كتب: عبدالجليل الشرنوبي بالطبع كان الله فى عون الإخوان الذين تحملونى 23 عاما ، واستطاعوا بلباقة ولياقة عصر مبارك أن يحتوونى، غير أنه لم يكن مناسبا على الإطلاق أن تستمر ذات اللباقة واللياقة هى الحاكمة لاستيعابى فى العصر الجديد الذى تحياه مصر كلها. واليوم حين أقف على أعتاب ما كان ، أجد أن الأستاذ محمد مهدى عاكف المرشد العام السابق للجماعة ، كان يمتلك - حتى وإن كان هناك من يختلف معه - مساحات أخرى للنهضة بالجماعة عبر حلمه بالتغيير الحقيقى والفعلى وهو ما استطاع أن يحققه على ذاته وهو أضعف الإيمان أمام من يرون أنفسهم «حراس الثوابت»! كان عاكف يعلنها صريحة «أتمنى أن أغادر الإرشاد ومعى المكتب كله ولا يصبح فيه عضو سابق الكل دماء جديدة شابة وقادرة ومجددة» لكنه لم يستطع إلا أن يجعل من نفسه النموذج والقدوة وبالتأكيد جاء هذا على غير هوى «حراس الثوابت» فكانت الممانعة الشديدة فى قبول فكرة ألا يستمر مرشدا من كل أعضاء المكتب حتى أعلن «إما انتخابات لكل المكتب والمرشد أو أستقيل من موقعى». عندما قررت الاستقالة من تنظيم الإخوان.. تساءلت كثيرا «ما سر هذه الممانعة فى فكرة تنحى المرشد أو عدم رغبته فى التجديد»؟ وربما للوصول لهذه الإجابة عدت بذاكرتى إلى كتيبة - واحدة من وسائل التربية عند الإخوان وهى عبارة عن اجتماع مطول لعدد من الإخوان يكون الكل فيه صائما ويفطرون سويا وتسود فيه الكلمات التربوية والإيمانية وبعض الأمور التنظيمية وكانت تستمر من عصر الخميس حتى بعد فجر الجمعة مرة كل شهر ومع الظروف الأمنية كان يتم اختصارها إلى نصف مدتها أو ربعها - حضرتها مع الإخوان فى مدينة دمنهور عام 1990م وفى الفقرة التى من شأنها تثقيف الحضور فيما يخص التنظيم تحدث الأخ المحاضر عن مكتب الإرشاد والمرشد وهو ما دفعنى لأن أسأل عن كيفية اختيار المرشد العام وشروطه ؟ كان السؤال للوهلة الأولى صادما.. وخارج المنهج بالنسبة للأخ المحاضر وهو ما دفعه للصمت لحظات قبل أن يسعفنى عدد غير قليل من إخوانى خفيفى الظل بسيل من إجابات لم تغادر عذوبة أرواحهم وانطلاقها على شاكلة «نويت يا سيادة المرشد تترشح - طيب جهز 12 صورة - ولازم تكون ملتحى».. يومها على ما يبدو تاهت الإجابة بعد أن طلب الأخ المحاضر من الإخوة الصمت وعدم المزاح ثم انتقل مباشرة لموضوع يراه أكثر أهمية حيث كان عنوانه «الإخلاص والتجرد والثقة» وأعتقد أنه أراد أن يصحح لى المفاهيم بعدما ولجت ما لا خوض فيه. لقد تربينا دهرا داخل الجماعة على «الإخلاص والتجرد والثقة» باعتبارها من أركان البيعة العشر ، لكن ما يشغل بالى هو ركن «الفهم» الذى يسبقهم جميعا حسب ترتيب الإمام حسن البنا ، وهو الذى يؤكد فى الأصل الثامن عشر من أصوله العشرين «الإسلام يحرر العقل» ومع وضع هذا الفهم فى إطاره فإن «الإخلاص» يكون نتاجا له ، خالصا لله فسره البنا قائلا «من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر ، وبذلك يكون جنديا فكرة وعقيدة ، لا جندى غرض ومنفعة» معتبرا ألا فرق فى خطابه بين أى مستوى قيادى لأن هذا الفعل يتم ب «تجرد» تتخلص فيه لفكرتك مما سواها من المبادئ والأشخاص ، ومن ثم يؤدى ذلك إلى «الثقة» التى - حسب رسائل البنا - تخلق حالة اطمئنان من الجندى إلى القائد فى كفاءته وإخلاصه اطمئنانا عميقا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة ، وهذا الاطمئنان لا يتم إلا عندما ينظر الأفراد للقادة بعين الفاحص للتعرف عليهم من قبل تكليفهم- حسن البنا فى رسالة التعاليم - ولدراسة ظروف حياتهم والاطمئنان إلى كفايتهم وإخلاصهم ؟ بالتأكيد استطاع عاكف أن يعبر عن حالة الوضوح والوعى بتطبيق أركان البيعة ليخلق جوا عاما من الثقافة المغايرة لفلسفات الاحتكار الدائم للسلطة بفهم واع وإخلاص دونما مغنم حتى لو كان كرسيا فى مكتب الإرشاد أو مكتب أصغر شعبة. إضافة إلى أن «عاكف» الذى عايش ورأى واعتقل وحوكم ثم أعدم ثم خفف عنه الحكم ثم خرج ليجوب أصقاع العالم ثم عاد مرشدا هذا الرجل كان دوما متمسكا بالأمل.. وحين اتصلت لأبلغه باعتقال أمن الدولة لقيادات من الإخوان فجر جمعة الغضب رد على بضحكة طويلة ساخرة وهو يقول «الله أكبر دى باينها قربت يا ولاد» كان دوما يراهن على أن الأمل موجود وقائم وأن الشباب سيفعلون لذا أراد أن يغادر مكتب الإرشاد شابا لا مقضيا حتى يذكرها له الشباب القادمون. غير أن الذى حدث هو أن عاكف غادر مقعد المرشد بفروسية كانت تقاوم الرافضين للفكرة فى الداخل قبل الخارج.. لكنه لم يستطع أن يخرج وفى يده كل أعضاء مكتب الإرشاد فقد خرج مستعيدا دور الجندى الذى أراده حسن البنا.. وعاد لعضوية المكتب كل من رفض خروج عاكف حتى من كان مسجونا. ولم يزل السؤال يتردد فى أذنى «كيف يتم اختيار المرشد»؟ والإجابات تأتى مرددة أصداء أركان البيعة وتعليقا باسما من رفاق درب «يا عم خلينا فى حالنا.. عايزين نربى عيالنا»!!