بلا أى شك؛ فإن ألبوم (سهران) للفنان الأنجح فى تاريخ البوب العربى «عمرو دياب» يُعد علامة فارقة فى مسيرته الغنائية، وذلك للعديد من العوامل التى تؤكد أننا لا نتحدث فقط عن فنان ذكى أو ناجح أو له جماهيرية عريضة فى مختلف بلدان العالم، بل نحن أمام منهج غنائى متكامل وكأنه يقدم نفسه لنا للمرّة الأولى، رُغم أنه يملك فى مشواره الفنى أكثر من 30 ألبومًا غنائيّا. البُعد الاجتماعى
مَن كان يتابع ماكتبته سابقا سيجد أننى كنت دائم النقد لخلو الألبومات الغنائية للأعمال التى يكون لها طابع اجتماعى بعيدًا عن علاقة الحبيب بالحبيبة، وأخيرًا نجد الفنان الأنجح فى مسيرة البوب العربى يقدم على تنفيذ أغانٍ لها أبعاد اجتماعية ليزيد تنوُّع أشكاله الغنائية فى ألبوم (سهران).
أول هذه الأعمال (جميلة) من كلمات «شادى نور» وألحان «بلال سرور» وتوزيع «طارق مدكور»، فبمجرد سماع الأغنية وكلماتها ستعتقد أنها أغنية عاطفية مثل عشرات الأغانى التى اعتاد «الهضبة» تقديمها لجمهوره، وذلك بفضل كلمات الغزَل التى تحتويها الأغنية حتى نتفاجأ جميعًا بصوت ابنته «جانا»، التى تبادله الغناء؛ لنكتشف أننا أمام أب يغنى لابنته ويتغزل فى جمالها لدرجة أنه يتحدث عن «بَخت» حبيبها المستقبلى، ومن فرط حُبه لها يقول «ماشاء الله»؛ خوفًا من الحسد كموروث شعبى فى ثقافتنا العربية.
للأسف الشديد أغلب الرموز الفنية فى تاريخنا يرفضون عمل أبنائهم؛ خصوصًا «الإناث» فى المجال الفنى بمنطق «أنا أمثل، هى لأ»، و«أنا أبوس فى الأفلام، هى متتباسش»... إلخ، ولكن «عمرو دياب» يقوم بكسر كل هذه التقاليد الرجعية ويقدم لنا ابنته بكل فخر وحُب شديد، ولا يلتفت لهذا الموروث المتخلف ويعرض علينا الموهبة الغنائية الصاعدة التى تقوم بالتلحين وكتابة الكلمات وأيضًا الغناء، بل الإصرار على ظهورها الفنى بثقافتها «الأجنبية»؛ نظرًا لتربيتها ومعيشتها فى الخارج، فهو لم يجبرها على الغناء بالعربى- مثلًا- لكى يُرضى غرور الكثيرين فى مجتمعنا! فضلًا عن أننا نفتقد للأعمال التى تتحدث عن علاقة الأب بابنته، فكانت هذه الأغنية نموذجًا جيدًا للتعبير عن هذا الشعور الأسرى.
