لا شك أن عشاق مصر وتراثها وشعبها أحزنتهم بل صدمتهم محاولة سرقة المتحف المصري التي ارتكبتها فرق بلطجية تجردوا من الوطنية ومن الضمير ومن أي وازع ديني. ولكن هكذا الثورات مهما كان تعفف وطهارة وحسن قصد قادتها، هناك دائما انتهازيون يتسللون بين الصفوف بغرض التعتيم علي الثورة، وإفساد صورتها أمام الناس. ثورات الشباب والطلاب التي تكررت منذ منتصف القرن الماضي لم تنج جميعها من تلك الظاهرة، ظاهرة السلب والنهب والفوضي العارمة التي تصاحبها وترتكب تحت ستار الفوضي وارتباك الأمن. وهو ما يدعوني إلي تحذير ثوار 25 يناير الذين لاشك في نقائهم ووطنيتهم وسمو مقصدهم. ولقد شهد العالم كله بذلك وأصبحوا قدوة لكل شباب العالم حتي إن بعض رؤساء الدول أوصوا بتدريس ثورة الشباب المصري في مدارس بلادهم. -- لقد أصبح التغيير حقيقة واقعة، وأروع ما فيه ذلك الإحساس بالمسئولية لدي الصبية والشبان الذين شمروا عن سواعدهم وراحوا ينظفون وجه مصر بعد أن تعافي قلبها. وتلك إحدي الظواهر التي ميزت ثورة 25 يناير عن غيرها من ثورات شباب العالم. فلقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين عدة ثورات طلابية - شبابية لعل بدايتها حركة الضباط المصريين في يوليو 1952 التي قادها شباب في بداية الثلاثينيات من عمرهم، وتحولت إلي ثورة عندما أيدهم الشعب كله ورحب بمبادئهم. -- من العلامات الفارقة في تاريخ الثورات الشبابية ثورة الثامن والعشرين من مايو 1968 التي انفجرت بين طلاب فرنسا. اندلعت الثورة بين الشباب الألماني أولا ثم انتقلت من ألمانيا إلي فرنسا، وكان رئيس فرنسا في ذلك الوقت هو العملاق قائد المقاومة الفرنسية أثناء الحرب العالمية الثانية، الجنرال شارل ديجول. وعندما اندلعت الاحتجاجات الطلابية في عدد من الجامعات والمدارس الثانوية في باريس، ارتكبت حكومة ديجول نفس الخطأ الذي كررته حكوماتنا السابقة العديد من المرات وهو قمع الإضرابات عن طريق الشرطة، مما زاد الحركة الاحتجاجية التهابا واشتبك الطلاب في معارك مع الشرطة في شوارع وميادين الحي اللاتيني، ثم انتشرت الإضرابات الطلابية في جميع أنحاء فرنسا، وارتفعت الإضرابات إلي ذروة خطيرة عندما انضم إليهم أحد عشر مليونا من العمال الفرنسيين (ثلثا القوة العاملة الفرنسية في ذلك الوقت)، وأصبح الاقتصاد الفرنسي مهددا بكارثة، وبدت فرنسا علي حافة حرب أهلية. -- هرب ديجول إلي قاعدة عسكرية في ألمانيا حيث كون غرفة عمليات لمواجهة الثورة ثم رضخ لمطالب الثوار وحل الجمعية الوطنية، ودعا إلي انتخابات برلمانية جديدة في 23 يونيو 1968 ما أدي الي عودة العمال إلي وظائفهم وتبخر العنف بنفس السرعة التي ظهر بها. ورغم إطاحة الشباب بديجول الذي اعتزل السياسة وتنحي، فقد فاز حزبه في الانتخابات التالية لتلك الأحداث بأغلبية ساحقة وخرج من الانتخابات أقوي مما كان رغم أن استفتاء أجري مباشرة بعد الأزمة (في أبريل 1969) أظهر أن الأغلبية الفرنسية تري ديجول «عجوزا أنانيا سلطويا محافظا (متخلف اجتماعيا) جدا»! وإذا كانت ثورة 28 مايو الفرنسية لم تحقق أهدافا