سلمنا فصرنا على مَشارف 2021. تعلمتُ فى عام 2020 درسًا قاسيًا لم أكن أظن أننى سأخضع للاقتناع به يومًا.. ألا وهو درس التسليم.. المقصود بالتسليم هنا هو: «دع المقادير تجرى فى أعنّتها....».. يبدأ التسليمُ إذن باعتراف داخلى: أننى أولًا لن أغيّر شيئًا مقدورًا.. كنت أظن فى وقت مضى أن باستطاعة الإنسان أن يصنع ما يريد مادام امتلك الذكاء والإرادة والحنكة.. ولمّا كبرت قليلًا خَفُتَ إيمانى بقدرات الإنسان الخارقة، وصرتُ أرَى أن الواقع أقوى من الأحلام.. وأن الحياة تسير فى اتجاهات لا يستطيع أن يواجهها الإنسان فى كثير من الأحيان. ثم فى عام 2020 أتت ال«كورونا» وقضت على كل خيالات البَشر وأفلام السينما الأمريكية وصور الأبطال الخارقين، وكل هذا الزيف الإعلامى الذى صنعه البشر ليكذبوا على أنفسهم ويصدّقوا كذبة أن الإنسان وحده يستطيع التغيير.. إذ لم يستطع البشر جميعًا هزيمة فيروس لا يُرَى بالعين المجردة.. وحين ظن البشر أنهم اكتشفوا اللقاح الذى سيقضى على الفيروس، تحوَّر الفيروس وتغيّر واختلف عن ذى قبل؛ ليتحدى قدرات العالم المسكين، ويقضى على الإرادة الفولاذية ويجعلنا نُسَلّم.. إنه التسليم.. درس 2020. إن الأكثر واقعية فى هذا الحال هو الاستسلام للواقع والتسليم للأقدار.. وتذكُر ما غنّاه عبدالحليم، وما قاله نزار: (مقدورك أن تبقى محصورًا بين الماء وبين النار).. الماء هو العلاج الذى تظن البشرية أنها تعرفه، والنار هى مواجهة الفيروس به.. والنتيجة هى ألا يحدث أى شىء.. ارضَ إذن بمقدورك أن تبقى محصورًا بين الماء والنار. وتعلمتُ أيضًا أن التسليم هو رَفْعُ الراية البيضاء فى الكلام والمناقشة.. فلا أحد يصغى إلا لصوته.. هؤلاء المقتنعون بأن الفيروس مؤامرة، وهؤلاء الذين يرونه غضبًا إلهيّا، وهؤلاء الذين يرونه جائحة طبيعية وغيرهم وغيرهم، لا يمكن إقناعهم بالعدول عمّا يرون.. كنت فى أيام زمان أؤمن بأنه من الممكن إقناع الآخر بقوة الحُجّة وبالمنطق وبالدليل.. ولما نضج عقلى الصغير قليلًا، صرتُ أكتفى بقاعدة إراحة الضمير.. وهى تنص على أنك إذا رأيتَ ما تستطيع قوله بشأن موضوع ما، أو قضية، أو شخص؛ فحاول مرّة أو مرتين أن تُعبر عن فكرتك لتريح ضميرَك فحسب.. ولكن لا يأخذك الحلمُ لفكرة التغيير؛ لأنك حقّا لن تُغير شيئًا. ثم جاء 2020 وجاءت ال«كورونا».. صار الكلامُ مضاعفًا عن ذى قبل.. فالكل بالبيت.. والوقت يمتد.. والمناقشات الطويلة تسلى.. وكل مجموعة أو شخص يبحث عما يعضد فكرته وما يعتقده ليواجه الآخرين بما فى عقله.. تعلمت وأدركت حينئذ، بل تأكدت أن حتى قاعدة إراحة الضمير لا داعى لها.. وأن الحكيم يصمت.. وأن الاستسلام ورفع الراية البيضاء هو الراحة بعينها.. وتناهت لأذنى جملة تلك الأغنية التى تغنيها ماجدة الرومى ولكنها ترن فى عقلى: (أنا أنا أنا اعتزلت الكلام).. هى تقول: (إنسانى- إشارة إلى النسيان- أنا اعتزلت الغرام).. وأنا أود أن أرد على كل من يسألنى عن رأيى: (إنسانى.. إنسانى.. إنسانى.. أنا اعتزلت الكلام). سَلّمنا إذن للمقادير وتركناها تجرى فى أعنّتها كقول الشاعر المجهول الذى ورد فى كتاب ألف ليلة وليلة.. ولكن بقية البيتين لم نصل لهما بعد.. ففى 2020 تعلمنا درس الشطر الأول فقط.. ووعينا درس التسليم.. ونأمل أن نتعلم البقية إذا كان فى العمر بقية.. فماذا يقول الشاعر المجهول: دع المقادير تجرى فى أعنّتها ولا تبيّتن إلا خالى البال ما بين طرفة عَين وانتباهتها يُغير الله من حال إلى حال كيف يبيت الإنسان خالى البال؟ وما هو النضج الكافى لبلوغ تلك المرحلة العظيمة التى يسمّونها خلو البال؟ نعم نضجنا فوصلنا للتسليم للمقادير واعتزال الجدال، لكن متى سنبلغ راحة البال؟ هل تحمل لنا 2021 هذا الدرس؟ ياليتها تصنع ذلك! وهل تحمل لنا أيضًا البيت الثانى؟ هل نغمض عيوننا ونفتحها فنجد أن الله قد غيّر العالم المقهور المغلوب الذى كسرته سنة 2020 إلى عالم يشمله الشفاء والابتهاج بالحياة من جديد؟