فاجنر.. التمرد «المضاد» «طعنة فى ظهر بلادنا وشعبنا» بهذا الوصف كان أول تعليق للرئيس الروسى فلاديمير بوتين على تمرد قوات فاجنر «شبه العسكرية» للجيش الروسى بعد ساعات من انتظار رد القيادة الروسية على تمرد القوات الخاصة وتهديدهم باقتحام العاصمة موسكو، الأمر الذى كان بمثابة القنبلة المدوية بعد نجاحات عديدة استطاعت فاجنر تحقيقها على أرض المعركة فى أوكرانيا وبعد سيطرتها على باخموت بصورة خاصة.. «صراع العمالقة» هذا كشف العديد من النقاط المهمة عن استراتيجية روسيا العسكرية، وخطط مراكز قوتها، فى فترة حرجة تحاول فيها أوكرانيا «ترميم» هجومها المضاد لاستعادة أراضيها من القبضة الروسية.. لكن قيصر روسيا أبى الهزيمة أو الخضوع لمطالب فاجنر أشد حلفائه فى الحروب، فأما الخضوع لمطالب القيصر أو النفى خارج البلاد.. طعنة فاجنر لن تنسى وبوتين يواجه الخيانة بعزيمة أقوى.. لكن هل كان هذا التمرد هو بمثابة شهادة وفاة «فاجنر»؟ وهل سيكتفى بوتين بنفى، يفجينى بريجوجى، قائد الجماعة لبيلاروسيا.. أم هى مجرد خدعة للانتقام من طباخ الرئيس؟.. وأخيرا هل ستغير الدول استراتيجياتها تجاه «شركات الأمن الخاصة» بعد ما انقلب السحر على الساحر؟ فى 23 يونيو الماضى استيقظت الإدارة الروسية على أزمة غير متوقعة، إعلان رئيس جماعة فاجنر، يفجينى بريجوجى، عن زحفه إلى العاصمة موسكو لإعلان تمرد الجماعة ومواجهة الجيش النظامى الروسى بعد قصف مواقع المجموعة شبه العسكرية من قبل مجموعة جنود من وزارة الدفاع الروسى، وفق تصريحات بريجوجى، وردًا على هذا توعد رئيس فاجنر بالانتقامِ من قيادة وزارة الدفاع التى حملها مسئولية ما طال قواته. لم يكتفِ بريجوجين بالتوعد بالرد فحسب، بل عاود مهاجمته بعضًا من صناع القرار فى الدولة الروسية، قائلًا إن «الشر» فى القيادة العسكرية يجب أن يتوقف، ثم تعهد بما سماها «المسيرة من أجل العدالة» مشيرًا إلى قدوم قواته إلى العاصمة موسكو. ما حدث فى روسيا يعتبر مزيجًا من الخيال، والتوقع، والإثارة، والفزع، حيث بدا أن مجموعة فاجنر الروسية تمثل تحديًا مباشرًا لمؤسسة الجيش الروسى، المسلح نوويًا. ومع ذلك، ليس من المحتمل تفكيك هذه المجموعة رغم العديد من الخطوات التى بدأت تلاحق أذرع المجموعة فى روسيا ودول الشرق وأفريقيا التى تنتشر بها فاجنر بصورة قوية. المواجهة بمقاتليها المحترفين الذين لا يرتدون أى شارات عسكرية، وبأقنعتهم السوداء التى تخفى خلفها وجوها لا تطل منها سوى عيون حازمة، وبملابسهم النظامية المموهة، عُرفت مجموعة «فاجنر» الروسية التى ذاع صيتها فى أوكرانيا وسوريا، بجانب مناطق أخرى فى العالم ينشط فيها الدب الروسى مثل ليبيا وأفريقيا الوسطى ومالى والساحل الأفريقى. لطالما شكلت «فاجنر» ذراعا باطشا لموسكو والكرملين، لكن الأيام الماضية حملت لها فصلا جديدا، وذلك بعدما أعلن قائدها «يفجينى بريجوجين» تمرده وقواته على القيادة العسكرية الروسية، بعد أن استولى على مدينة «روستوف» الجنوبية بكل ملحقاتها العسكرية، بما فى ذلك قيادة المنطقة الجنوبية، والمطار، مهددا عبر تسجيل صوتى بالتحرك صوب العاصمة موسكو، فى تطور يستهدف الإطاحة بالقيادة العسكرية ممثلة فى وزير الدفاع سيرجى شويجو، ورئيس الأركان فاليرى جراسيموف. خرجت فاجنر عن سيطرة الكرملين وهى التى كانت طول سنوات ذراعه الطولى، وعلى مدار الأيام الماضية تعددت التكهنات حول المآلات المحتملة لهذا التطور، بيد أن الأزمة لم تدم طويلا، وبعد 48 ساعة فقط من إعلان التمرد، أعلن بريجوجين