قُبَيل افتتاح المتحف المصرى الكبير بأيام ساد مواقع التواصل الاجتماعى تحويل الصور الشخصية إلى صور فرعونية، ورغم بساطة الفكرة؛ فإن اجتياحها «السوشيال ميديا» بما يشبه التسونامى كان انعكاسًا واضحًا لصعود مفهوم الدولة الوطنية وتعزيز الهوية، ولو بصريًا، أمام فتاوَى مفخّخة حاولت النَّيْل من القيمة المعنوية لهذا الإنجاز العظيم. ويمكن القول إن الهوية الوطنية حققت انتصارًا مُبينًا على دعاوَى كل هَمّها فصل المواطن المصرى عن جذوره وتاريخه ومن ثم تجريده من هويته.. فالهوية هى الدرع الواقى لأى مجتمع أمام محاولات الغزو الثقافى والفكرى، فمن أجل تحقيق أى غزو ثقافى لأهدافه لا بُدّ له أولاً تجريد الأمة المستهدفة من هويتها، وهى المحاولة التى تهاوت فى لحظات أمام تسونامى تلقائى على السوشيال ميديا. تتميز الحضارة المصرية القديمة عن غيرها من تاريخ الكثير من شعوب المنطقة فى أنها حضارة نهرية، أى أنها أقيمت على ضفتىّ نهر النيل العظيم، وهذه الحضارات النهرية تتميز بأنها تعتمد بشكل أساسى على مفهوم الدولة الوطنية المستقرة، ذات حكم مركزى وجيش قوى ونُظم وتقاليد مجتمعية راسخة، كما أنها ترتكز أيضًا على مفهوم الحدود الثابتة.. ولعل مصر من الدول القليلة فى العالم التى لم تتغير حدودها منذ آلاف السنين؛ بل إن الأرض ترتبط بمفهوم العِرض، لا يقبل المواطن التفريط فى شِبْر منها، سواء كانت هذه الأرض مِلكية شخصية، أو بمفهومها الأوسع والأشمل لأرض الوطن. فى المقابل نجد أن هناك غيابًا تامًا لمفهوم الدولة الوطنية لدَى الشعوب التى تعيش فى البرارى والصحارى، فالارتباط بالأرض مرهون بتوافر آبار الماء والأمطار والمراعى، ومن ثم تفتقد للحكومات المركزية، كما تعلو فيها قيمة القبيلة والعشيرة على مفهوم المواطنة، والصراع يكون للأقوى، والبقاء على ذات الأرض مرهون- كما سبق أن ذكرت- بالمياه والمراعى، فإذا حدث جفاف تهاجر تاركة تلك الأرض غير مأسوف عليها بحثًا عن مراعٍ أخرَى.. وللأسف الشديد هذا الموروث الصحراوى مسيطر تمامًا على بعض التنظيمات مثل جماعة الإخوان الإرهابية والحركات والجماعات السلفية، وهو ما يفسر مقولة مرشدهم الشهيرة «طز فى مصر»، فهى انعكاس كاشف وفاضح للفَرق بين الوجدان الجمعى للمواطنين المصريين ورؤيتهم لمفهوم الدولة الوطنية، ومفهوم هذه الجماعات الدخيلة على الفكر الوطنى الأصيل التى لا تمثل لها الدولة الوطنية أى قيمة تذكر، فالجماعة أو التنظيم الذى يوازى القبيلة أو العشيرة فى المجتمع الصحراوى يعلو فوق مفهوم الدولة الوطنية ذاتها. هذا يوضح لنا أيضًا كيف صمدت الدولة المصرية أمام محاولات تنظيم الإخوان الإرهابى ونجت من سيناريو التقسيم والحرب الأهلية مقارنة بدول أخرى فى المنطقة تفتتت ولا تزال تعانى من الحروب الأهلية الداخلية نتيجة لغياب مفهوم الدولة الوطنية الشاملة والجامعة والحاضنة لجميع المواطنين بغض النظر عن اللون أو الدين أو الجنس، وكذلك افتقاد هذه الدول لجيش وطنى قوى، أى جيش يتشكل من جميع أبناء الوطن ولاؤه للوطن وليس لأشخاص أو لقبيلة أو عشيرة. المعضلة الأخرى التى كشفتها معركة المتحف الكبير الأخيرة، هى الخلط بين مفهوم الدولة الوطنية والدولة القومية، وهى معضلة بحاجة لإعادة تأصيل وتعريف، فالدولة القومية تختص بقومية أو إثنية ما؛ أما الدولة الوطنية فهى تتبنى نموذج المواطنة التى تجمع سكانها كافة داخل حدود مقدسة لا تقبل التفريط