تجاوز الأمر كونه كليشيه يتشدق به البعض عن «نظريات المؤامرة»، سواء بالاتفاق أو الرفض، لكونه أمرًا واقعًا واستراتيجيات حرب تواكب سرعة التطور، فى هذه الحالة يكون التصور بأن الحرب انتهت، هو الخدعة، العالم كله يمارس لعبة «عض الأصابع» من يصرخ أولًا لا يستسلم فقط بل يترك يديه فريسة بين فكى المنتصر. فى كتاب «حروب الجيل الخامس..أساليب التفجير من الداخل على الساحة الدولية» للدكتور شادى عبدالوهاب منصور، الصادر مؤخرًا عن دار العربى للنشر، بالتعاون مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، يحاول الباحث رصد ملامح الجيل الجديد من الحروب من خلال دراسة التحول فى طبيعة الصراعات، وتحليل دوافعها فى ظل التطور التكنولوجى والمعرفى، وفى نفس الوقت يحدد الأساليب التى يمكن من خلالها مهاجمة تلك الحروب الهجينة. قبل الحديث عن حروب الجيل الخامس، علينا أولًا أن نرصد المتغيرات والتحولات التى طرأت على أساليب الحرب، لمعرفة الاختلاف بشكل أوضح بين الحرب فى جيلها الأول وصولًا لوقتنا الحاضر. على مر الأجيال تطورت الحروب بناءً على تطور المجتمعات والوسائل المستخدمة، وهو ما أدى بدوره لتغير واضح فى العلاقات الدولية، إذ اختلفت الدول فى إدارة حروبها وتوظيف قدراتها العسكرية. على سبيل المثال كانت حروب الجيل الأول تعتمد على البنادق والأسلحة البدائية، لتكون صورتها النهائية مواجهة بين جيشين على أرض متنازع عليها، باستراتيجيات حربية تقليدية، فيها رقعة الشطرنج واضحة للطرفين يحرك كل جنرال جنوده لتكون الغلبة للأقوى والأكثر عتادًا، وامتدت تلك الحروب من القرن ال17 وحتى ال19. تغير ذلك كله مع بداية الحرب العالمية الأولى وظهور معدات عسكرية أكثر تطورًا، من طائرات مقاتلة ومدفعيات ثقيلة، ولم يعد هناك ميعاد محدد للحروب، إذ يقوم الجيش الأكثر تطورًا بشن ضربات استباقية لإحداث خسائر لدى خصمه، ودخلت الحروب فى جيلها الثانى معتمدة على القوة الاقتصادية التى أحدثتها الثورة الصناعية بدول أوربا وضخ استثمارات كبيرة فى شراء الأسلحة وتدعيم الجيوش. أما الجيل الثالث للحروب اعتمد بشكل كبير على التطور التكنولوجى للقوى العسكرية، خاصة مع ظهور الدبابات ونظم الاتصالات الحديثة، والتى أحدث طفرة فى الاستراتيجيات والخطط العسكرية، وأصبح من الممكن القيام بمناورات عسكرية، يكون العدو واضحا ومعروفا وأرض المعركة متفقا عليها من الخصمين، لكن الحرب صارت تعتمد على عنصر المفاجأة وعرف ذلك الجيل من الحروب ب «الحرب المتحركة»، وبذلك فتحت حروب الجيل الثالث الطريق أمام استراتيجيات تحطيم العدو (نفسيًا) من الداخل. انتقلت بعد ذلك الحروب إلى مرحلة مختلفة، تكون فيها أرض المعركة وتوقيتها مجهولين، وذلك فى حروب الجيل الرابع التى اعتمدت على أسلوب حرب العصابات والميليشات الإرهابية، لتنتشر على طريقة الورم السرطانى فى الدول، وبذلك انتقلت الحرب من كونها