ثانى هذه الأعمال (عم الطبيب)، من ألحان «عمرو دياب» وتوزيع «رامى سمير»، وبطلها «صابر كمال»، وهو من نوعية الشعراء المثقفين، المُحبين للقراءة بشكل مستمر، وقاموسه اللغوى ممتلئ بالكثير من المرادفات التى يجيد استخدامها وتطويعها بشكل جديد فى الأغنية، وهذا ما ظهر بوضوح فى أغنيته التى تم بناؤها على أسلوب الحوار المتبادل بين أبطال الأغنية «المغنى، الطبيب، العطار، شيخ العرب»، ف«صابر» وصف بطل أول جزء من الأغنية ب«الطبيب»، وليس «الدكتور»؛ ليعود بنا إلى الموروث الشعبى فى السِّيَر العربية القديمة، وتحدَّث من خلاله عن فكرة أن فى بعض الأمراض يكون علاجها الحب وليس الطب، ثم وصف بطل الجزء الثانى من الأغنية ب«العطار»، فلاتزال هذه المهنة موجودة فى مصر حتى الآن، ويفضل الكثيرون الذهاب للعطارين؛ خصوصًا فى المناطق الشعبية ذات الكثافة السكانية المرتفعة؛ ليتحدث من خلاله عن أهمية الصداقة فى حياتنا، ثم اختتم الأغنية فى فصلها الثالث بمصطلح «شيخ العرب» للحديث عن العوز والاحتياج المالى، على لسان «الشيخ» وهو طبقًا ل«معجم الغنى» فهذا الوصف يُطلق على كبير العلماء والطريقة أو مَن يكون له مقام أو فضل أو عِلم بين الجماعة أو مسئول القبيلة أو القرية؛ ليعود بنا إلى زمن الأصالة الشعبية العربية رُغم تواجدنا فى العقد الثالث من الألفية الثالثة، بكلمات سهلة الفهم وشديدة الدلالة رُغم عُمقها. ويُحسب ل«عمرو دياب» تحمسه لهذه النوعية من الموضوعات المختلفة كليًّا عمَّا قدّمه لنا فى مشواره الغنائى.
أغانى الموقف
(سهران) اسم الألبوم، وهى واحدة من هذه الأغانى التى تتحدث عن موقف دائمًا ما يحدث فى كل التجمعات الشبابيبة، أو حتى غير الشبابية، عندما تأتى للمكان فتاة جميلة ليقوم الجميع بالنظر إليها بشكل لا إرادى، ولكن الكلمات التى كتبها «تامر حسين» والألحان التى وضعها «عزيز الشافعى» والتنفيذ الموسيقى الشرقى ل«طارق مدكور»، جعلت من الأغنية «حدوتة» مكتملة التفاصيل، والأمر نفسه لهذا الثلاثى فى أغنية (قدّام مرايتها)، التى عبّرت أيضًا عن موقف يتكرر بشكل شبه يومى فى جميع البيوت المصرية والعربية، وربما الأجنبية أيضًا.
أمّا فى أغنية (يوم تلات)، وهى استمرار للتعاون الناجح ل«تامر حسين» مع «عزيز الشافعى»، ولكن هذه المرّة مع الموزع «أسامة الهندى»، فمع صدور الأغنية فى فصل الصيف كانت هناك حالة من الجدل الواسع على السوشيال ميديا ما بين مؤيد ومعارض لفكرة الأغنية التى ربما ما تُعبر عن مفاهيم ذكورية تجاه المرأة؛ خصوصًا إذا كنا نتحدث عن شعور عاطفى من رجل يعجب بثلاث فتيات فى التوقيت نفسه، ولكن يظل هناك رابط مشترك بين الأغانى الثلاثة التى تعاون فيها «تامر حسين» مع «عزيز الشافعى» وتعبيرها عن مواقف بعينها؛ خصوصًا أن جميع هذه الأغانى ربما لا تحتاج إلى التصوير بطريقة الفيديو كليب بفضل التعبير المتكامل عن أدق تفاصيل القصص الواردة فيها، وهذا يرجع لقوة الشاعر والملحن؛ خصوصًا أنها تُنَمّى خيال المستمعين لرسم ملامح الشخصيات على حسب تصوّر ورؤية كلّ على حِدَة.
أمّا الأغنية الرابعة فى هذا الألبوم، التى تنتمى لفئة أغانى «الموقف» فهى أغنية (أول يوم فى البُعد)، فإذا كان «عمرو دياب» قام بالتعبير قبل ذلك عن شعور لحظة الوداع فى أغنية (قالى الوداع) للشاعر الكبير «بهاء الدين محمد» وألحان «خالد عز» وتوزيع «فهد المعتمد» على ال«R&B» الصادرة فى ألبوم (علم قلبى) 2003م، وقبلها بعامَيْن تقريبًا عَبّر أيضًا عن شعور الحبيب قبل لحظة الوداع فى أغنية (قلت إيه) للشاعر «خالد تاج الدين» والملحن «عمرو مصطفى» وتوزيع «طارق مدكور» المعتمد على ال«Latin Pop» الصادرة فى ألبوم (أكتر واحد) 2001م، فيعود «عمرو دياب» من جديد للتعبير عن الشعور (فى أول يوم) بعد حدوث الوداع من كلمات «أحمد المالكى» وألحان «محمدى» وتوزيع «أسامة الهندى» الذى نفذها بخامات وأصوات تستخدم فى موسيقى ال«R&B» ولكن التوزيع فى حقيقة الأمر مبنى على إيقاع ال«مقسوم قاعد»؛ ليكمل الهضبة «ثلاثية الوداع» ب(أول يوم فى البُعد) التى برهنت على نجاحها منذ الصدور فى فترة الصيف، ثم تأكيد «عمرو دياب» وإصراره على ضمها فى ألبوم (سهران).
