فى مذكراته وصف السياسى والدبلوماسى الأمريكى الأشهر «هنرى كيسنجر»..الرئيس الراحل محمد أنور السادات.. قائلا إنه «لم يجد أذكى من السادات فى حنكته سوى رئيس الوزراء البريطانى الراحل ونستون تشرشل». بحنكته السياسية التى عُرف بها، ودهائه الذى اشتهر به، سبق الرئيس الراحل عصره بعشرات السنوات.. وحتى اليوم لايزال السادات «بطل الحرب والسلام» يهزم أعداءه وكل من خالفوه الرأى وهاجموه فى مواقفه الوطنية والقومية التى كانت ستحقق الكثير للأمة العربية. لم تكن الفرصة الكبيرة السانحة لإقرار السلام فى المنطقة هى فقط النصر المتكرر الذى يحققه السادات حتى اليوم.. فقبل رحلته التاريخية إلى القدس.. زار الرجل دمشق والتقى الرئيس الراحل حافظ الأسد عارضًا عليه مشاركته فى المبادرة التى كان بصدد القيام بها من أجل إقامة السلام مع إسرائيل.. مشددًا على أن الحرب فتحت الطريق لانسحاب إسرائيلى من الأراضى المصرية والسورية المحتلة عبر اتفاقيات لفصل القوات جرت واحدة مع مصر فى يناير 1974، ثم أخرى مع سوريا فى مايو 1974، وثالثة مع مصر فى أول سبتمبر 1975. رفضت سوريا الأسد.. واستجابت للمزايدات المستحكمة وقتها، وساهمت بقوة مع عراق صدام حسين فى تحويل الأوضاع العربية إلى ما هو معتاد من انقسامات تتراشق فيها الألسنة.. بدلا من السير يدًا واحدة لتحرير الاراضى المحتلة – سيناء والجولان – إضافة إلى إقامة الدولة الفلسطينية. رؤية السادات السابق لعصره.. دفعت ثمنها مصر عندما خرجت القاهرة من الجامعة العربية التى ذهبت إلى تونس، وتكاثرت المزايدات والحنجريات ضد الرئيس السادات والدولة المصرية وظهرت اتهامات من نوعية بيع القضية وخيانة الأمة..وضاعت فرصة ذهبية على سوريا لاسترداد الجولان.. وضاعت فرصة ذهبية أخرى على الفلسطينيين لبناء أول لبنة فى دولتهم المستقلة. ظلت الأرض السورية محتلة.. حتى وصلنا إلى اللحظة الحالية التى تجبرت فيها إسرائيل..واستولت على مزيد من الأراضى السورية..عبرت خط الحدود الذى تم إقراره بعد اتفاقية فصل القوات السورية - الإسرائيلية عام 1974، وبات جيش الاحتلال وطيرانه يعتبر السماء السورية «سداحًا مداحًا» للعدوان والتدمير لما تبقى من الجيش السورى، وأصبح أمرًا واقعًا تدخل تل أبيب مع السلطة السورية الحالية بقيادة أحمد الشرع فى التعامل مع الانقسامات الداخلية فى الجنوب السورى..إضافة لاعترافه وسعيه – الشرع – لعقد اتفاق أمنى مع تل أبيب رغم كل التجاوزات. وفى مؤتمر «مينا هاوس».. والذى أقيم فى العام 1977، أى بعد 25 يومًا تقريبًا من زيارة الرئيس السادات إلى القدس فى 19 نوفمبر 1977، ضاعت فرصة ذهبية لإقامة دولة فلسطينية وفقًا لرؤية الرئيس السادات.. فقد كان الهدف من المؤتمر التحضير والاتفاق وتوحيد الجبهة العربية قبل الذهاب إلى مؤتمر جنيف الداعى إلى تطبيق السلام فى الشرق الأوسط والذى كان سيناقش تطبيق إسرائيل لقرار الانسحاب من الأراضى العربية حتى حدود 1967، من ضمنها الأراضى الفلسطينية وتقرير حق عودة اللاجئين. وهو مايعنى إقامة دولة فلسطينة عاصمتها القدس. فى مينا هاوس تمت دعوة كل من «الأممالمتحدة، الولاياتالمتحدة، إسرائيل، الاتحاد