يخطئ الذين يراهنون علي غفلة الشعب المصري- لا سمح الله- كذلك يخطئ الذين يروجون أنه شعب غير مؤهل لممارسة حياة ديمقراطية، فقد لاحظت خلال رصدي للأحداث منذ ثورة 25 يناير وإلي الآن، أن الشعب في عمق طبقاته البسيطة غير المسيسة يتجه بفطرة سليمة نحو الاختيار المناسب دون الالتفات إلي جدل جماعات المثقفين والنخب التي تشرذمت إلي حد كبير. الصورة الآن تبدو أكثر وضوحا، نخب المثقفين ارتفع عنها غطاء الضغط والتقزيم الذي مارسه لعقود النظام السابق في محاولته المستميتة لإبقاء السلطة داخل دائرة مغلقة يتحكم فيها بضعة أفراد استنادا إلي سطوة جهاز الأمن وملاحقته لأي ناشط يختلف مع رأي النخبة الحاكمة وجماعة المستفيدين منها. نتيجة طبيعية لزوال عوامل الضغط والمطاردة والملاحقة بدت صورة تلك النخب مختلفة تماما، وعزز من حجم هذا الاختلاف انطلاق آلة إعلامية متعددة الأطراف تطحن كل يوم آلاف الرؤي والأفكار، اختلفوا في كل شيء حتي النخاع، كل التفاصيل انفتح حولها باب المزايدات بدون سقف لأي شيء، حتي حدود الخطر الشامل علي المجتمع وكيان الدولة ذاته تاهت وسط الجدل والرغبة في إثبات الذات السياسية بعد غياب دام عدة عقود. روح الثورة التي شاعت في المجتمع وما أسفرت عنه حتي الآن لا تقنع بعض النشطاء المهتمين بالشأن العام، ويحاولون كسب المزيد وهذا حق وعدل، لكن الاندفاع والإنكار وتجاهل ما تحقق من مكاسب يسببان انفصالا بين جماعة المثقفين أو النخب، وبين العقل الجمعي للشارع المصري الذي يتجه بالفطرة إلي الاختيارات السليمة والصحيحة دون الالتفات كثيرا إلي المواقف الأيديولوجية أو الانتماءات الفكرية والسياسية لهذا أو ذاك. لعل إحساسي بتحرك الشعب بفطرته نحو الاختيار الأفضل هو ما يدفعني إلي الشعور بالاطمئنان علي مستقبل البلاد، ويخفف من الانزعاج الشديد، الذي تسببه خلافات جماعات المثقفين والنخب السياسية والدينية وغيرها. أيد الشعب الاتجاه إلي الاستقرار بفطرته السليمة في استفتاء مارس الماضي الذي حدد تقريبا خريطة الطريق للخروج بسرعة من الفترة الانتقالية إلي حكم دستوري مستقر قائم علي إرادة الشعب وما يراه مناسبا في صناديق الانتخاب. حاول البعض ركوب إرادة الشعب وزعموا أن تصويت الشعب لمصلحة التعديلات الدستورية هو في الواقع تصويت واختيار لاتجاه معين كما أشاع ذلك بعض التنظيمات السياسية الإسلامية، كان لي رأي في هذا الموضوع ناتج عن استقصاء شخصي قمت به غير متأثر بالمعزوفة التي انطلقت من وسائل الإعلام في ذلك الوقت، كان رأيي أن نتيجة الاستفتاء تعني التفاف الشعب حول المجلس العسكري وثقته في قدرته علي تخطي الفترة الانتقالية. لعلنا نذكر محاولات البعض التي مازالت تجري بإصرار عجيب لخلق مواجهة مع المجلس العسكري بأي طريقة حتي ولو عن طريق السباب والشتائم، الملاحظ أيضا أن الاستجابة الشعبية لهذه المحاولات منعدمة تماما ولا تحظي بأي تأييد أو مساندة. المشهد الثالث هو ما يتعلق بالدعوة إلي الاعتصامات والاحتجاجات وتعطيل المرافق التي يساندها بعض النخب من المثقفين بزعم أنها ضرورية للضغط علي الحكومة والمجلس العسكري لتحقيق مطالب الثورة، تلك الدعوات للاعتصام والاحتجاجات باتت لا تلقي استحسانا من المواطنين، بالفطرة وليس بالتوجيه. دعنا من أولئك المنتظمين في سلك جماعات معينة كالسلفية أو الإخوان أو الجماعات الليبرالية الأخري، أو جماعات الفلول كما يحلو للبعض أن يسميها، تلك المجموعات علي اختلافها قد تتلقي تعليمات بالتجمع والاعتصام أو الانفضاض، لكني أتحدث عن جموع الملايين من الشعب المصري التي خرجت أيام ثورة يناير وانحاز لها المجلس الأعلي للقوات المسلحة مساندا لثورتها حتي أرغمت الرئيس السابق علي الرحيل، هذه الجماهير- الملايين- لم تعد للتجمع مرة أخري- لم تعد لتأييد المطالب الفئوية أو السياسية التي تحاول أن تفرضها الجماعات السياسية، كما أنها لم تقل كلمتها بعد عن المجلس التشريعي القادم أو الدستور الجديد أو الرئيس الذي سوف تختاره، وسوف تقوله في الوقت المناسب.