كان من السهل تمامًا أن يكتفى صناع عمل ما بأن يقرنوا اسمه بالعظيم الراحل «هيث ليدجر»، ليكون هذا الأمر بمثابة «شيك على بياض» لنجاح هذا العمل دون اللجوء إلى وسائل الترويج التقليدية؛ إذ إن ما حصل مع مسلسل (مناورة الملكة، The Queens Gambit) يعتبر بلا شك أمرًا غير مسبوق على الصعيد الفنى والتجارى، سواء بالنسبة لشركة «نتفليكس» أو فى مجال الترفيه بشكل عام. فلنتناسَ قليلاً هذا المسلسل القصير ذا السبع حلقات وكونه لا يزال حتى الآن متربعًا على قائمة أكثر الأعمال مشاهدة على منصة «نتفليكس» لعام 2020 وأنه بلا شك ضَمِنَ لنفسه مكانًا ضمن أحد أفضل إنتاجاتها الأصلية، ولنبعد عن أذهاننا لحظة، الفتاة اليتيمة العبقرية «بيث هارمون، آنيا تايلور جوى» ورحلتها للعالمية فى مسابقات الشطرنج، وصراعها مع الإدمان والتيه والهيمنة الذكورية لمجتمع الستينيات فى الولاياتالمتحدة، ولنتغافل هنيهة عن أستاذية صانعى العمل «سكوت فرانك» و«آلان سكوت»، اللذين حققا حلم «ليدجر» فى اقتباس ومعالجة رواية بنفس الاسم للروائى الأمريكى العظيم «والتر تيفس». لنقف لحظة عند حقيقة أن (مناورة الملكة) يناور مشاهديه ويخفى أكثر ما يلوح للعيان من تثوير للغة البصرية والتشكيلية، وحذاقة إخراجية وبراعة تمثيلية وأصالة جمالية خرجت من فخ إنتاج الكليشيهات وتكريس التنميط، فهو حرفيًا صندوق باندورا فنى يحجب ويستر الكثير من الدلالات والرمزيات واللمعان، التى تقبع هناك فى انتظار من يحقب عنها ويفك شيفراتها، ومع هذا يمكن إيجاز كل ذلك فى حقيقة أن هذا المسلسل ما هو إلا استعارة شعرية ملغزة للوجود الإنسانى.. كيف ذلك؟ اقتبس «تيفس» فى الصفحة الأولى من الرواية، التى ترجمها المسلسل على الشاشة بشكل حرفى، أبيات من قصيدة «الذبابة ذات السيقان الطويلة» للشاعر الأيرلندى «وليام ييتس» ترمز إلى ثلاث أفكار رئيسية: الاستراتيجية العسكرية والجمال والفن، وهى سمات رئيسية تحدد شخصية «هارمون» وتتواشج بشدة مع الثيمة الكبرى للمسلسل وجوهو الحبكة، ألا وهى الصراع، ليس بين «هارمون» وخصومها على رقعة الشطرنج، بل الصراع مع نفسها. وكما وصف «عمر الخيام» فى رباعياته الليل والنهار ب«الرقعة»، نقل «فرانك» و«سكوت» رقعة الشطرنج - حرفيًا ومجازيًا - على الشاشة، ولهذا الأمر تغافلا كثيرًا عن التركيز على تصوير مبارايات الشطرنج، وهو ما يؤكده «فرانك» دائمًا فى حديثه مع وسائل الإعلام إن المسلسل ليس عن الشطرنج، بل عن الفتاة «بيث هارمون». فكل شىء فى المسلسل بداية من العنوان ثم الحوارات ولغة الجسد ورسم الشخصيات وهندسة الكادرات والموسيقى التصويرية وزوايا التصوير وتأطير المشاهد حتى الأزياء، تخدم هذه الاستعارة وتوظفها فى الدراما، ليرتقى العمل بالشكل إلى مستوى حيازة قوى تعبيرية شاعرية مكثفة ترمز إلى أفكار القصيدة التى يظهرها صراع الفتاة اليتيمة مع نفسها لكى تصبح ملكة.. باختصار.. هذا هو جوهر القصة. اللغة بيت الوجود.. من دونها لا تصبح الأشياء على ما هى عليه.. اللغة لعبة شطرنج إما أن توجد ككيان كليّ أو لا توجد إطلاقًا.. استعار «سكوت» و«فرانك» هذه الحقائق فى لغتهما البصرية فى بناء الفضاء من خلال الاشتغال على توليف هندسى للألوان سواء فى الديكور أو الأزياء أو الإضاءة، حتى الحوارات فى المسلسل كانت عادية. كل ما تشاهده على الشاشة يحيل إلى الأفكار الثلاثة عند «ييتس» تقول «بيث» إنها لا تشعر بالأمان إلا وسط عالم البيادق والفيل والحصان والوزير.. إنها تعيش الشطرنج، تعرف القواعد، تقول عنه إنه ليس تنافسيًا بل جميل، صديقتها «جولين» كانت تعرف هذا وتقول إنها فنانة لكن مجنونة، أمها كانت تعرف هذا وتقول لها: «إنكِ ستكونين وحيدة يومًا ما»، هذا ديدن العباقرة.. ولهذا هم دائمًا يناورون.