تاثيرًا خارجيًا إلى ما يشبه القنبلة التى يمكن تفجيرها عن بُعد، دون الحاجة إلى أرض أو موعد التقاء جيشين متصارعين. مع كل هذه التطورات لم تتغير أهداف الحروب فى الغزو ولكن اختلفت الوسائل فقط، إذ تصبح الدول والمجتمعات مدفوعة لمواكبة التطور، ليكون «استمرار السياسة ولكن بأدوات أخرى» هو التعريف الجديد للحرب لإجبار الخصم على الانصياع وفرض السلام بما يتوافق مع مصالح الطرف المنتصر. لذلك كان الطريق ممهدًا أمام حروب الجيل الخامس أو الإصدار الخامس من حروب الجيل الرابع كما يصفه كثير من الباحثين، ويعتمد هذا الجيل على وسائل متعددة ومختلفة مكونة هجينًا بين عدة مجالات عسكرية واقتصادية ومعلوماتية، تشارك فيها الدول المتصارعة ولكن «بأيدٍ نظيفة»، باستخدام نمطى الحرب (التقليدى وغير التقليدي) لتوظيف التحالفات والميليشيات المسلحة فى حربهم ب»الوكالة» وتحقيق المفاجأة للخصم مع تجنب المسئولية السياسية المباشرة. ويسمى ذلك الجيل الجديد من الحروب ب«حروب الشبكات والطائرات»، إذ تعتمد على المعلومات بشكل أساسى لتوفير الصورة الكاملة عن المعدات والمواد اللازمة لدعم الميليشيات وتجنيد متطوعين جدد، فيما تكون الطائرات هى الوسيلة الأرخص والأسهل فى تهريب الأسلحة. الهدف الأهم لتلك الحرب هو «اتباع استراتيجيات لتغيير الأمر الواقع دون اللجوء إلى خيار الحرب»، وتعد «المناطق الرمادية» أحد تلك الاستراتيجيات التى تتسم بالغموض حول طبيعة الصراع والأطراف المنخرطة فيه من الأساس، لتكسر الثنائية التقليدية (العدو– الصديق)، مما يجعل وسائل الإعلام ومعامل الأبحاث والمشاكل الاقتصادية وحتى الخلافات الدينية ساحات ذلك الجيل من الحروب، وتنتقل فيها أرض المعركة إلى الفضاء الإلكترونى. فى إطار معارك الجيل الخامس لا حاجة لتحقيق نصر عسكرى، فالعمل يتم تدريجيا لهزيمة الخصم وتدمير الدولة فى فترة زمنية طالت أو قصرت، وتتماهى الحدود الفاصلة بين ما يعد أرضًا للقتال وبين المناطق المدنية، وبين كيان الدولة والميليشيات الإرهابية. الأمر يشبه لعبة إسقاط أوراق الدومينو تدريجيا، كل ما عليك إسقاط الورقة الأولى فقط ثم الاستمتاع بمشاهدة سقوط البقية، فأحد استراتيجيات الحرب يسمى «الردع غير المباشر» تتم من خلال الضغط على دولة معينة والتى بدورها تمارس الضغط على أخرى (تستهدفها من البداية). وهو ما يجسده بصورة واضحة الضغوط الأمريكية على الصين، لينتقل الضغط بشكل غير مباشر إلى كوريا الشمالية، لما تتمتع به «بكين» من نفوذ اقتصادى كبير على «بيونج يانج»، فى الوقت الذى لاتمتلك فيه أمريكا أوراق الضغط الكافية، وهكذا تسلك الحروب الهجينة كل الطرق لتفرض فى النهاية سياسة الأمر الواقع، لذلك فإن التيمة الرئيسية لحروب الجيل الخامس هى اعتمادها على فعالية وسائل الإعلام وقلة تكلفتها مقارنة بالحروب العسكرية، لاحتلال العقول تمهيدًا لدخول الدول. وتبقى الحرب المعلوماتية من