وقّعت الولاياتالمتحدةوالصين، الأربعاء الماضى، الاتفاق التجارى المرحلى بينهما والذى يتضمن خطوات تستهدف تهدئة الحرب التجارية القائمة بين البلدين منذ نحو عامين، هذا الاتفاق الذى يفتح الباب أمام تغيرات واسعة على مستوى قواعد التجارة العالمية، حيث يضع حدًا لسياسة إغراق الأسواق بالسلع الصينية، وإنهاء لزمن العولمة الاقتصادية وفرض قواعد جديدة للعلاقات التجارية لتحقيق التوازن بين الدول. ونظرًا لأهمية هذا الاتفاق فى كونه يضع حدًا للحرب التجارية التى كانت تهدد بعودة العالم لعصر الحمائية الاقتصادية وغلق الأسواق نهائيًا، بجانب أنه يرسم صورة لعالم اقتصادى جديد تكون فيه الصين هى السوق الأولى فى العالم فيما تسعى أمريكا لإعادة بناء اقتصادها من جديد. وفى هذه السطور، نحدد أهم النتائج التى من المنتظر أن يشهدها الاقتصاد العالمى خلال الفترة المقبلة بناء على هذا التوافق الذى حدث لأول مرة بين أكبر اقتصادين فى العالم.
شروط الاتفاق تنص الاتفاقية على دعوة الصين إلى زيادة مشترياتها من السلع الأمريكية، ووقف إجبار الشركات الأجنبية على نقل التكنولوجيا، وعدم التلاعب بعملتها من أجل جعل صادراتها أرخص، وفى المقابل أزالت الولاياتالمتحدة بالفعل تصنيفها للصين كمتلاعب بالعملة، بموجب هذا الاتفاق، كما أوقفت خططًا لإضافة تعريفة جديدة على السلع الصينية بقيمة مليارات الدولارات، بينما خفضت نصف التعريفات الجمركية على حوالى 110 مليارات دولار من المنتجات الصينية. وأشارت بعض التقارير الصحفية إلى أن وثقية الاتفاقية التى تتكون من 86 صفحة، تتضمن أن تلتزم الصين بزيادة وارداتها من المنتجات الأمريكية بمقدار 200 مليار دولار على الأقل خلال العامين المقبلين، كما يُبقى الاتفاق على الرسوم الأمريكية على كمية قيمتها 370 مليار دولار من السلع الصينية فى حين سيخفض بعض الرسوم من 15 % إلى 7.5 %.
النظام التجارى الجديد يكتسب هذا الاتفاق أهمية قصوى، دون غيره من الاتفاقيات التجارية، لأنه يمثل تغييرًا شاملاً لدور منظمة التجارة العالمية ونظام تسوية النزاعات الخاصة بالتجارة المثير للجدل، كما أنه يعد إنهاء لما سمى بزمن العولمة الاقتصادية الذى تبنته منظمة التجارة العالمية منذ تأسيسها فى العام 1975 وتأسيسًا لنهج جديد يعطى الدول حق فرض الحمائية الاقتصادية فى حال خلل الميزان التجارى. يمهد الاتفاق الصينى الأمريكى للتجارة لعلاقات تجارية بين الدول، تقوم على التوازن وتبادل المصلحة، على عكس ما كان يحدث فى السابق، حيث كان نظام فض النزاعات منحازًا لبعض الدول، مما أحدث خللاً كبيرًا استفادت منه بعض الاقتصادات بما مكّنها من إغراق الأسواق العالمية بسلعها. يعتبر هذا الاتفاق نجاحًا ساحقًا للرئيس الأمريكى دونالد ترامب، ضد منظمة التجارة العالمية، حيث هدد ترامب المنظمة مرارًا بالانسحاب منها فى حال لم تتحسن قواعد المنظمة، وبحسب الرئيس الأمريكى، فقد كانت الولاياتالمتحدة تخسر تقريبًا كل الدعاوى التى رفعتها فى منظمة التجارة العالمية قبل وصوله إلى السلطة، لكنها الآن تكسب تقريبًا كل الدعاوى.
