فنحن في حاجة إلي موجة ثانية من الثورة. من هؤلاء المتحدثين الكثيرين من يري أن ما تحقق من نتائج ثورية غير كاف لإشباع حاجة المجتمع السياسي الثوري، لذلك فمن الضروري استئناف الضغط بالمليونيات حتي تتحقق المطالب متعددة الاتجاهات التي تتوالد بين الثوار، وتتميز بأنه لا سقف ولا حدود لها. كل هؤلاء المتحدثين يندرجون تحت مسمي النخب، أو الجماعات المثقفة علي اختلاف مشاربها الفكرية وعلي قدر مدي اتساع أفقها، وهم منتشرون علي صفحات الصحف وموجات الأثير وشاشات التليفزيون ويستهلكون يوميا مئات الأطنان من الكلام المنتقي تحت عناوين مثالية مثل: ينبغي ويجب والصحيح والأفضل، وغيرها من ألفاظ الوقار العقلي والانبعاج الذهني. لاحظت أن معظم الناس في الدائرة التي أعرفها من البسطاء في التفكير والسلوك والتعبير مثلي بدأوا ينصرفون عن تلك الحفلات الكلامية التي لا تتصل بجوهر ما يريدونه ويرغبون فيه، معظم هؤلاء الناس الذين أتحدث عنهم لا يستوعبون معني أن الثورة لم تحقق نتائج في ستة أشهر لذلك ينبغي الانقلاب علي الثورة الأولي وعمل ثورة جديدة، وكأن الثورة أصبحت حرفة للبعض أو أنها نوع من الألعاب الترفيهية، أو سلعة تباع علي الأرفف في بعض الدكاكين، ولا تتعلق بها مصالح الناس وأرزاقهم. قال لي بعض الناس تعليقا علي الدعوة المتكررة إلي المليونيات أو الاحتجاجات أو الاعتصامات إن هؤلاء الأشخاص الذين ينظمونها يجدون من ينفق عليهم وعلي أسرهم، ومن يمول حركتهم الاحتجاجية، أما نحن فمن أين نعيش والحال واقف أو شبه متوقف في إشارة إلي انقطاع أرزاق الكثيرين وتفشي حالة الركود الاقتصادي. طبعا هذه وجهة نظر لا نستطيع التسليم بها بصورة مطلقة، ولكننا لا نستطيع رفضها لأن فيها جزءا قل أو كثر من الحقيقة التي تشير إلي الانفصال بين ما تراه النخب وما يريده الشارع الذي يرغب في إتاحة الفرصة للفترة الانتقالية أن تمر لتأتي بعدها حكومة منتخبة يمكن محاسبتها ووضع الآجال الزمنية لها. هنا يمكن القول إن القوي السياسية الناشئة بعد الثورة والتي تحاول إفساح مساحة لها للمشاركة في حكم البلاد تواجه معضلة كبيرة، وتخطئ خطأ جسيم في الاعتماد علي ما يسمي نظريا بالنقاء الثوري لتبرير مواقف لها لا تراعي مصالح الناس الآن طلبا لتحسين أوضاعهم في المستقبل. معظم الناس يميلون إلي الإقلال من حجم الصراع السياسي ولا يحبذون رفع درجة التوتر بين الفئات والطوائف والشرائح المتنوعة داخل المجتمع لأنهم يعيشون علي الكفاف أو بالكاد تكفيهم دخولهم من أعمالهم محدودة القيمة، وليس لديهم غطاء من المدخرات يكفي لتمرير وقت الاضطرابات والاحتجاجات المعطلة للعمل، لذلك هم بالفطرة لا يستبشرون خيرا من التصعيد ولا يحبذون المواجهات لحل مشاكلهم، وبالتالي قد يعجبهم التحرك الثوري للشباب لكنهم لا يفضلون أساليبهم لإدارة شئون البلاد. كذلك يخطئ من يظن أن معالجة قضايا فساد الحكم وفساد الإدارة والانفلات السلوكي والزمني يمكن معالجتها بالتصعيد الثوري وأن عنصر الوقت ليس حاكما فيها، المثير للدهشة أن البسطاء من الناس يدركون أن تفكيك حالة الفساد الذي استشري في البلد يحتاج إلي مزيد من الوقت، كما أن إزالة الفساد تتطلب إجراءات قد لا تستطيع حكومة انتقالية اتخاذها وقد تتطلب تشريعات يوافق عليها مجلس منتخب. اللجوء إلي الإجراءات الاستثنائية لمكافحة الفساد أو التعجل في محاكمة الفاسدين يؤدي إلي خلق مواقف يصعب حلها فيما بعد وربما تضيع حقوق أو يفلت مذنب بسبب اللهوجة والتعجل والضغط الصاعد من الشارع الذي يسابق تشكيل حكومة منتخبة، والحقيقة أنني عجزت عن فهم الأسباب التي تدعو إلي التعجل ومحاولة اتخاذ مواقف بالغة الشدة والقوة قبل الانتخابات وتشكيل سلطة الحكم المدني المسئولة برلمانيا، هل تحاول بعض الجماعات خلق سلطة ديكتاتورية جديدة؟ ربما.