لم تعد قضية استرداد الآثار المصرية مجرد مطلب ثقافى أو رمزى، بل قضية كرامة وطنية وعدالة تاريخية، فمصر التى منحت العالم أول حضارة إنسانية مكتوبة، لا تزال حتى اليوم ترى أجزاء من روحها وتاريخها معروضة فى متاحف أوروبا، وبعد التطورات الأوروبية فى هذا الملف، خاصة فى هولندا، يتجدد السؤال: ألم يَأْنِ الأوان لعودة كنوز مصر إلى موطنها؟ رحلة طويلة بدأت مأساة خروج الآثار المصرية منذ فترات الاحتلال والحملات الاستعمارية، حيث خرجت مئات القطع النادرة من المقابر والمعابد بطرق مشبوهة أو عبر صفقات غير متكافئة. النتيجة اليوم أن متاحف كبرى مثل المتحف البريطانى واللوفر وبرلين تزخر بمقتنيات مصرية، أبرزها: رأس الملكة نفرتيتى فى متحف برلين، وحجر رشيد فى المتحف البريطانى، وعشرات التماثيل والمومياوات فى متاحف فرنسا وسويسرا والنمسا وأمريكا. كل قطعة من تلك القطع ليست مجرد أثر فنى، بل صفحة من تاريخ مصر القديم، تُروى اليوم بلغات أجنبية خارج سياقها الحضارى الأصلي. هولندا تتصدر المشهد شهدت الساعات الماضية تغيرًا ملحوظًا فى الموقف الأوروبى تجاه قضايا استرداد الآثار، وكانت هولندا فى مقدمة الدول التى اتخذت خطوات عملية، وذلك بعد أن أعلن رئيس وزرائها ديك شوف عن إعادة رأس تمثال فرعونى نادر يعود إلى عصر الملك تحتمس الثالث (1479 – 1425 ق.م) إلى مصر، بعد أن ثبت خروجه بطريقة غير مشروعة وظهوره فى أحد المعارض الفنية بمدينة «ماستريخت».
الإعلان الهولندى جاء متزامنًا مع زيارة رئيس الوزراء الهولندى للقاهرة وحضوره حفل افتتاح المتحف المصرى الكبير، فى مشهدٍ حمل دلالاتٍ ثقافية وسياسية عميقة، وأعاد فتح واحد من أكثر الملفات حساسية وإثارة للجدل، حيث أوضح ديك شوف فى منشور على وسائل التواصل الاجتماعى أن القطعة الأثرية عبارة عن رأس حجرى يصوّر أحد كبار المسئولين من عهد تحتمس الثالث — تمت مصادرتها عام 2022 بعد بلاغ من مجهول كشف عن أصلها غير المشروع، لتبدأ السلطات تحقيقات موسعة انتهت بإقرار تسليمها رسميًا إلى مصر. جاءت الخطوة كنتيجة مباشرة للثقة الدولية فى قدرة مصر على صون تراثها، خاصة بعد افتتاح المتحف المصرى الكبير الذى وصفته وسائل الإعلام الأوروبية بأنه أعظم متحف فى العالم. كما جاء القرار بعد تنسيق بين وزارة الثقافة الهولندية والسفارة المصرية، فى خطوة وصفتها الصحف العالمية بأنها انتصار للعدالة التاريخية، واعتراف صريح بحق مصر فى تراثها الثقافي. ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى تبادر فيها هولندا بإعادة أثر مصرى خرج بطريقة غير مشروعة، ففى أغسطس 2024 سلمت لمصر ثلاث قطع أثرية تشمل تمثالًا صغيرًا من الفيانس وجزءًا من تابوت خشبى مصورًا عليه وجه الإلهة إيزيس، ورأس مومياء، وذلك بعد تحقيقات موسعة فى أصولها. صحيفة De Telegraaf الهولندية وصفت الخطوة بأنها تصحيح لمسار قديم، وأشارت إلى أن هولندا بدأت مراجعة مقتنياتها الأثرية القادمة من فترات الاستعمار والتجارة غير المشروعة، ضمن سياسة حكومية جديدة لإعادة القطع إلى دولها الأصلية.