الاتفاقيات السابقة كان عجز الميزان التجارى للولايات المتحدة، قبل قدوم دونالد ترامب، يصل لنحو 800 مليار دولار سنويًا، ومعظم هذا العجز لصالح كل من: الصينواليابان والاتحاد الأوروبى وكندا، وبفضل تعديل اتفاقيات التجارة التى عقدتها الولاياتالمتحدة مع كل من اليابان وكندا والمكسيك والرسوم التى فرضتها على البضائع الصينية، تراجع عجز الميزان التجارى الأمريكى فى نوفمبر الماضى لأدنى مستوى فى ثلاث سنوات وبأكثر من التوقعات، وذلك وسط ارتفاع الصادرات وتراجع الواردات، وأظهرت بيانات حكومية أمريكية أن عجز الميزان التجارى الأمريكى تراجع بنسبة 8.2 % إلى 43.1 مليار دولار فى نوفمبر، مقارنة بتوقعات انخفاضه عند 43.6 مليار دولار. وفى أكتوبر الماضى وقعت الولاياتالمتحدة، اتفاقية تجارة جديدة مع اليابان تسمح بزيادة الصادرات الزراعية الأمريكية لليابان، ومنع فرض رسوم جمركية على السيارات اليابانية، كما وقّعت الولاياتالمتحدة فى نوفمبر الماضى، اتفاقية تجارة جديدة بديلاً عن اتفاقية نافتا، مع المكسيك وكندا، وهى الاتفاقية الأكبر حيث تصل قيمتها إلى 1.3 تريليون دولار، وتضمن الاتفاقية منافسة عادلة بين البلدان الثلاثة على مستوى التبادل التجارى. فيما لا تزال المفاوضات التجارية بين واشنطن وبروكسل متعثرة، بسبب فرض الولاياتالمتحدة رسومًا جمركية على بعض الواردات من الاتحاد وتهديدها بفرض مزيد من الرسوم على منتجات أخرى خاصة بعد صدور تقرير من منظمة التجارة العالمية يتهم أوروبا بدعم صناعة الطائرات مما الحق الضرر بقطاع صناعة الطائرات الأمريكى.
الدولار الضعيف ترتبط سياسة ترامب بتعديل اتفاقيات التجارة الدولية، بشكل وثيق مع رؤيته بشأن ضرورة خفض قيمة الدولار الأمريكى لتشجيع الصادرات الأمريكية، لإحداث التوازن مع الشركاء التجاريين، ورغم الانخفاض الملحوظ الذى شهده الدولار أمام سلة العملات العالمية خلال الفترة الماضية يؤكد مصرف Bank of America، أن هذا ليس الحد النهائى، لأن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، قد يقرر تخفيض قيمة العملة الأمريكية. وحذر هذا المصرف، الذى يعتبر أحد أكبر المؤسسات المالية فى البلاد، المستثمرين من نية السلطات الأمريكية تعويم الدولار، حيث سيتخذ ترامب هذا القرار، تحت شعار نشر الاستقرار فى الاقتصاد. ووفقًا لتوقعات صندوق النقد الدولى، فسينخفض معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى فى الولاياتالمتحدة خلال العامين المقبلين. ويرى الخبراء احتمال حدوث ركود بحلول عام 2021، بسبب وجود دين حكومى ضخم، يتجاوز 22 تريليون دولار، وعجز فى الميزانية بقيمة تريليون دولار، ناتج عن زيادة حادة فى تكاليف خدمة هذا الدين. ويشير الخبراء إلى أن ترامب تخلى علنا وبشكل صريح، عن سياسة «الدولار القوى»، التى تمسك بها أسلافه فى الحكم، حيث يعتقد أن «الدولار القوى»، يعيق تصدير البضائع والخدمات الأمريكية.
القواعد القديمة وتبرز أهمية هذا الاتفاق أيضًا على مستوى الأدوات الاستثمارية المعهودة، حيث من المنتظر أن يحدث تغيرات واسعة بالنسبة لسياسة الاستثمار فى مجالات كالذهب والدولار والبترول والعقارات وأسواق الأسهم، وتؤكد جميع المؤشرات أن الأسهم العالمية ستكون أكبر المستفيدين من توقيع اتفاقيات التجارة الجديدة، وانتهاء الحرب التجارية نظرًا للتداخل الكبير بين أسواق الأسهم العالمية، كما أن نمو الاقتصاد الأمريكى يعد دافعًا كبيرًا لسوق الأسهم كون وول ستريت هى السوق التى تسير كل الأسواق وراءها. وبعكس أسواق الأسهم فمن المتوقع أن يفقد الذهب بريقه كملاذ أمن، بعد الاتفاق الصينى الأمريكى بعد أن ارتفعت أسعاره خلال الفترة الماضية نتيجة الضبابية السياسية، وبالفعل تراجعت أسعار الذهب العالمية قبل توقيع الاتفاق وبعده مع صعود الأسهم الآسيوية لأعلى مستوى فى 19 شهرًا الأسبوع الماضى نتيجة توقيع هذا الاتفاق. لذلك فمن المتوقع أن تتراجع أسعار الذهب خلال الفترة المقبلة، طالما انحسرت المخاوف بشأن الحرب الأمريكية الإيرانية، وعدم اتخاذ الولاياتالمتحدة أي خطوات تصعيدية فى مفاوضاتها التجارية مع الاتحاد الأوروبى. أما بالنسبة للاستثمار فى البترول، فمن المتوقع أن يؤدى هذا الاتفاق إلى استقرار أسعار البترول العالمية، خاصة بعد أن أصبحت الولاياتالمتحدة أكبر منتج للبترول فى العالم بعد أن كانت ضمن أكبر مستورد للخام فى العالم .
