حرب الاستنزاف لم تكن مجرد معركة حدودية ولم تحقق نصرا حاسما بل كانت إرادة أمة رفضت الانكسار ورغم أن المعركة انتهت دون استعادة سيناء، لكنها أعادت للجيش المصرى والعربى ثقته بنفسه وخرج من حالة الانكسار إلى الثقة وكسرت أسطورة «الجيش الذى لا يقهر» وأجبرت إسرائيل على النزيف البشرى والاقتصادى ومن ثم كانت الشرارة الأولى التى أشعلت فتيل الانتصار العظيم فى أكتوبر 1973. بدأ الأمر فى العاشر من يونيو 1967 حيث بدأ المشهد العربى بأسره قد انكسر.. ستة أيام فقط كانت كافية لأن تفقد مصر سيناء وسوريا الجولان والأردن الضفة الغربية. الهزيمة كانت قاسية إلى حد جعل جمال عبدالناصر يعلن تنحيه عن الحكم معترفًا بمسئوليته عن الهزيمة الأمر الذى رفضته الجماهير فى مظاهرات غاضبة ملأت الشوارع.
اتفاق القادة العرب وتعثر محاولات السلام وعلى أعقاب الهزيمة واحتلال إسرائيل سيناء والجولان والضفة الغربية اجتمع القادة العرب فى قمة الخرطوم «سبتمبر 1967» وأقروا سياسة «اللاءات الثلاث» لا صلح.. لا اعتراف.. لا تفاوض مع إسرائيل، وفى المقابل رفضت تل أبيب تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 الذى طالبها بالانسحاب من الأراضى العربية المحتلة وباءت محاولات الوساطة الدولية بقيادة المبعوث الأممى جونار يارينج بالفشل ومع انسداد الأفق السياسى لم يبق أمام القاهرة سوى خيار المواجهة المسلحة. المواجهة العسكرية الأمر الذى دفع الرئيس جمال عبدالناصر أن يقرر أن المواجهة العسكرية وحدها هى السبيل لإجبار إسرائيل والمجتمع الدولى على التحرك وصدرت التعليمات الصارمة للجنود بأن الموت فى المواقع أشرف من الارتداد خطوة واحدة وشرعت القيادة المصرية بعد أسابيع قليلة من الهزيمة فى إعادة تنظيم القوات المسلحة. استراتيجيات المواجهة وبدأت مرحلة جديدة بالتأهب للحرب «حرب الاستنزاف» أو كما أطلق عليها الإسرائيليون «حرب الألف يوم» وهى مرحلة الصراع الممتد بين مصر وإسرائيل بمشاركة الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية وسوريا والتى استمرت خلال الفترة من 1967 إلى 1970، حيث كان الرئيس جمال عبدالناصر يدرك أن مصر لا تستطيع شن حرب تقليدية شاملة فى تلك المرحلة لكنه رأى فى حرب الاستنزاف وسيلة لإرهاق العدو، وكان الهدف الرئيسى استنزاف الجيش الإسرائيلى فى الرجال والعتاد وإجباره على إبقاء قوات احتياط ضخمة فى الجبهة مما يضغط على اقتصاده ويكسر معنوياته. إعادة بناء الجيش فى غضون شهور قليلة تحولت الجبهة إلى ورشة عمل ضخمة السوفيت يرسلون مئات الطائرات ميج والقاذفات الثقيلة والدبابات عبر جسر جوى وبحرى ضخم إضافة إلى إرسال آلاف الخبراء العسكريين كما كان الدعم العربى حاضرا فقد أمدت الدول العربية مصر وسوريا والأردن بالدعم المالى والعسكري. وبحلول نهاية 1967 استعادت القوات المصرية نحو نصف قدراتها القتالية، لتبدأ مرحلة جديدة على ضفاف القناة. حيث استعادت فى ديسمبر 1967 70% من قوتها الجوية وفى 1968 بدأ تأسيس الجيش الثالث فيما ولد فرع جديد مستقل للدفاع الجوي. وفى المقابل حظت إسرائيل بدعم أمريكى كبير خصوصا عبر تزويدها بطائرات فانتوم الحديثة، وقامت ببناء خط بارليف. بداية الاشتباك.. من رأس العش إلى إيلات لم يمض وقت طويل حتى اطلقت أولى الرصاصات ففى رأس العش صدت مجموعة صغيرة من قوات الصاعقة المصرية قوة مدرعة إسرائيلية حاولت التقدم نحو بورفؤاد. وبعدها بأسابيع جاء المشهد الشهير الذى علق بالأذهان وهو إغراق المدمرة إيلات قبالة بورسعيد فى أكتوبر 1967 ليعلن أن المعركة لم تنته وأن الحرب المقبلة ستكون حرب استنزاف طويلة. مرحلة