كلما تطرقنا إلى حكايات المسنين والتفتنا إلى عالمهم الشاحب، واستمعنا إلى حكاياتهم المؤلمة، عرفنا المأساة منذ بدايتها، وأدركنا كم هى عسيرة حياتهم، وسط هذه العتمة تسللت أضواء خافتة منحتهم الأمل وأعادت لهم الحياة، ربما فى رعاية يتلقونها ممن حولهم، وربما فى تلك الغرف المتلاصقة التى وجدوا فيها أصدقاء أوفياء يشاركونهم الحياة. نتوقف هنا برهة ونحول النظر صوب عالم آخر موازٍ تقطنه فئة أخرى من المسنين، لم تمنحها الحياة أى شىء، فلا رعاية ولا أبناء ولا أصدقاء، قابعون فى غرفهم آناء الليل وأطراف النهار، أيامهم متشابهة وحياتهم مملة، ولا يطمحون فى شىء سوى الرعاية والونس. «روزاليوسف» التقت مجموعة من هؤلاء المسنين، الذين عاشوا الحياة بمفردهم بعدما أدركتهم الشيخوخة، لنعرف كيف يقضون أيامهم؟، وكيف يحصلون على قوت يومهم؟، أين يذهبون حينما يشعرون بالملل؟، وإلى من يبثون ضيقهم وحزنهم؟ زينب: «عندى 8 عيال زى قلتهم» كانت الحياة هادئة مستقرة، الأب يعمل بمهنة الجزارة، يقضى وقته فى المدبح وفى نهاية اليوم يترك بطاقته الضريبية ثم يعود إلى المنزل، حتى ألقى القبض عليه ذات يوم، بعدما اكتشف أن بعض عمال المدبح يأخذون بطاقته ويذبحون لحسابه دون أن يعلم، قضى عامين فى السجن وباعت الأسرة كل ما تملك حتى أثاث المنزل، وانقلبت الحياة رأساً على عقب، مات الأب عقب خروجه من السجن بأشهر قلائل وبقت الأم برفقة ال 8 أبناء تواجه الحياة وحدها. تقطن «زينب إبراهيم» بمنطقة «الجيارة» بمصر القديمة، اتجهت إلى العمل فى المنازل بعد رحيل زوجها، كانت تطمح إلى رؤية ابنتيها فى عش الزوجية، وتحقق الحلم، لكنه ترك لها حملاً ثقيلاً لايزال يرافقها حتى اليوم: «تزوج أبنائى الصبيان الستة قبل أن يتوفى والدهم، وتبقى الإناث، ولكن عملى لم يكن كافيًا فلجأت إلى الاقتراض وتراكمت على الأموال وأصبحت غارقة فى بحر الديون، فكنت أسدد الدين بمثله، وصرت مدينة للدلالة والبنك ب 70 ألف جنيه». عشرون عامًا مرت الآن على وفاة الزوج ومازالت الديون تحاصر المرأة الستينية، حيث تدفع 1000 جنيه كل 15 يومًا للبنك، وتمنح «الدلالة» 500 جنيه كل أسبوع، أصبحت بمفردها تقضى أيامها بين العمل والجلوس فى المنزل، وانشغل الأبناء فى حياتهم ولم يتبق لها أحد: «إيجار المنزل الذى أقطن فيه 300 جنيه، ويتألف من غرفتين فقط، ولأن صاحب المنزل يعرف ظروفى لا يطلب منى الإيجار، فقد كبر على يدى وربيته منذ طفولته، طمرت فيه العشرة أكثر من أبنائى وصان العيش والملح». خمسون جنيهًا هى الأجر اليومى الذى تتحصل عليه «زينب» من عملها، أما العلاج فتأخذه بقرار على نفقة الدولة: «حينما يطلبنى أحد لتنظيف شقته أو مسح السلالم أذهب، وحينما لا يكون هناك عمل أبقى وحدى فى المنزل، لم أتوقع أن تكون حياتى هكذا أبدًا، وأتمنى لو لم يكن زوجى جزاراً فمهنته هى السبب فيما وصلت إليه اليوم». «سعدية» حُرمت من الإنجاب.. و«ناصية الحارة» مصدر سعادتها شباك مفتوح على مصراعيه طوال النهار، تطل منه بوجهها الأسمر على الحارة، تراقب الأطفال وهم يلعبون، حُرمت من الإنجاب، لكن علاقتها بهم كانت متوترة، لقد كان مزاحهم ثقيلاً على قلبها فهى لا تحب أن يستخف بها أحد، تعيش فى غرفة صغيرة بالطابق الأرضى، تتألف من سرير ومذياع قديم يصدر منه صوت القرآن الكريم، تمضى أيامها متشابهة ثقيلة الظل، وحين يدركها الملل تلوذ إلى «ناصية الحارة» لاستنشاق الهواء. هبطت «سعدية حسن على» من بنى سويف إلى القاهرة برفقة زوجها الذى يعمل مبيض محارة، كانت الزوجة الثانية له، لكنها أحبته كثيراً وتعلقت به، تمنت أن تُرزق منه بطفل، لكنها أدركت أنها لن تُنجب بعدما سقط حملها 9 مرات متتالية: «كان طيب القلب وأحبنى كثيراً، صارت حياتى بلا معنى بعد موته، أصبحت وحيدة حتى أهلى رحلوا وتركونى بمفردى، أستيقظ من نومى أتناول قرص الطعمية والفول، وإذا كنت بصحة جيدة أقوم بعمل كوب شاى». عشرون عامًا مضت ولا جديد فى حياة المرأة السبعينية