الملامح الرئيسية فى حروب الجيل الخامس، وتعد استراتيجية مزدوجة الهدف، فتركز على تعطيل وتدمير النظم المعلوماتية التابعة للخصوم وتحدث فى الوقت ذاته تأثيرًا على مدركات الخصم من خلال التلاعب بالمعلومات وبث الشائعات، بهذه الطريقة يصبح استعمار العقول هو الهدف دون تدخل عسكرى. قد يتساءل البعض عن الجديد فى حروب معلومات الجيل الخامس خاصة أن ملامحها بدأت فى التشكل منذ الجيل الرابع، لكن تكتسب حروب المعلومات فى جيلها الخامس بعدًا جديدًا يتمثل فى الاعتماد عليها بشكل أكبر لخلق منطقة رمادية بين السلم والحرب، ويفقد العالم الحاجة لإعلان الحرب من الأساس، فالسلم (الوهمى) خدعة جديدة من خدع الحرب. وفى الوقت الذى أصبحت فيه مواقع التواصل الاجتماعى مصدرًا للحصول عل المعلومات بالنسبة للكثيرين يكون التلاعب بالمعلومات أكثر سهولة وأوسع تأثيرًا، باستراتيجية مُعدة جيدًا لنشر الأكاذيب تسمى «سياسات ما بعد الحقيقة»، تهدف لنشر معلومات مغلوطة بشكل لا ينكره عقل، لكن المشاعر تكون هى الغاية من نشر تلك المعلومات، فهى رغم سذاجتها تستغل تحيزات الأفراد، وتغذى قناعاتهم الموجودة مسبقًا لتصبح الأكثر انتشارًا، كما تكتسب تلك الأخبار المفبركة مصداقيتها الوهمية إذا ما حظيت بتغطية إعلامية من قبل الصحف والمجلات خاصة لتكسب صدى أوسع. على الجانب الآخر تستغل الجماعات الإرهابية حروب المعلومات لتمرير ونشر أفكارها، إذ تكون زُرقة مواقع التواصل الاجتماعى بالنسبة لهم «مياه عكره» صالحة لاصطياد وتجنيد انتحاريين جدد. يرصد الباحث فى الكتاب أهم السياسات التى يمكن اتباعها لمواجهة التهديدات التى يفرضها ذلك الجيل الجديد من الحروب، ومنها ضرورة أن تحرص على تنوع التدابير الأمنية بين انتشار القوات على أرض الواقع ونشر الوعى، إضافة لتكوين تحالفات واسعة مع الدول لتصبح المصالح المشتركة حائط صد فى مواجهة اى هجوم من أى نوع. وذلك بالتوازى مع التزام بسياسة داخلية رشيدة، بالدخول فى شراكات مع المجتمع وإقامة حوار فعال مع القوى الفاعلة فيه، لتطوير استراتيجيات تهدف للتركيز على التحديات والتهديدات التى تواجه المجتمع يصبح فيها المواطن شريكًا رئيسيًا وفاعلًا. المواجهة تحتاج لتنمية شاملة بالمجتمعات المستهدفة، وتوجيه الاهتمام الكافى بالمناطق المهمشة لرفع مستوى الوعى الشامل، حتى لاتتحول لنقطة ضعف، وتصبح هدفًا يتم استغلاله من قبل أى قوة خارجية لإثارة عدم استقرار الدولة من الداخل، وبالتالى فإن الجهل يعد ورقة رابحة فى يد أى مستغلٍ أو دخيل. لا شك أن الأمر يحتاج إلى زيادة قدرة الدولة من الناحية العسكرية لتواكب التطورات التكنولوجية والتقنيات المتصلة بالحروب السيبرانية (الهجوم الإلكتروني) وأسلحة التشغيل الذاتي، وتطوير أدواتها فى الرصد والتنبؤ بالتهديدات الأمنية، وسط هذا الجيل الجديد من الحروب، فالأمر يشبه السير وسط دوى الرصاص فقط عليك الانتباه والحذر.