الصمود والدفاع من يونيو 1967 حتى أغسطس 1968 كانت الأولوية لتثبيت الدفاعات على طول القناة، ثم جاءت مرحلة «الدفاع النشط» قصف مدفعى متبادل وغارات جريئة عبر القناة، وفى ليلة 31 أكتوبر 1968، نفذت القوات الإسرائيلية غارة جريئة على نجع حمادى ليدرك المصريون أن إسرائيل ستنقل المعركة إلى العمق فأنشأت قوات الدفاع الشعبى لحماية المنشآت الحيوية. قصف بارليف واغتيال الفريق عبدالمنعم رياض فى صباح 8 مارس 1969 انطلقت أعنف موجات القصف المدفعى المصرى حيث صبت خلالها عشرات الكتائب النيران على حصون خط بارليف وفى اليوم التالى وبينما كان الفريق عبدالمنعم رياض يعاين المواقع الأمامية قامت إسرائيل بقصف مفاجئ ليسقط شهيدا وكان لمقتله أثر بالغ لتحول الاستنزاف إلى معركة إرادة وطنية. معركة المدفعية والجو وعقب ذلك قامت مصر بإمطار إسرائيل ب 40 ألف قذيفة هزت خط بارليف ومع منتصف 1969 بدأت حملة جوية واسعة عُرفت بعملية «بوكسر»، سقطت خلالها عشرات الطائرات المصرية، لكن ذلك لم يوقف وتيرة القتال. بل رد المصريون بجرأة أكبر بتدمير مواقع إسرائيلية شرق القناة إلى عمليات فدائية فى قلب سيناء. استهداف الجبهة الداخلية حين عجزت إسرائيل عن وقف المدفعية قررت نقل المعركة إلى قلب مصر وبدأت سلسلة الاعتداءات غير الإنسانية من مصنع أبو زعبل فى فبراير 1970 ومدرسة بحر البقر فى إبريل من العام نفسه ليستشهد سبعون عاملا و30 طفلا، ولن يتسبب القصف الإسرائيلى فى إضعاف المصريون وإنما فجرت الدماء المصرية البريئة غضبا مضاعفا. التدخل السوفيتى ومبادرة روجرز مع اتساع القصف الإسرائيلى وبدء تسلم إسرائيل طائرات فانتوم أمريكية، تصاعد خطر الانزلاق إلى مواجهة بين موسكو وواشنطن حيث دخل آلاف الخبراء السوفيت مصر، وأُنشئت شبكة صواريخ دفاع جوى كبرى غيّرت موازين القوة تدريجيًا ومع اشتداد الاستنزاف طرحت الولاياتالمتحدة مبادرة «روجرز» لوقف إطلاق النار فى 8 أغسطس 1970 لتصمت المدافع بعد حرب استمرت أكثر من ألف يوم.
معارك الإرادة.. من إغراق إيلات إلى رأس العش وبورتوفيق
رأس العش.. أول رصاصة كسرت الصمت
أول معركة برية بعد النكسة وأول انتصار يعيد الثقة للجنود المصرية حيث قامت مجموعة صغيرة من قوات الصاعقة المصرية يوم « 1 يوليو 1967 « بالتصدى لمحاوله قوة مدرعة إسرائيلية التقدم نحو بورفؤاد لاحتلالها.
إغراق المدمرة إيلات
أكتوبر 1967 أطلق لنشان مصريان من طراز «كومار» صواريخهما نحو المدمرة «إيلات» والتى تعد أقدم قطعة بحرية إسرائيلية ونجحت فى إغراقها وعلى متنها أكثر من 100 ضابط وجندى، كان المشهد رسالة قوية بأن المصريين قادرون على الرد.
معركة الجزيرة الخضراء
يوليو 1969 شنت القوات الإسرائيلية هجوما جويا وبحريا مكثفا على الجزيرة الخضراء وهى نقطة حصينة وسط قناة السويس، لكن مقاومة الجنود المصريون أجبرت الإسرائيليين على تكبد خسائر فادحة.
لسان بورتوفيق
10 يوليو 1969 عبرت قوات خاصة مصرية القناة ونفذت هجوما جريئا على موقع «لسان بورتوفيق»باستخدام قذائف «آر.بي.جي» فى قتال انتهى بتدمير الموقع وإيقاع خسائر كبيرة بالعدو.
استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض
وفى رد إسرائيلى قامت المدفعية الإسرائيلية بقصف يوم 9 مارس 1969 أدى الى مقتل الفريق عبدالمنعم رياض والذى كان يتفقد الخطوط الأمامية ليسقط شهيدًا وسط جنوده.
مذبحة بحر البقر.. الوجه القبيح للعدو
8 إبريل 1970 قصفت طائرات فانتوم مدرسة بحر البقر الابتدائية بالشرقية فسقط 30 طفلا شهيدًا، وكانت تلك الجرائم محاولة يائسة لكسر إرادة المصريين لكنها زادت الشعب صلابة والتفافا حول جيشه.