خبر تسرّب المياه داخل متحف اللوفر؛ لم يكن مجرّد حادث عابر فى واحد من أشهر المتاحف العالمية، بل كان إنذارًا صريحًا يضرب فى صميم ملفّ حماية التراث العالمى، بالأخص التراث المصرى الموزّع فى عشرات الدول. ففى نهاية نوفمبر الماضى، أعلنت إدارة المتحف عن تضرّر ما بين 300 و400 كتاب ووثيقة داخل مكتبة قسم الآثار المصرية، بعد تسرب مياه «قذرة» من أنظمة التدفئة والتهوية المهترئة، وهى أنظمة - وفق اعتراف المتحف نفسه - كان من المقرر تجديدها منذ سنوات، قبل أن تتأجل أعمال الصيانة إلى سبتمبر 2026. ورغم أن إدارة اللوفر حاولت التخفيف من وقع الحادث، بالإشارة إلى أن الكتب ليست قطعًا «أثرية» ثمينة، فإن تلك الوثائق المتضررة تحوى سجلات قديمة، ومراجع علمية، وخرائط تنقيب يعود بعضها لعقود، وهى مصادر لا يمكن تعويضها بسهولة، لأنها جزء من الذاكرة العلمية لعلم المصريات، وليست مجرد أوراق مخزنة على رفوف قديمة. حماية الآثار حادثة اللوفر كشفت هشاشة البنية التحتية حتى داخل أكثر المؤسسات الثقافية تطورًا، وألقت الضوء على أبعاد أحد أكثر الملفات العالمية حساسية: كيف تُحمى آثار الحضارات القديمة خارج أوطانها؟ وما الضمانات الفعلية التى تستند إليها المتاحف العالمية عند التعامل مع آثار لا تخصها، بل تخص تاريخ شعوب أخرى ومساحات واسعة من الذاكرة الإنسانية؟ فبينما يذهب الرأى العام عادة إلى التفكير فى التماثيل والنقوش والقطع المتحفية الضخمة، يغيب عن الواجهة أن «التراث الورقى» - من مخطوطات ووثائق وأرشيفات ومسودات بحثية - لا يقل أهمية عن القطع المعروضة خلف الزجاج؛ تلف كتاب واحد يحمل خريطة تنقيب من القرن الماضى قد يعنى ضياع طبقة كاملة من المعلومات التى لا يمكن إعادة رسمها مرة أخرى. تحذير مسبق الأمر الأكثر خطورة أن الحادث لم يكن نتاج طارئ مفاجئ، بل بسبب إهمال صيانة تم التحذير منه مرارًا؛ بحسب تصريحات لعدد من العاملين فى قطاع الصيانة بالمتحف، كانت هناك طلبات لزيادة الميزانية ونقل الأرشيف إلى أماكن أكثر حماية خلال عامى 2023 و2024، لكنها لم تُنفّذ، لصالح أولويات أخرى تتعلق بالعرض والأنشطة الثقافية والتوسعات السياحية. الأزمة لا تقف عند أبواب باريس؛ فبينما تواجه آثار مصر فى الخارج خطر الإهمال فى أوقات السلم، تواجه آثار دول أخرى خطرًا أشد وقعًا فى أوقات الحرب؛ ففى أوكرانيا تَحوَّل التراث الثقافى، منذ اندلاع الغزو الروسى فى فبراير 2022، إلى ضحية مباشرة للصراع. متحف «إيفانكيف» وثّقت اليونسكو حتى نهاية نوفمبر 2025 تضرر أكثر من 512 موقعًا ثقافيًا، تشمل متاحف وكنائس ومكتبات ومواقع أثرية؛ بعض المبانى دُمر بالكامل مثل متحف «إيفانكيف» الذى احترق فى الأيام الأولى للحرب، ما أدى إلى ضياع أعمال فنية شديدة الندرة للفنانة الشعبية ماريا بريماشنكو، وهى أعمال لا تُقدّر بثمن. فى محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أحد خبراء التراث فى ICCROM علّق بأن «الحرب تُحوّل الأرشيف الهش إلى رماد فى دقائق، بينما يحتاج بناؤه إلى عشرات السنين من البحث». الرقابة والحماية إن المقارنة بين حادث اللوفر وتدمير التراث فى أوكرانيا ليست مقارنة بين سلم وحرب فحسب، بل بين نوعين من الخطر: خطر الإهمال وخطر العنف؛ ففى باريس يمكن أن يؤدى تسرب مياه إلى إتلاف مئات الوثائق فى دقائق، بينما فى كييف أو خاركيف يمكن لقذيفة واحدة أن تدمر متحفًا بأكمله. لكن فى الحالتين، النتيجة واحدة: خسارة لا تعوّض فى ذاكرة الإنسانية؛ وهذا ما يفتح بابًا أوسع لإعادة التفكير فى علاقة الدول الأصلية - مثل مصر - بالتراث الموجود بالخارج، ليس فقط من منظور «الاسترداد»، وإنما من منظور «الرقابة والحماية». فى ظل هذه الوقائع، يرى خبراء