بعد مباراة منتخب مصر ضد ألمانيا فى نهائى كأس العالم لليد للناشئين، جلس معى أحد أصدقائى فى نقاش طويل ثم فاجأنى بسؤال بسيط للغاية لكنه يحمل الكثير من المعانى «إزّاى ناجحين فى كرة اليد ومش عارفين ننجح فى كرة القدم؟!». ابتسمت فى البداية، وظننت أنها مجرد مقارنة على سبيل الجدل، لكننى اكتشفت أن السؤال أعمق مما يبدو، فقررت أن أشاركه وجهة نظرى بالدليل والأرقام، وأن أفتح هذا النقاش أمامكم على صفحات «روزاليوسف» من خلال تحقيق معلوماتى يضع الحقائق على الطاولة، لماذا نَلمع فى كرة اليد عالميًا بينما نتعثر فى كرة القدم، رغم الإمكانيات والجماهير والدعم الإعلامى؟! تعيش الرياضة المصرية مفارقة لافتة خلال السنوات الأخيرة، ففى الوقت الذى أصبحت فيه كرة اليد نموذجًا للنجاح والتفوق على الساحة الدولية، تعجز كرة القدم رغم شعبيتها الجارفة وميزانياتها الضخمة عن تحقيق ما ينتظره منها الجمهور، فإذا كان النجاح فى الرياضة نتيجة واضحة لمنظومة عمل متكاملة؛ فكيف نجحت اليد المصرية فى بناء مشروع عالمى، بينما بقيت كرة القدم حبيسة تكرار الفشل؟
منذ عام 2019 حتى اليوم، اعتلت منتخبات اليد المصرية منصات التتويج العالمية، بتتويج منتخب الشباب بذهبية العالم فى مقدونيا، وبلوغ منتخب الرجال نصف نهائى أولمبياد طوكيو 2021 لأول مرة فى تاريخ الألعاب الجماعية المصرية، وفى الوقت ذاته أخفق المنتخب الوطنى لكرة القدم فى التأهل لكأس العالم الأخيرة، وخرج من كأس الأمم الإفريقية بنتائج باهتة، كما تراجعت الأندية المصرية على المستوى القارى باستثناء محاولات فردية. الناشئون.. حيث تبدأ الحكاية النجاح لا يأتى من فراغ فى كرة اليد، هناك مشروع طويل المدى بدأ منذ سنوات يقوم على اكتشاف المواهب وتطويرها وفقًا لبيانات الاتحاد المصرى لكرة اليد، هناك أكثر من 220 ناديًا يمارس اللعبة على مستوى الجمهورية، إضافة إلى مراكز متخصّصة لإعداد المواهب فى ست محافظات كبرى، هذه المنظومة جعلت منتخب الناشئين والشباب دائمًا فى منصات التتويج، إذ تُوِّج ناشئو مصر بذهبية العالم 2019، وحصد الشباب برونزية العالم فى العام نفسه. فى المقابل تضم منظومة كرة القدم أكثر من 750 ناديًا مسجلاً.. رقم ضخم لكنه بلا مردود فنى حقيقى، وما يقرب من 85 % من ميزانيات الأندية تُضخ فى الفريق الأول، بينما تُترك قطاعات الناشئين تعانى من نقص المدربين والملاعب، وتحديدًا غياب التخطيط، وكان آخر إنجاز حقيقى لمنتخبات الناشئين فى كرة القدم عام 2001، حين حقق منتخب الشباب برونزية كأس العالم، ومنذ ذلك الحين اختفت المواهب قبل الوصول إلى المنتخب الأول، فتراجع الأداء وتراجعت النتائج. الإدارة.. استقرار يصنع البطولات الرياضة ليست مهارة فقط؛ بل إدارة فى المقام الأول، واتحاد كرة اليد المصرى يعيش حالة من الاستقرار التنظيمى منذ أكثر من ثمانى سنوات، مع التخطيط المبكر لكل بطولة واختيار مدربين على مستوى عالمى، مثل الإسبانى روبرتو باروندو الذى قاد مصر لتحسين تصنيفها العالمى ووضعها بين الأربعة الكبار، قبل رحيله عن المنتخب فى 2023.. أمّا اتحاد كرة القدم فتاريخ طويل من الاضطرابات، هناك خمسة مجالس إدارة خلال أقل من عشر سنوات، وأكثر من 12 مديرًا فنيًا تولوا تدريب المنتخب الوطنى خلال الفترة نفسها، فكيف يمكن لفريق أن يحقق بطولة دون رؤية موحدة، أو مشروع يستمر أكثر من عام أو اثنين؟ الاحتراف.. بين الوهم والحقيقة لاعب كرة اليد المصرى يحترف فى أوروبا ليصبح أقوى، لذلك نجد أكثر من 25 لاعبًا مصريًا فى الدوريات الكبرى، فى ألمانياوفرنسا وإسبانيا، والاحتراف هنا جزء من خطة تأهيل اللاعب للمنتخب الوطنى، وليس فقط «لقطة» إعلامية، أو انتقالاً بحثًا عن المال. بينما فى كرة القدم، أصبح المال هدف الاحتراف، حتى لو كان فى دوريات ضعيفة لا تضيف فنيًا، لذلك فإن عدد اللاعبين المصريين المحترفين فى الدوريات الخمس الكبرى لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ما يترك المنتخب معتمدًا على لاعبين محليين لم يختبروا كرة قدم عالية المستوى. البطولات المحلية فى كرة اليد يخوض اللاعب أكثر من 40 مباراة فى الموسم عبر مسابقات متدرجة من الناشئين إلى الدورى الممتاز، مع منافسة حقيقية بين أربعة أو خمسة أندية قوية، بينما فى كرة القدم عدد مباريات الدورى لا يتجاوز 25 مباراة لمعظم الأندية، وسط توقفات متكررة بسبب المشاركات الإفريقية، أو أزمات الجدولة، مما يؤدى إلى دورى بلا انتظام، يعنى لاعبين بلا تطوير. نجومية فى الهواء الإعلام الرياضى يعامل كرة القدم كنجم المجتمع، يسلط الضوء على الصفقات والأزمات أكثر مما يسلط على الأداء والمواهب، فقيمة اللاعب تحددها كاميرات البرامج قبل أن تحددها قدماه، أمّا فى كرة اليد فالنجومية تُكتَسَب بالعَرق والبطولات، ولذلك يشعر اللاعبون بقيمة تمثيلهم للمنتخب فيقاتلون من أجل شعار مصر. عقلية الانتصار منتخب اليد يؤمن أنه قادر على هزيمة الكبار، لذلك فعلها أمام فرنساوألمانيا وإسبانيا، بينما فى كرة القدم كثيرًا ما نحضر المباريات الكبيرة ونبحث عن الأعذار قبل أن تنطلق صافرة البداية، بسبب الروح والعقلية والانضباط؛ لأن تلك التفاصيل هى التى تصنع بطلاً. إصلاح كرة القدم بشرط لكى نستعيد مكانتنا فى كرة القدم، يجب أن تصبح المصلحة الوطنية فوق مصلحة الأندية وأن يُمنَح المنتخب مشروعًا طويل المدى لا يتغير بتغير المدربين، ويجب أن نعيد بناء مسابقات الناشئين، ونربط الاحتراف بالقدرات الفنية لا بالمظاهر، وأن نتعلم من كرة اليد درسًا واضحًا أن الإنجاز يحتاج إلى منظومة لا إلى أبطال فرديين. فى النهاية نجاح كرة اليد رسالة أمل تقول إن مصر قادرة على اعتلاء منصات العالمية فى أى لعبة حين تتوافر الإدارة والانضباط والنية الصادقة، أمّا كرة القدم فهى بحاجة إلى الاعتراف أولاً بأن المشكلة ليست فى اللاعبين فقط؛ بل فى طريقة تفكيرنا وإدارتنا للعبة. قد لا نملك أكبر ميزانية فى العالم، لكننا نملك الملايين من المواهب، والفارق الوحيد بين النجاح والإخفاق هو أن نضع مصر أولاً، لا الأندية ولا النجوم بل المنتخب، وحين نطبق ذلك سيصبح السؤال يومًا ما: لماذا ننجح فى كرة القدم.. ولا يتوقف نجاحنا فى كرة اليد؟