فيها. نعود إلى المتحف المصرى الكبير ومدلولاته العظيمة، التى أشعلت نيران الحاقدين والمتربصين بهذه الدولة الضاربة فى جذور الحضارة الإنسانية، ولمعرفة ما يحدث حولنا ولماذا كانت هذه الهجمة الشرسة على الآثار المصرية من قبل العقول الصحراوية المتحجرة، لندرك أن المقصود لم يكن تلك الآثار بكل عظمتها وعبقريتها؛ بل ما هو أعمق بكثير من ذلك، فهم بفتاوى تحريم وتكفير هذه الحضارة، كانوا يقصدون طمس هوية الشعب المصرى، فعناصر الهوية الوطنية تتمثل فى الانتماء الجغرافى والتاريخى للأرض، واللغة والثقافة الوطنية، والتاريخ والتراث الوطنى المشترك الذى يشكل جزءًا مُهمًا من الهوية، وكذلك قيم المجتمع الموروثة عبر مئات القرون، وكلها يمكن اختزالها رمزيًا فى هذا المتحف الذى أشعل من جديد نار الانتماء الوطنى. وبتوجيه نيران فتاواهم نحو المتحف والآثار المصرية، كانوا يستهدفون إضعاف هذه الهوية؛ لأنهم يدركون أن تهديد استقرار الأوطان لن يتأتى إلا من خلال إضعاف هذه الهوية الوطنية الجامعة أو وضعها فى صراع كاذب مع هويات أخرى مصطنعة، وراهنوا فى ذلك أيضًا على تحديات الهوية الوطنية من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والأفكار الجديدة التى قد تُحدِث فجوة بين الأجيال وتؤثر على الهوية الوطنية، من خلال الحروب غير النمطية التى تستهدف تدمير الدول من الداخل عبر العبث بالهوية الوطنية. لكن جاءت النتائج عكس ما خططوا له، مولين الأدبار يجرجرون خلفهم ذيول العار. ما رأيناه خلال العقود الماضية حتى الآن محاولات مستميتة لخلق قطيعة حضارية بين المواطن المصرى وتاريخه وإرثه الممتد عبر آلاف السنين، فهذا الإرث هو القاسم المشترك الأعظم لجموع المصريين. لكن هل انتهت المعركة؟ لا أعتقد ذلك، فمثل هذه الأفكار والحروب التى تحاول تدمير الدولة الوطنية المصرية، كانت وستظل، ما دامت الدولة متماسكة قوية ومستقرة، ومن ثم علينا أن نتخذ من هذا الانتصار الذى حققته الهوية الحضارية على جراد الفكر الصحراوى، قاعدة للانطلاق نحو تعزيز مفهوم الهوية عبر المناهج الدراسية والسلوك الحضارى وإدراك أهمية هذه الآثار ليس فقط كمَصدر دخل اقتصادى عبر السياحة؛ بل كقوة ثقافية ناعمة مؤثرة فى الضمير العالمى، وهذا يتطلب جهدًا مشتركًا من الدولة والمواطنين. لا يجوز التعبير عن الاعتزاز بهذا التراث بينما تصرفاتنا وسلوكنا اليومى على خلاف ذلك، فالتواجد على السوشيال ميديا وحده لا يكفى، ولقد خطت الدولة منذ سنوات قليلة مضت نحو تغيير مفهوم السياحة الثقافية وفى القلب منها آثار مصر القديمة، بتنظيم منطقة الأهرامات، فلم يعد مقبولاً استمرار عشوائية التعامل مع السائح وفق أطر «الفهلوة» التى ينتهجها البعض فى المواقع السياحية، وهذا يتطلب تثقيفًا وتوعية مستمرة لرجل الشارع العادى، وفى الماضى القريب كان لدينا ما يُعرَف ب«صديق السائح»، الذى اندثر وجوده رغم وجود جمعية أهلية تحت هذا المسمى، كان دور مثل هذه الجمعية تعزيز قيم الضيافة ومساعدة السائحين، والتيسير عليهم. علينا جميعًا أن ندرك أن السياحة بقدر كونها مَصدر دخل للعملات الأجنبية، وقطاع بالغ الأهمية يستفيد منه ملايين المصريين بشكل مباشر أو غير مباشر، فهى أيضًا عنوان لهذا الوطن ولهذا الشعب، ولن تستمر السياحة وتحقق أهدافها ما لم تتغير رؤيتنا لها كمواطنين ينتهجون سلوكًا حضاريًا راقيًا تاركين ما علق بنا من مظاهر الفهلوة.