الآثار فى أوروبا والولايات المتحدة أن على الدول المالكة للتراث - وعلى رأسها مصر - أن تطالب بضمانات واضحة تتعلق بصيانة البنية التحتية، لا مجرد حفظ القطع فى مخازن أو عرضها للجمهور، أحد الباحثين فى جامعة السوربون صرّح فى دراسة حديثة بأن «المتاحف الكبرى تعيش تحت ضغط اقتصادى وسياحى، يجعل أولوياتها أحيانًا تميل إلى التوسّع بدل الحماية». ووفقًا لخبراء حفظ التراث فى بريطانيا، فإن أكبر تهديد حالى للأرشيفات المتحفية ليس السرقة أو البيع غير المشروع، بل «تغير المناخ وتهالك البنية التحتية»، وهى عوامل تتطلب استثمارات ضخمة لا تُخصص لها ميزانيات كافية. أما فى مناطق النزاع، فالوضع أكثر تعقيدًا؛فكما تقول إحدى مستشارات اليونسكو فى تقريرها الأخير: «عندما تبدأ الحرب، يصبح التراث آخر ما تفكر فيه الحكومات، وأول ما يُستهدف من جيوش تريد محو هوية الآخر»؛ وهو ما حدث تمامًا فى أوكرانيا، وفى مناطق أخرى من العالم مثل سوريا واليمن والعراق، حيث ضاعت مكتبات كاملة ومخطوطات نادرة فى لحظات. حجر رشيد وفى سياق أوسع يتجاوز حادثة اللوفر وأزمات الحرب، يبقى «حجر رشيد» رمزًا واضحًا للصراع التاريخى حول ملكية التراث المصرى فى الخارج؛ فالحجر الذى استولت عليه القوات البريطانية عام 1801 بعد هزيمة الفرنسيين فى مصر، انتقل إلى بريطانيا كغنيمة حرب، ليستقر منذ أكثر من قرنين فى المتحف البريطانى. وبالرغم من تطوير المتحف لطرق العرض واعتباره الحجر «أيقونة تعليمية عالمية»، فإن المطالبات المصرية باسترداده تجددت خصوصًا مع اتساع موجات استعادة الآثار عالميًا وعودة قطع تراثية إلى دولها الأصلية عبر قنوات دبلوماسية وقانونية. وقد وجّهت مصر، دعوة جديدة إلى المملكة المتحدة لإعادة حجر رشيد، أبرز القطع الأثرية التى أسهمت فى فك رموز الحضارة المصرية القديمة وفقا لصحيفة التليجراف؛ كما نقلت صحيفة «الجارديان» عن الدكتور محمد إسماعيل خالد، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، قوله إن عشرات الآلاف من القطع التى خرجت من مصر بصورة قانونية تُعد اليوم جزءًا من هوية لندن، وتمثل ممتلكات مشتركة بين البلدين؛ لكنه شدّد فى الوقت نفسه، على أن حجر رشيد خرج من مصر بطريقة غير قانونية خلال بدايات القرن التاسع عشر، رغم تمسّك المتحف البريطانى برواية تؤكد أن تسليمه جرى ضمن شروط معاهدة الاستسلام عام 1801 الموقعة من قِبل قادة الإمبراطورية العثمانية التى كانت تحكم مصر آنذاك. استعادة الآثار ويأتى هذا فى ظل تصاعد حملة مصرية تستهدف استعادة الآثار المنهوبة؛ مع افتتاح المتحف المصرى الكبير مطلع نوفمبر الماضى، بهدف إعادة الكنوز المصرية إلى موطنها وعرضها فى بيئة مناسبة تحفظ قيمتها التاريخية. وبحسب الجارديان، فإن تصريحات خالد عكست تحولًا فى الموقف الرسمى، إذ اعتبر أن كثيرًا من القطع المعروضة فى الخارج تمثل «سفراء لمصر» وتعزز اهتمام الجمهور العالمى بالحضارة المصرية. رؤية عالمية وسط هذه التهديدات المتنوعة، تبرز الحاجة إلى رؤية عالمية جديدة لحماية التراث المصرى وغيره من تراث الحضارات القديمة، هذه الرؤية تعتمد على ثلاثة عناصر أساسية: الرقمنة الشاملة، والجرد الدولى الموحّد، وآليات رقابة مُلزمة للمتاحف الحاضنة. حادث اللوفر كان صدمة، لكنه مهم لأنه أعاد فتح النقاش حول حماية التراث خارج أوطان الحضارات التى صنعته؛ أما ما يحدث فى أوكرانيا فهو تذكير قاسٍ بأن التراث ليس مجرد تاريخ، بل هو رصيد حضارى مهدد يمكن أن يختفى فى لحظة بين الإهمال والسلاح، تتعرض ذاكرة الإنسانية لامتحان عسير، والرهان الآن هو أن تتعامل الدول - والهيئات الدولية - مع هذا الملف باعتباره أولوية أخلاقية، وليس موضوعًا مؤجلًا أبدًا. Untitled-1_copy