سياسية، إلا أنها قلبت المجتمع الأوروبي رأسا علي عقب، وأحدثت انقلابا اجتماعيا، ليس في فرنسا وحدها وإنما علي مستوي أوروبا كلها بل والعالم، وهناك من يعتبرها حدثا تاريخيا لا يقل أهميةً عن الثورة الفرنسية ويمكن أن نقول إن أوروبا التي نعرفها اليوم ولدت في تلك الأيام. -- كانت ثورة الطلاب علي الاستبداد السياسي وعلي القيم الرأسمالية والاستهلاكية وعلي الخوف من البوليس، وطالبوا بأحداث تغيير في نظامي التعليم والعمل، والتخلص من «المجتمع القديم» والأخلاق التقليدية، وشجعت حركتهم الموجة الثانية من الحركة النسوية التي انطلقت بعدها لتردد أصداءها في الولاياتالمتحدة ثم في العالم كله. أما ثورة الشباب التي اندلعت في الصين عام 1966 فقد سلكت مسلكا مغايرا، أدي إلي أن تحولت إلي عار قومي، وكابوس يرغب النظام الصيني الحاكم محوه من التاريخ. ومهما سعي ذلك النظام وأذنابه إلي تبرير ما حدث أو إعطائه «نيو لوك» فلن يعوض الخسائر الفادحة التي تكبدتها الصين في الأرواح وفي ثقافتها وتراثها الحضاري. اندلعت ثورة الشباب الصيني بتحريض من ماوتسي تونج ومباركته ولذلك وصل تمادي وحمق «الحرس الأحمر» الذي كونه الشباب إلي حد غير مسبوق في تاريخ البشرية من العنف والفوضي، واستمرت تلك المحنة لمدة عشر سنوات كاملة ولم تنته إلا بوفاة ماو والقبض علي عصابة الأربعة عام 1976 بواسطة القوي المعادية للثورة الثقافية بزعامة دينج سياو بنج. والغريب أن يسمي ذلك الإعصار الغاشم الذي دمر أجمل ما في التراث الصيني علي امتداد آلاف السنين، واضطهد وعذب وشرد وقتل الملايين من صفوة شعبها بالثورة الثقافية! وبعد عدة سنوات تجمع عدة آلاف من الشباب الصيني بميدان تيانانمن الذي يقع بالقرب من المدينة السماوية (المقدسة) وسط بكين يوم 14 أبريل 1989 في حركة احتجاجية سلمية كانت بلا قيادة وتجمعت تيارات مختلفة اتفقت علي رفض سلطوية الحكومة والمطالبة بإصلاحات اقتصادية وسياسية، وانضمت الجماهير إلي الشباب المحتج، حتي فاضت بهم الشوارع المحيطة بالميدان، ثم اندلعت المسيرات المحتجة في بعض الولايات الأخري ووصلت إلي مدينة شنغهاي. وأثناء ذلك تفشت عمليات النهب والسلب في بعض الأماكن، وبعد سبع أسابيع فقدت الحكومة الصينية صبرها، فأرسلت جيش «التحرير الشعبي» بقوات ودبابات أطلقت نيرانا حية علي المحتجين، وقيل أن عدد القتلي الذين تناثرت جثثهم بالميدان تراوح من 800 إلي 3000 ولكن الحقيقة لا تزال غير معروفة. وفي عام 2010 منحت جائزة نوبل للسلام إلي الكاتب الصيني ليو إكسيابو، واحد من الناجين من مجزرة ميدان «تيانانمن» تقديرا لكفاحه الطويل من أجل حقوق الإنسان في الصين، ومن بعدها تعرض الكاتب لوسائل متعددة من التنكيل وصلت إلي حد الحكم عليه بالسجن لمدة أحد عشر عاما ومازال فيه إلي يومنا هذا، ولم يشفع له الفوز بالجائزة العالمية بل لعله زاد الحكومة الصينية تعنتا معه.. وهو ما يدل علي أن الثورة المضادة لن تستسلم والانتهازيين لن يسطوا فقط علي أموال الشعب وتراثه وإنما سيفعلون المستحيل ليدمروا أروع ثورة من أجل كبريائه ومستقبله.