من يتجول فى مصر القديمة يصادفه مسجد عمرو بن العاص وعلى مقربة منه يمر بمجمع بن عزرا اليهودى ومجموعة من الكنائس الأثرية ومنها الكنيسة المعلقة التى كانت فى وقت من الأوقات مقرا للبطريرك.. المشهد نفسه تجده فى شارع النبى دانيال بالإسكندرية، حيث يبدأ من جهة محطة القطار بمسجد النبى دانيال الذى يظن أنه بنى فوق أحد المعابد البطلمية وقد يضم قبر الإسكندر الأكبر.. وفى وسط الشارع تجد عن يمينك المعبد اليهودى الضخم ومقابله عن يسارك تجد المدخل الشرقى للكنيسة المرقسية. كلها رموز على أرض مصر منذ مئات وآلاف السنين، لا تدهشنا لأنها جزء من المعطيات التى ولدنا فيها وعشنا وسطها، وإذا كان فى هذا ما يشى بما فى مصر من تعددية دينية فيجب ألا ننشغل به عن أوجه أخرى للتعددية مثل التعددية الإثنية.. أهل النوبة، وأمازيغ الصحراء الغربية، وبدو سيناء.. فى بلدنا أيضا تنوع بيئى، من بيئة زراعية محضة إلى سواحلية بها الصيادون، وبدوية يعمل أهلها بالرعى، وصناعية فى المحلة الكبرى وشبرا الخيمة وحلوان، فضلا عن مناطق استخراج وتكرير البترول.. يمكننا أيضا أن نرصد التباين فى الطبقات الاقتصادية الاجتماعية، وفى مستوى التعليم، وفى التوجه السياسى والأيديولوجى، هذه النظرة الفاحصة لنسيج المجتمع قد يزعجها هذا التنوع الذى يتجاوز التعدد وقد يصل إلى درجة من درجات التباين، ومصدر الانزعاج أن النظرة السريعة قد توحى بالقابلية للتشتت والتشرذم، وحقيقة الأمر أن التنوع فى المجتمع قد يصل بنا إلى المصير الذى يخشاه المتشائمون، ولكن هذا المصير ليس حتميا بحال من الأحوال لأن المآل الحقيقى تحدده الآليات التى يتعامل بها المجتمع الضام مع الفئات أو العناصر التى توجد فى حدوده، يمكن لأى مجتمع أن يتبنى عن قصد أو عن غير قصد واحدة من عدة سياسات، نذكر منها سياسة الإقصاء، والهضم، والاحتواء، والتلاحم والتماسك وأخيرا قد ينتهى به المطاف لتحقيق هدف التكامل بين العناصر المختلفة. أخطر ما يمكن أن تنتهجه الثقافة العامة السائدة هو منهج الإقصاء الذى يعنى رفض الآخر ونبذه، وقد بدت بعض السلوكيات الإقصائية فى بعض المليونيات عندما عمد أتباع إحدى الفصائل لتمزيق شعارات الفصائل الأخرى أو منع أعضائها من الصعود للمنصة الرئيسية، وهناك أمثلة متعددة على الإقصاء على الأساس الدينى فى بعض المواقع، وهناك إقصاء لغير أبناء القضاة أو لغير أبناء أعضاء هيئات التدريس الجامعى فى بلوغ الوظائف التى يشغلها آباؤهم.. وهو نوع دارج من أنواع التوريث التى استهجنها الشعب عندما رآها تصل إلى قمة السلطة.. إذا تجاوزنا السياسة الإقصائية قابلتنا عدة بدائل من احتواء، وضم، وتلاحم.. وأخطر ما فى هذه المناهج مجتمعة هو أنها كلها تنبنى على مفهوم «قبول الآخر» وهو شعار ظاهره الرحمة وباطنه العذاب.. لأننا وببساطة شديدة قد نمارس مبدأ قبول الآخر بطريقة «صباح الخير يا جارى، أنت فى حالك وأنا فى حالى»، وقد يمارسه البعض الآخر بطريقة أكثر خبثا «اصبر على جار السو، يا يرحل يا تيجى له مصيبة». إن الاقتصار على قبول الآخر دون معرفته لا يدع فرصة لبناء وشائج العلاقات معه، ولعلنا ننجح فى أن نبدل مفهوم القبول بمفهوم المعايشة ونبدل مفهوم الآخر بمفهوم الشريك، فإذا تبدل مفهوم قبول الآخر بمفهوم التعايش مع الشريك كنا بهذا نستثمر رأس المال الاجتماعى فى مصر أحسن استثمار، وكنا بهذا نضع القواعد الاجتماعية والنفسية المتينة لبناء الدولة الحديثة التى نتمناها. المجتمع التعددى الضام ليس مجتمعا متجانسا ولا ينبغى له أن يكون كذلك، لكنه مجتمع متكامل يضم بين طياته كل العناصر الأصيلة التى لا يتميز فيها عنصر على آخر إلا بمقدار ما يسهم به فى بناء المجتمع. المجتمع المتكامل التعددى لا تسود فيه ثقافة على أخرى «وبهذا ينتفى ذعر الليبراليين من الأصوليين وكذلك ينتفى الخوف المستطير للأصوليات الدينية السلفية من كل ما ينتمى للعلمانية والليبرالية بصلة» كل الثقافات توجد إلى جوار بعضها البعض تتلاقح وتتفاعل فى غير تضاد وبدون إعلان للحرب بينها، إذا وصل هذا الفهم للمتشددين من أى من الأطراف هدأ روعهم وتوجهت بوصلة التفكير باتجاه أكثر إيجابية. كل العناصر مجتمعة تشكل لوحة موزاييك رائعة، وكل الأصوات مجتمعة تسهم فى عزف سيمفونية عذبة النغمات. وأسأل: هل فيما ذكرت حلم يوتوبى بالمدينة الفاضلة؟ أم أنه كان حديثا عن المواطنة؟!