قبول وساطة الرئيس البيلاروسى لوكاشينكو، وأمر قواته بالعودة إلى معسكراتها، وعكس تحركها نحو العاصمة بعد أن كانت على بُعد 200 كيلومتر فقط من دخولها، مقابل ضمانات وفرها الكرملين شملت إسقاط الدعوى الجنائية ضد بريجوجين وخروجه إلى بيلاروسيا. خلاف فاجنر ليس الأول، فمنذ بداية الحرب الأوكرانية وخاصة مع دخول الجماعة فى صراع منطقة باخموت تحديدًا قبل نحو 9 أشهر اشتد الخلاف بين بريجوجين والملقب ب«طباخ بوتين» والقيادة العليا للجيش الروسى، ممثلة فى وزير الدفاع ورئيس الأركان، ومنذ اندلعت الحرب الأوكرانية فى فبراير 2022، أعتقد «يفجينى بريجوجين» - كما ظهر من تصريحاته لاحقا - بأن الجيش الروسى لن يصمد وقتا طويلا من دون قواته، وأن أولئك القادة الذين نعتهم «بعدم الكفاءة» لا يستطيعون بقوتهم وحدها تحقيق نصر حاسم ضد القوات الأوكرانية المدعومة غربيا. تصاعدت الأحداث لتصل إلى مواجهة علنية بين الفريقين، بعدما أعلنت وزارة الدفاع، فى تحد صريح لقائد فاجنر، مطالبة المقاتلين المتطوعين فى المجموعة بتوقيع عقود معها، لدمج المرتزقة فى الجيش، بغرض أن تخضع تلك القوات لاحقا لإمرة قيادة الجيش وتأثيره، وهو ما رفضه صديق بوتين المُقرب (سابقا) الذى رأى فى تلك الخطوة محاولة يائسة لحصاره، وبرر رفضه بدعوى أن قواته بالفعل محكومة تماما بمصالح روسيا والقائد العام، وأن الجيش الروسى لا يمكنه تحمل كفاءة مجموعته، وقد لا يزودها بالذخيرة والسلاح لضمان استمرار كفاءتها. ظل قائد فاجنر متحديًا، رافضًا الامتثال أو الكف عن تصريحاته ضد قيادات الجيش الروسى، لكنه أدرك أن لحظة تهميشه قد أعد لها، وأن الإطاحة به أصبحت مسألة وقت ليس إلا، خاصة أنه قد جاوزت جراءة تصريحاته لتصيب الرئيس الروسى نفسه، وقال فى فيديو إن روسيا قد تواجه ثورة مماثلة لثورة 1917 وتخسر حرب أوكرانيا ما لم تكن النخبة جادة بشأن المعركة، إلى جانب انحياز الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ضمنيا إلى قائد الجيش فى ذلك الصراع. شهدت الساعات القليلة قبل الهجوم الأخير على مدينة «روستوف» أحداثا مهمة للغاية، بعد قصف الجيش الروسى أحد معسكرات فاجنر فى أوكرانيا بالصواريخ وفق ادعاء بريجوجين، ورغم نفى القيادة العامة للجيش، ووصفها الادعاءات بأنها عمل مسرحى، فإن ذلك لم يكن كافيًا لاحتواء الأزمة مع أهم طرف يقاتل إلى جانب الجيش فى الأراضى الأوكرانية، وبدلا من ذلك وصل الصراع إلى الذروة وشهدت موسكو بوادر أول «تمرد عسكرى» منذ عقود. قوة فاجنر الحقيقية بعد نحو عام ونصف العام من الحرب الأوكرانية، اكتسب مقاتلو مجموعة فاجنر «سمعة سيئة» كما هو حال قائدهم باعتبارهم الأقسى بين أولئك الذى يقودون الحرب الروسية فى أوكرانيا، وتقدر الاستخبارات الغربية أن فاجنر تضخمت صفوفها مؤخرا بسبب تلك الحرب إلى نحو 50 ألف مقاتل، بما فى ذلك عشرات الآلاف من السجناء السابقين الذين تم تجنيدهم من السجون فى جميع أنحاء روسيا، وهو أكبر رقم وصلت إليه على الإطلاق منذ تأسيسها فى صيف عام 2014، خلال ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، لتتحول الميليشيا من مجرد مجموعة مرتزقة تساعد الجيش الروسى إلى قوة موازية تقاتل بدلا منه، وتقدم خدماتها فى الميدان، ومع ذلك، تحظر المجموعة رسميا من قبل الحكومة الروسية بسبب تجريم القانون إنشاء شركات عسكرية خاصة، ولم يكن وجودها معترفا به، فيما ظلت موسكو تنفى أن يكون لها أى صلة بها. بعدما أثبتت فاجنر أنها لا غنى عنها، استخدم بوتين المجموعة لإعادة