التراث المنهوب التقارير الأوروبية التى صدرت مؤخرًا ترى أن ما يحدث فى هولندا ليس حدثًا منفردًا، بل جزء من تحوّل شامل فى القارة نحو إعادة النظر فى إرث الاستعمار الثقافي. وتواجه بريطانيا مطالب متصاعدة من مصر والسودان ونيجيريا لإعادة قطع استولت عليها فى القرن التاسع عشر، بينما أعادت فرنسا بالفعل أجزاء من التراث الأفريقى إلى بنين والسنغال. وتربط الصحف العالمية هذه التحركات بالوعى العالمى المتزايد حول الهوية والعدالة الثقافية، خصوصًا بعد افتتاح المتحف المصرى الكبير الذى أصبح دليلًا واضحًا على أن مصر تملك الآن القدرة الكاملة على حفظ وعرض كنوزها فى بيئة عالمية المستوى. مصر ترد عمليًا من الحجج القديمة التى كانت تُستخدم ضد استعادة الآثار أن مصر لا تمتلك البنية الكافية لحفظها، لكن هذا الادعاء لم يعد له مكان اليوم، فالمتحف المصرى الكبير (GEM) الذى افتتح رسميًا فى 4 نوفمبر الجارى، يُعد أكبر متحف أثرى فى العالم مجهز بأحدث نظم الحفظ والعرض الرقمى، وقادر على استيعاب عشرات الآلاف من القطع فى بيئة آمنة ومناخ يتم التحكم فيه. الصحف البريطانية نفسها مثل The Timesأشارت إلى أن افتتاح المتحف الكبير يسقط كل الذرائع أمام الدول التى ترفض إعادة الآثار، وأكدت أن مصر أصبحت اليوم مستعدة تمامًا لاستعادة كنوزها التاريخية. حملة شعبية من جهة أخرى، وتزامنا مع الافتتاح العالمى للمتحف المصرى الكبير، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعى بحملات شعبية موسعة تحت شعار «رجّعوا آثارنا»، أطلقها آلاف النشطاء والمثقفون للمطالبة بعودة الكنوز المصرية المعروضة فى المتاحف العالمية، وعلى رأسها حجر رشيد المعروض فى المتحف البريطانى منذ أكثر من قرنين. كما انطلقت حملة «آن الأوان لعودة رأس نفرتيتي» على يد شباب ومثقفين مصريين ولاقت صدى دوليًا، وتناقلتها وكالات أنباء أجنبية كرمز للمطالبة بالعدالة الثقافية. وتطالب الحملات الشعبية بعودة الرأس الذى خرج من مصر عام 1912 بطريقة خادعة، حين أخفى عالم الآثار الألمانى "لودفيغ بورشاردت" قيمته الحقيقية عن السلطات المصرية. تحرك دبلوماسي من جانبها، دعمت وزارتا الخارجية والسياحة والآثار الحراك الشعبى بإطلاق حملة دبلوماسية عبر السفارات المصرية فى العواصم الأوروبية، بالتنسيق مع منظمة اليونسكو، لبحث آليات استعادة القطع الأثرية، خصوصًا تلك التى خرجت خلال فترات الاحتلال والاستعمار. وأكد التحرك الرسمى أن مصر تمتلك ملفات قانونية كاملة تثبت أحقّيتها فى آثارها، استنادًا إلى اتفاقية 1970 الدولية الخاصة بمنع الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية. وتصدّر حجر رشيد المشهد بوصفه الرمز الأبرز للمطالبة بالاستعادة، باعتباره القطعة التى مكنت العلماء من فك رموز اللغة الهيروغليفية. وأشارت صحيفة "ديلى ميل" البريطانية إلى أن افتتاح المتحف المصرى الكبير أعاد تسليط الضوء على مطلب القاهرة المشروع، وأن المتحف الجديد يرسل رسالة واضحة بأن هذه الكنوز مكانها الطبيعى هو مصر. وفى تصريحات نقلتها الصحف الأوروبية، شددت د.مونيكا حنا، عميدة كلية الآثار بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا، على أن القطع التى خرجت من مصر خلال القرنين التاسع عشر والعشرين تم نهبها تحت ذرائع استعمارية، داعية إلى تحرك رسمى وشعبى لاستعادتها، وهو ما أعلنه د.زاهى حواس، عالم المصريات ووزير الآثار الأسبق، الذى يقود حملة لجمع مليون توقيع تطالب بعودة الآثار المصرية، وعلى رأسها رأس نفرتيتى وحجر رشيد وعدد من القطع الفريدة المعروضة فى المتاحف الأوروبية. وأكد حواس أن الحملة ستنطلق ميدانيًا خلال الأيام المقبلة، بمشاركة 40 شابًا من مؤسسة زاهى حواس، وسينظمون وقفات أمام المتاحف العالمية لجمع التوقيعات من المواطنين والسياح، فى إطار حملة ضغط شعبية ودبلوماسية تهدف لإعادة الكنوز المصرية إلى موطنها الأصلي. وأضاف إن مصر تحترم الاتفاقيات الدولية، ولا تطالب باستعادة القطع التى خرجت فى إطار تقسيم البعثات الأثرية القديمة أو الهدايا الرسمية، بل تركز فقط على القطع الفريدة ذات القيمة الرمزية والتاريخية الكبرى، مثل حجر رشيد ورأس نفرتيتى ولوحة الزودياك الدندراوية، لأن مكان تلك القطع الطبيعى هو المتحف المصرى الكبير. تعديل القوانين وأشار د.زاهى حواس إلى أن مصر تواجه قيودًا قانونية دولية، إذ لا تتيح اتفاقية اليونسكو لعام 1970 استعادة القطع التى سُرقت أو خرجت من البلاد قبل هذا التاريخ، ما يجعل المطالبة بعودتها أمرًا معقدًا من الناحية القانونية. وقال: لا يحق لنا قانونيًا استعادة القطع التى خرجت قبل عام 1972 طبقًا لاتفاقية اليونسكو، لكن هذا لا يعنى الاستسلام، علينا أن نعمل على تغيير الوثائق والقوانين الدولية الخاصة باسترداد الآثار، وأن نستخدم الأدوات الثقافية والدبلوماسية لتوضيح حقنا التاريخى والأخلاقى فى استعادتها. وأكد أن مصر بدأت مرحلة جديدة فى الدفاع عن آثارها، والحملة ليست مجرد مطلب أثرى، بل قضية كرامة وطنية ورسالة للعالم بأن مصر قادرة على حماية ماضيها العظيم وصونه للأجيال القادمة.