السوفييتى، الأردن، سوريا، لبنان، منظمة التحرير الفلسطينية».. ولكن للأسف لم يحضر سوى الأممالمتحدة، الولاياتالمتحدةالأمريكية، إسرائيل. الرئيس السادات وقتها أبقى علم فلسطين على طاولة المفاوضات وظل كرسيهم خاليًا أمام الإسرائيليين والأمريكان! واستمر فى التحدث باسمهم والمطالبة بتطبيق القانون الدولى الذى يلزم إسرائيل بالانسحاب من أراضيهم! هذا فى الوقت الذى كان فيه مندوب المنظمة الفلسطينية لدى الأممالمتحدة «زهدى الطرزى» يجتمع مع بعض العرب وممثلى منظمة عدم الانحياز ويطلب منهم إعلان رسمى لرفض المسعى المصرى الجديد فى إطار السلام!! وياسر عرفات يجلس مع صدام والقذافى يصيغون البيانات ويشجبون ويستنكرون.. ويهاجمون مصر والسادات.. ويناقشون إخراج مصر من الجامعة العربية! وبعد مرور عشرات السنين أدرك الفلسطينيون والعرب أن لا مفر إلا من سلوك الطريق الصعب.. والذى مهده لهم الرئيس السادات وجعله ممكنًا.. وقام ياسر عرفات فى عام 1988 بالسعى إلى جنيف مرة أخرى.. واستمر يحاول منذ عام 1993 فى اتفاقيات عديدة ولقاءات كثيرة منها أوسلو 1 وأوسلو 2 واتفاقية شرم الشيخ وغيرها ليصل إلى هدف واحد وهو «كامب ديفيد» وعندما أسفرت جهوده فى كل هذه السنوات إلى إيصاله إلى كامب ديفيد عام 2000 !!! فشل أيضًا ولم يحصل الفلسطينيون على شيء. وفى مايو من العام 1975 شخّص الرئيس الراحل أنور السادات مشاكل المنطقة والعرب، وذلك فى مؤتمر صحفى عقده فى الكويت خلال زيارته لها. خلال المؤتمر، أجاب السادات عن أسئلة الصحفيين وعرج على مشاكل المنطقة وتوقع مشكلات أخرى، كما كان واضحًا وحاسمًا فى تصريحاته بأن مصر لن تخوض حروبا أخرى، وأنه يسعى للسلام..لاحظ أن ذلك كان قبل 4 سنوات من توقيعه لمعاهدة كامب ديفيد. سُئل السادات فى بداية المؤتمر عن إمكانية أن تشن إسرائيل حربًا أخرى ضد العرب بعد حرب أكتوبر 1973، فقال «إنه يتوقع ذلك والجيش المصرى مستعد، لكن مصر تعطى لعملية السلام كل الفرص المتاحة للنجاح وحقن الدماء». وحول رفض «منظمة التحرير» الفلسطينية لمؤتمر جنيف للسلام باعتبارها الممثل الشرعى الوحيد للفلسطينيين، ضحك السادات متسائلًا: «من حقى أن أسأل ما هو تصور الفلسطينيينلجنيف؟ وهل اتفقوا على الذهاب لجنيف أم لا؟ وإذا اتفقوا، فكيف كان الاتفاق؟». وأضاف أنه أرسل للاتحاد السوفيتى وأمريكا لحضور المؤتمر ورعايته «للوصول للسلام العادل»، داعيًا الفلسطينيين للحضور وسألهم: «هل اتفقوا على الذهاب؟ وأى وفد سيمثلهم؟ وما هو خط السير؟». الخلاصة.. الرئيس السادات سبق عصره بعشرات السنوات وظل وسيظل يهزم أعداءه.. فقد اتخذ العديد من القرارات التكتيكية والاستراتيجية التى تخص مصر والمنطقة العربية والتى إن كانت مثار جدل فى ذلك الوقت ولكن عرفنا مدى براعته وذكائه بعدها بسنوات.. فقبل رحيله حذر من وقوع «صدام حسين» فى فخ غزو الكويت وأكد أن هذا الأمر لو حدث فسيكون كارثة على العالم العربى كله.. وهو ما تحقق بالفعل بعد رحيله بتسع سنوات.. كما حذر من الوضع فى سوريا بسبب الفتن العرقية، وهو ما حدث بالفعل.. ونعيش نتائجه الآن يومًا بيوم.