توجيه مصالح سياسته الخارجية، بما فى ذلك تقديم الدعم العسكرى لحلفاء روسيا، بشكل يسمح للكرملين بإنكار التورط فى النزاعات، وتقليل الخسائر المباشرة فى صفوف الجيش. وقد لعبت المجموعة أدوارا محورية فى عدة بلدان، فى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا. وتضاعفت قوة فاجنر بعدما تحولت من ميليشيا ذات مهام محدودة إلى شركة أمن عابرة للحدود، قبل أن تستفحل وتتحول إلى شبكة معقدة من الشركات التى تعمل فى مجال التعدين وحراسة حقول النفط، والخدمات الأمنية، إلى جانب تجارة تُدر مئات الملايين من الدولارات شهريا، ورغم عدم وجود تقدير دقيق للأرباح وحجم الثروة التى يمتلكها طباخ بوتين، فإن الولاياتالمتحدة تعتقد أن فاجنر تحتاج إلى نحو أكثر من 100 مليون دولار شهريًا لتمويل عملياتها فى أوكرانيا، هذا بخلاف الاعتقاد الشائع أن المجموعة مدعومة من وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية (GRU)، التى تُمولها وتُشرف سرًا عليها. مصير «فاجنر» يواجه الرئيس الروسى واحد من أصعب الاختبارات بعد تمرد المجموعة شبه العسكرية، ووفق تقرير ل BBC فإن الكرملين قد أمهل المجموعة حتى 1 يوليو ليقرروا ما إذا كانوا سيوقعون على عقود بالانضمام إلى الجيش النظامى (وهو ليس عرضًا مغريًا لمعظمهم). وإذا لم يوقعوا، فإن بإمكانهم إما العودة إلى المنزل أو الذهاب إلى بيلاروسيا المجاورة حيث يفترض أن بريجوجين يعيش فى منفاه. ووفق تقرير لجهاز الاستخبارات البريطانية فقد ظهرت بيانات تعقب الطائرات أن طائرة على صلة ببريجوجين هبطت فى العاصمة البيلاروسية مينسك الأسبوع الماضى. ووصوله هناك أكده الرئيس البيلاروسى ألكسندر لوكاشينكو. لكن تلك الطائرة نفسها عادت منذ ذلك الحين إلى روسيا، متوقفة فى سانت بطرسبرج وموسكو. ولكن أين هو الآن وهل ما زال سيسمح له بإدارة عمليات فاجنر من بيلاروسيا، على الرغم من خيانته لراعيه السابق، الرئيس بوتين؟ ربما لا يزال مفيدًا لروسيا، لكن من المستبعد أن يثق به بوتين أو يسامحه على الإطلاق لأنه أوشك على إشعال فتيل حرب أهلية. وكان محققون بريطانيون قد خلصوا إلى نتيجة مفادها أن الضابطين السابقين فى جهاز الاستخبارات الروسى «كى جى بى» اللذين انشقا عن النظام، ألكسندر ليتفنينكو وسيرجى سكريبال، جرى تسميمهما فى بريطانيا على يد عملاء أرسلتهم موسكو. والآن سيعيش بريجوجين فى حالة ترقب وخوف من الخطر طوال حياته. أما فيما يتعلق بمقاتلين فاجنر، فإنه من المؤكد أن وجود الجماعة فى الحرب الأوكرانية قد انتهى بالفعل، وقد عمل بوتين على رفع رواتب قوات الجيش عقب تمرد فاجنر أيضًا، لكن تبقى أعضاء الجماعة هم النقطة الفاصلة فى هذا الأمر. وتقول كاترينا ستيبانينكو، وهى محللة روسية من معهد دراسات الحرب، إن «روسيا تقوم عمليًا بتفكيك واحدة من قواتها الهجومية القادرة على خوض المعارك». وتضيف أن «هذه تعتبر عملية مهمة للمقاتلين الأوكرانيين الذين ألمحوا فى السابق بأن القتال فى مواجهة فاجنر هو أسوأ بكثير من مواجهة وحدات الجيش الروسى النظامى». وتشير الدلائل إلى أن مستقبل مجموعة فاجنر ما زال يبحث فى المفاوضات بين بريجوجين والكرملين ولوكاشينكو، الذى عرض على قوات فاجنر استخدام معسكر للجيش. وتُظهر صور التقطت بالأقمار الصناعية وجود نشاط فى قاعدة مهجورة على بعد حوالى 21 كيلومترًا عن مدينة «أسيبوفيتشى» وأكثر من 100 كيلومتر عن العاصمة مينسك. وتحدثت وسائل الإعلام الروسية عن هذه المنطقة باعتبارها المكان الذى قد يأوى مقاتلى فاجنر.