سوى أن معاناتها تتضاعف وحالتها الصحية تزداد سوءًا، تذهب كل شهر إلى مستشفى قصر العينى لقضاء 15 يومًا تحت الملاحظة حيث تعانى من حساسية مزمنة تسبب لها ضيقًا فى التنفس: «لقد حصلت على جهاز تنفس من المستشفى ومضيت على تعهد مقابل ذلك». تحصل «سعدية» على معاش 300 جنيه، وتدفع 75 جنيهًا إيجاراً للغرفة: «أتحرك بصعوبة ورغم قرب محطة المترو من سكنى أركب توك توك لأننى لا أقدر على السير وليس لى أحد يسندنى، وحينما أشعر بالضيق أخرج إلى الحارة وأجلس بمفردى، هكذا تمضى حياتى، لا أحد يرعانى ولا يسأل عنى، أتحمل مسئولية حياتى وأتمنى من الله حسن الخاتمة». «اللوحة» و«العكاز» منحا «اعتماد» لقب الأم المثالية عالمها مبهج، زينته بالألوان، فجعلت من فناء المنزل صالة كبيرة احتوت الأريكة والتلفاز، وضمت إليهما المنضدة التى تتناول عليها الطعام، وتركت الغرفة للنوم، أما الجدران فنُقشت بالورد الأحمر الذى أضفى حياة أخرى للمكان، تضع «العكاز» إلى جوارها وتتأمل لوحة زوجها الخشبية، التى رسمها ابنها الأكبر منذ سنوات، فتتناسى وحدتها وتعود لذكريات الماضى التى مازالت عالقة فى قلبها. أنجبت «اعتماد على عبد العال» 6 أبناء تزوجوا وتركوها بمفردها، كما فقدت زوجها منذ 30 عامًا: «اتجهت للعمل بعد وفاة زوجى، واقترضت مبلغ 2000 جنيه من صديقتى وسافرت إلى بورسعيد وقمت بشراء الملابس من هناك وعدت إلى القاهرة لبيعها، ومن مكسبى ربيت أبنائى وبقيت إلى جوارهم حتى أنهوا مرحلة الجامعة، بناتى ال4 تخرجن فى جامعة الأزهر، والصبيان يعملون فى النجارة والكهرباء، وبعد ذلك تفرغت إلى تجهيزهم للزواج، وبعد أن تزوجوا تركت العمل». ورغم كبر سنها ومرضها تُفضل أن تطهى الطعام وتنظف غرفتها بمفردها، تبدأ يومها فى ال 8 صباحًا، تتناول كوبًا من اللبن ثم تأكل الجبن أو الفول والطعمية حسبما تشتهى، ثم تجلس أمام التلفاز تستمع إلى القرآن الكريم أو بعض الدروس الدينية، وتعاود الدخول للمطبخ لغسيل الصحون وتحضير الغداء: «لدى بامية منذ 4 أيام وأتناول منها كل يوم، لقد تعودت أن أطبخ الطعام بمفردى وأتناول منه حتى يفنى». لديها 72 عامًا ورغم ذلك مقبلة على الحياة، تبتسم دائمًا، ومحبة للمزاح، ربما كان ذلك سببًا فى تعلق إحدى قطط الشارع بها، فصارت رفيقتها أينما تذهب وأطلقت عليها اسم «بسبسة»، أصيبت «اعتماد» بجلطة فى المخ، وتليف على الكبد وتأخذ علاجها على نفقة الدولة فى مستشفى «أحمد ماهر»: «أقضى يومى فى المنزل أو أذهب عند صديقتى أم محسن نتسامر سويًا ونفضفض ونشكو همومنا، ثم أعود للمنزل وأخلد إلى نومى فى ال 12 صباحًا»، تتلخص أحلام المرأة السبعينية فى «غسالة» للملابس وزيارة الكعبة: «لم يعد لدى المال أو الصحة وكل ما أتمناه هو دخول الجنة». «هاجر»: نفسى أعيش فى مكان نضيف تعيش فى غرفة صغيرة فى الطابق الأرضى من 47 عامًا، لم تعرف الشمس طريقًا لها، وربما ذلك السبب الأقرب لإصابتها بسرطان الثدى والضغط والسكر والقلب، كما أن وزنها الزائد زاد الأمور تعقيداً، وجعلها تواجه صعوبة فى الحركة. أنهت «هاجر يوسف» علاجها الكيماوى بعد استئصال جزء من ثديها والغدة النكافية، وصارت تتردد على المعهد القومى للأورام كل 3 أشهر: «لدىّ 65 عامًا وأعيش وحدى بعد وفاة زوجى وزواج أبنائى، معاشى 320 جنيهًا، كما أننى لا أقدر على ركوب العربة التى يوفرها لى المعهد بسبب وزنى فأضطر إلى ركوب عربة مخصوص ب 200 جنيه، كما أن أهل الخير يساعدوننى. تؤكد «هاجر» أنها قدمت على وحدة سكنية بمنطقة عابدين وحصلت على موافقة فى عام 2005، بعدما جاء أحد الموظفين وأجرى لها البحث وتم تصنيفها ضمن الحالات القاسية التى لابد أن تتسلم الوحدة السكنية سريعًا: «مازلت محتفظة بالورقة وكل شهر يذهب أحد جيرانى فيقولون له الشهر المقبل، وقد نبهنى الطبيب أكثر من مرة إلى ضرورة تغيير سكنى لأنه غير صحى وسبب فى إصابتى بأمراض كثيرة، وهناك كثيرون استلموا وحداتهم السكنية وأجروها وأنا لم أتسلم حتى الآن».