المؤسسات المالية تداعيات وضع نهاية للحرب التجارية لن تتوقف عند تغيير قواعد منظمة التجارة العالمية، فحسب، بل بالتأكيد ستمتد لباقى المؤسسات الاقتصادية التابعة لمنظمة الأممالمتحدة كصندوق النقد والبنك الدوليين. ووفقًا لتقرير نشر بصحيفة «فايننشال تايمز» تشير الملاحظات التى أبداها مؤخرًا عدد من المسئولين فى صندوق النقد الدولى إلى أن الصندوق قد يخفض من الاعتماد على روشتته المعهودة المستندة إلى الأفكار النيوليبرالية باعتبارها صالحة لجميع الاقتصادات النامية التى تعانى من صعوبات وتلجأ لتوقيع اتفاق مع الصندوق لمعالجة الاختلالات الاقتصادية التى تمر بها. وبحسب التقرير، فإن هناك الآن اعترافًا داخل صندوق النقد الدولى بأن تحرير تدفقات رأس المال لها آثار سيئة، وأن هناك إضافة إلى ذلك فى الوقت الراهن مخاوف من أن تدفقات رأس المال إلى الاقتصادات الناشئة قد تعرضها لخطر انتشار عدوى التضخم المنخفض فى البلدان المتقدمة. ويطالب البرنامج المعيارى لصندوق النقد عادة بعشرة إصلاحات، هى: الانضباط المالى بإزالة الدعم من الموازنة العامة للدولة، وتغيير أولويات الإنفاق العام بالانسحاب من الدعم إلى زيادة الإنفاق على الصحة والتعليم، والإصلاح الضريبى من خلال توسيع القاعدة الضريبية وخفض مستويات الضريبة، والعمل على وجود أسعار فائدة موجبة، وذلك عبر آليات السوق، وضرورة توافر أسعار صرف توازنية يتم تحديدها فى السوق الحرة، بحيث تضمن التنافسية، وتحرير التجارة وانفتاح الاقتصاد، وتحرير تدفقات رأس المال، وعدم فرض أية قيود أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وخصخصة الشركات العامة، وتحرير الأنشطة الاقتصادية من القيود والضوابط التنظيمية الحكومية، وتقديم ضمانات قوية لحقوق الملكية. ويعود فرض هذه الروشتة، نتيجة التعنت الأمريكى المستند للقوة التصويتية لأمريكا داخل الصندوق، لكون الولاياتالمتحدة تمتلك حق الفيتو فى قرارات الصندوق، نتيجة تأجيل أى تغييرات على هيكل المساهمين فى الصندوق إلى أواخر عام 2023. ورفضت الولاياتالمتحدة، إدخال أية تغييرات على حصص المساهمين فى الصندوق العام الماضى، وهو ما حال دون إحداث تغيير فى سياسة الصندوق، لكن من المتوقع أن تضطر الولاياتالمتحدة للتنازل عن جزء من حصتها من أجل توزيع أكثر اتساقًا مع الوزن الاقتصادى للدول؛ هذا التوزيع يهددها بأن تفقد مكانتها داخل الصندوق، وتعد الصين هى أكبر المطالبين بتنظيم هيكل المساهمين فى الصندوق، لتستفيد من الوزن الكبير لحجم اقتصادها فى التأثير على سياسة الصندوق. لاشك أن الدول النامية من الممكن أن تستفيد من تغيير القواعد والشروط الخاصة بمنظمة التجارة العالمية والتى كانت بمثابة قوانين للفوضى الاقتصادية العالمية، فقد بدأ الآن عالم آخر قائم على التوازن التجارى بين الدول، بحيث يطبق مبدأ المنفعة المتبادلة دون أن يغول اقتصاد على آخر، ولعل ما يحدث فى مصر خلال الفترة الأخيرة من سياسة تهدف لخفض الاستيراد وتشجيع الصناعة المصرية وزيادة التعريفات الجمركية على بعض السلع تؤكد أن مصر تدرك ما يجرى حولها فى العالم وأنها تتحرك فى الاتجاه الصحيح، وبخطوات ثابتة.