أول من حاول الانتحار عبده جعفر فى مقدمة منطقية قبل الانفجار البركانى فى ميدان التحرير الذى أثمر عن ثورة «اللوتس».. زهرة الكبرياء والكرامة التى لا تعرف الانحناء رغم العواطف والأنواء تصدر المشهد وقائع القهر والظلم وانعدام العدالة الاجتماعية التى تراكمت مظاهرها تراكما بشعا ينذر بانفجار ثورى وشيك لم يكن أحد يعلم من أين يبدأ وإن كنت تصورت أنه سوف يأتى من غضب عشوائيات الجوع والمهانة التى تشكل حزاما يطوق البلاد فى فوضى طبقية لا مثيل لها. لكن المشهد ظهر على رصيف مجلس الوزراء المقابل للبوابة الرئيسية لمجلس الشعب.. وكان بطله «عبده عبد المنعم جعفر» الذى ربما نسيناه ونسينا حكايته بسبب تدفق الأحداث الصاعقة التى بدأت بتظاهر سنابل الوطن الزاهرة وانتهت بإعلان سقوط النظام سقوطا تاريخيا وتولى المؤسسة العسكرية شئون الحكم. الصورة أرشيف روز اليوسف فمن هو «عبده عبد المنعم جعفر»؟ إنه صاحب مطعم الفول الصغير بالقنطرة غرب بمحافظة الإسماعيلية الذى شعر أن الموت هو وسيلته الوحيدة التى لا يملك سواها للتعبير عن وجوده.. وعن وجود أمثاله الذين يعيشون حياة تعسة يعانون فيها فقرا وظلما اجتماعيا يفوق قدرتهم على الاحتمال والتجاوز فهم عاجزون عن تلبية أبسط حقوقهم فى الحياة لقمة يابسة تسد الرمق وهدمة متواضعة تستر البدن.. وقروش قليلة لاحتياجات أساسية كتعليم أطفال أو سداد إيجار مسكن متداعى تصفه صحفية ذهبت إلى هناك بأنه مبنى بالطوب اللبن بابه الخشبى متهالك كثيرا بالقدر الذى يجعل أفراده يشعرون بالخوف اللهم إذا لم يكن هناك ما يخافون.. عليه وأثاث المنزل لا يقل تواضعا قطع خشبية بسيطة على أرضية طينية تتراكم عليها المياه وعلى بعد أمتار يلعب «سيد» و «أمنية» ابنا عبده الصغيران دون وعى منهما بحالة والدهما وربما كانا أحد أسباب إقدامه على الانتحار فهو يعولهما ويعول زوجته وأمه المريضة وابن أكبر يساعده بالعمل فى المطعم الصغير الذى يقع على طريق رئيسى يربط بين محافظتين.. وكل رواده من سائقى النقل والمقطورات وبعد ما بدأ إضراب المقطورات ثأثر الدخل جدا فالمطعم بالإيجار وبه عمال يقبضون يومية.. لم يطلب «عبده» إلا زيادة حصة العيش والوحدة المحلية تتعسف معه فى صرف الخبز المدعم المخصص له ولوالدته.. كما تتعسف فى استبدال مكان تسلم الخبز من الإدارة المحلية إلى قريته وقف «عبده» على رصيف مجلس الوزراء وسكب على نفسه البنزين وهتف «منكم لله قطعتم عيشى آكل منين أنا وعيالى حقى ضايع».. ثم أشعل النار فى جسده. إن صرخات الاحتجاج بالانتحار تحمل رسالة بائسة تعنى أننى وأمثالى من البؤساء سوف نؤرق ضميرك أيها المجتمع المتحجر القلب بإزهاق أرواحنا.. لكن تلك الرسالة العاجزة المؤلمة لم تصل فى وقتها إلى المسئولين.. فقد كان رد فعل محافظ الإسماعيلية يلخص فى تعليقه على الحادث فداحة المأساة التى نعيشها وبشاعة خطايا