فلسفة التكرار
دائمًا ما يقال إن «عمرو دياب» يقوم بتكرار الكلمات فى أغانيه، وهذا أمرٌ صحيح للغاية، فهذا الألبوم شهد العديد من الأغانى التى تعتمد بشكل كبير على تكرار الكلمات، مثل «هعمل مهرجان مهرجان» فى أغنية (مهرجان) للشاعر «أيمن بهجت قمر» والملحن «محمد يحيى» والموزع «نادر حمدى»، و«يا روقانك، يا روقانك» فى أغنية (يا روقانك) للشاعر «أحمد المالكى» والملحن «محمد يحيى» والموزع «طارق مدكور»، و«جميلة جميلة جميلة» فى أغنية (جميلة) للشاعر «شادى نور» والملحن «بلال سرور» والموزع «طارق مدكور»، و«دى جامدة جامدة جامدة بس» فى أغنية (جامدة بس) للشاعر «تامر حسين» والملحن «عمرو مصطفى» والموزع «نادر حمدى».
ولكن الغريب أن هذا التكرار يتعامل معه الكثيرون وكأنه نقطة من نقاط الضعف فى أسلوب «عمرو» الغنائى، ولكن على العكس تمامًا، فلسفة التكرار فى مشوار الهضبة هى نقطة من نقاط قوته، ويرجع ذلك لكونه مصنفًا كمغنى «pop»، وهو مصطلح مشتق من كلمة «popular»، فهذا النوع من الغناء يعنى الوصول لأكبر وأوسع شريحة ممكنة، بكل الأشكال والطرُق، ولذلك يتم استخدام وتدوير الكلمات الشائعة التى تحتوى على حروف سهلة فى النطق وتتماشَى مع أذواق أكبر شريحة استماع ويتم تكرارها على جُمل لحنية قصيرة ورنانة. كما أن «عمرو دياب» أدرك بالتجربة نجاح هذه الفلسفة، فبالنظر إلى أغلب أغانيه التى حققت نجاحًا جماهيريّا كبيرًا مثل (نور العين، العالِم الله، ميّال، الليلة... إلخ) سنجدها معتمدة على هذه الفلسفة، كما أن أكبر مُغنيى البوب فى العالم يقومون بالأمر نفسه، فعلى سبيل المثال «ريهانا» فى أغنيتها الشهيرة (Work)، كررتها 18 مرّة فى كل مرّة تغنى فيها «كورس الأغنية»، و«شاكيرا» فى أغنية كأس العالم 2014م كان «كورس الأغنية» عبارة عن تكرار ل«La»، والأمثلة كثيرة للغاية.
زى ما انتى.. وأغانى الدراما
(زى ما انتى) تُعتبر واحدة من أهم أغانى الألبوم، إن لم تكن أهمهم جميعًا، فالفنان «عزيز الشافعى» أبدع فى صياغتها من حيث الكلمات واللحن، ويكمن سر قوة هذه الأغنية فى استخدام الكلمات الدارجة والمتداولة فى أحاديثنا اليومية وصياغتها فى حالة شِعرية رومانسية حالمة، فربما لو قرأنا جملة «سيبك انتى، عاملة إيه وازّيك انتى» ولم نسمعها بلحن أو توزيع أو بصوت «عمرو دياب»، فمن المؤكد أننا لم نتوقف أمامها، ولكن بإحساس الهضبة وبكلمات وألحان «عزيز الشافعى» وتوزيع «نادر حمدى» المنفذ بشكل موسيقى «الفلامنكو»، كل هذه العوامل ساهمت فى قوتها.