نظام فاسد بأكمله وحتمية أن تهب عاصفة عاتية تطيح به وتجتثه من جذوره فقد وصف المحافظ فى بيان أصدره أن إقدام «عبده» على الانتحار أمام مجلس الشعب تصرف غير لائق «مش شيك أو رقيق يعنى» وناتج عن خلل نفسى فالمواطن يحصل على حصته من الخبز لكنه افتعل مشكلة مع مدير منفذ توزيع الخبز وحرر له محضرا فى قسم شرطة القنطرة ثبت من خلاله أنه ليس من حقه الحصول على حصة إضافية.. حيث إنه يرغب فى بيعها بالمطعم بالمخالفة للقانون. موقف المحافظ يمثل غلطة واستعلاء فى مواجهة البسطاء الذين يقتربون من حد الفقر فى مجتمع يعانى من بطالة وغلاء أسعار وقهر اجتماعى وفساد إدارى بينما واجبه يحتم عليه أن يبسط حمايته ورعايته للمحتاجين ويعمل على حل مشاكل بسيطة لن تكلفه جهدا أو وقتا أو تخطيطا أو أموالا فادحة.. إنها بضعة أرغفة لأفواه جائعة كما يكشف بيان المحافظ عن افتقار فاضح للرؤية الاجتماعية والسياسية لأحوال المجتمع ولظروف اللحظة الراهنة وبيروقراطية زميمة تعلى من أهمية الإجراءات العقيمة حتى لو كان الثمن جوع أسرة أو إغلاق مطعم صغير فزيادة حصة الخبز تستلزم طلبا يقدمه المواطن يوافق عليه المهندس رئيس مركز ومدينة «القنطرة غرب».. ثم تأشيرة مدير التموين.. ثم توقيع مدير منفذ توزيع الخبز وربما عشرات الموظفين الآخرين الذين يقومون بدراسة حالة المواطن الاجتماعية وتقدير مدى احتياجه للخبز ثم ينتهى الأمر فى النهاية بقرار أنه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» وربما اندهشت سيدة القصور فى روكسى ولندن وعواصم عالمية أخرى فتطل من الشرفة لتهتف فى تأفف يا إلهى ما هذا اللغط والصداع لماذا لا يحاول هؤلاء الرعاع والأوباش أن يأكلوا «الكرواسان والباتيه»؟ إن الظلم وانعدام العدالة الاجتماعية والشعور بالفوارق الطبقية نتيجة الثراء الفاحش فى مقابل الفقر المدقع تناقض حاد وصارخ بين قاهرة الفقراء وقاهرة الأغنياء قاهرة يعيش نصف سكانها تحت مستوى الفقر وقاهرة أخرى تشيد خمسة فنادق فاخرة لخدمة مائة وستين نوعا من الكلاب المدللة. أقول إن هذا الظلم الاجتماعى مضاف إليه تفشى الفساد هما المقدمة المنطقية التى أدت إلى ثورة شعب يعيش ملايين منه بالمقابر وكانت آخر الوقائع البشعة خروج جثث من قبورها فى مدافن الإمام الشافعى لتطفو فوق مجارى يعيش إلى جوارها أحياء بؤساء.. بينما تصل ثروة الرئيس السابق إلى «70» مليار دولار.. ونعم اللصوص وفق ما تردد بنهب ثروات الوطن وأراضيه وأتوا على الأخضر واليابس. إن ثورة «25» يناير التى رفعت شعارات الحرية والعدل والكرامة الإنسانية والتى يرى البعض أنها تعنى معانى أشمل وأعم وأرحب من مجرد تلبية احتياجات الفقراء أعتقد أن هذا التصور خاطئ فهى فى النهاية ثورة الطبقة المتوسطة التى جاءت من أجل التعبير عن أحلام بسطاء الوطن الذين يمثلون أغلبيته البائسة فى حياة أكثر عدلا وإنسانية.