أيضًا طريقة الغناء المتواصل التى قام بها «عمرو دياب» بداية من مذهب الأغنية ثم جملة السينيو ثم الكوبليه دون أى فواصل موسيقية بينها، خالفت توقعات المستمعين بسَير الأغنية بالشكل المتعارف عليه، وهذا ما حدث أيضًا فى أغنية (مكانك فى قلبى) بالطريقة نفسها؛ الغناء دون فواصل موسيقية، ولكن هذه المرّة من كلمات «تامر حسين» وألحان «شريف بدر» فى أول تعاون له مع «عمرو دياب» وتوزيع «طارق مدكور».
وفى أغينة (هيعيش يفتكرنى) من كلمات «تامر حسين» وألحان «عمرو مصطفى» فيعود بنا «عمرو دياب» إلى تكرار نجاحاته السابقة مع الموزع «نادر حمدى» مثل أغنية (وحشتينى) التى بدأت بالبيانو ثم دخول صوت «عمرو دياب» بمذهب الأغنية ثم تبدأ الموسيقى فى التفاعل معه بشكل متدرج، وهو ما تكرَّر فى أغنية (خليك معايا)، وكذلك أغنية (وماله) حتى إن كانت من توزيع «طارق مدكور» ولكن كانت البداية أيضًا مع بيانو «نادر حمدى»، فهذه التوليفة الموسيقية لا تخطئ فى الوصول إلى آذان المستمعين.
وفى أغنية (روح) أول تجارب مدير أعمال الهضبة الفنية، «أحمد زغلول» ومن كلماته وألحانه وتوزيع «أسامة الهندى»، يخاطب «عمرو دياب» محبى الشكل الطربى الذى بدأ يهتم به فى ألبوماته الأخيرة بعد نجاح تجارب (أمنتك) فى ألبوم (أحلى وأحلى)، و(يا أحلى حاجة) فى ألبوم (معدى الناس)، و(هدد) فى ألبوم (كل حياتى). تنوع الأشكال الموسيقية.. وجرأة الكلمات
بشكل عام ألبوم (سهران) هو واحد من أكثر الألبومات تنوُّعًا من حيث الأشكال الموسيقية، فهو يحتوى على أشكال ال«house، ballad، rock، latin، oriental»، مع المقسوم وغيرها من الأشكال الموسيقية.. ولكن أريد أن أتوقف عند توزيع أغنية (حلوة البدايات) للشاعر «خالد تاج الدين» وألحان «عمرو مصطفى»، فالتوزيع الذى نفذه «نادر حمدى» كان شيئًا رائعًا وعبقريّا فى الوقت نفسه، فهو مزج بين الثقافة الشرقية والغربية بشكل يظنه البعض «سهل»، ولكنه أمرٌ فى غاية التعقيد؛ حيث قام بدمج «الطبلة» مع إيقاع «الهاوس» بشكل متجانس تقريبًا طوال مدة الأغنية باسثناء بعض الفواصل.
وتبقى النقطة الأبرز فى هذا الألبوم، وهى التغيير الكبير فى ألفاظ «عمرو دياب»، فالهضبة دائمًا ما يكون جريئًا من حيث تقديم الأشكال الموسيقية ولكنه فى الأغلب يكون محافظا من حيث صياغة الكلمات، ولكن فى هذا الألبوم سمعناه يتغنّى بالإفيه مثل «جامدة بس»،و«هامشى أقول فى الشارع هيه، أنا هعمل مهرجان»، و«مين ده اللى يعارضنى هنهزر؟!»، أو من حيث اختيار الموضوعات مثل (يوم تلات، قدّام مرايتها، سهران، عم الطبيب، جميلة)، أو حتى فى طريقة تناوله للغزَل بكلمات مختلفة مثل (عليكى شياكة خطفتنى وماشية عارضة أزياء).