النزاهة أولًا.. الرئيس يرسخ الثقة فى البرلمان الجديد    بعد انسحاب الدالي، شرط وحيد يمنح هشام بدوي أول مقعد في جولة الإعادة بانتخابات النواب بالجيزة    جبران: مصر تؤكد التزامها بتعزيز بيئة العمل وتبادل الخبرات مع دول الخليج    أسعار الخضراوات والفاكهة اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    6 مليارات دولار استثمارات في مصر أبرزها، 10 معلومات عن العلاقات الاقتصادية المصرية الكورية    أسعار الخضروات اليوم الخميس 20 نوفمبر في سوق العبور    ارتفاع أسعار النفط وسط ترقب إنهاء مهلة أمريكية التعامل مع شركتين روسيتين    لمدة 5 ساعات.. فصل التيار الكهربائي عن 17 قرية وتوابعها بكفر الشيخ اليوم    مسئول أمني: المنظمات الإرهابية في الشرق الأوسط تكثف نقل مقاتليها إلى أفغانستان    استشهاد 3 فلسطينيين بقصف إسرائيلى على منزل جنوبى قطاع غزة    موعد انضمام كريستيانو رونالدو لتدريبات النصر السعودي    مواجهات قوية في دوري المحترفين المصري اليوم الخميس    الاستعلام عن الحالة الصحية لعامل سقط من علو بموقع تحت الإنشاء بالتجمع    تجديد حبس عاطل بتهمة الشروع في قتل زوجته بالقطامية    موظفة تتهم زميلتها باختطافها فى الجيزة والتحريات تفجر مفاجأة    شبورة كثيفة وانعدام الرؤية أمام حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    حالة الطقس في الكويت اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    عرض 6 أفلام قصيرة ضمن "البانوراما المصرية" بالقاهرة السينمائي اليوم    هولندا: ندعم محاسبة مرتكبى الانتهاكات في السودان وإدراجهم بلائحة العقوبات    الصحة بقنا تشدد الرقابة.. جولة ليلية تُفاجئ وحدة مدينة العمال    وزير الصحة يتابع توافر الأدوية والمستلزمات الطبية في جميع التخصصات    مستشفى 15 مايو التخصصي ينظم ورشة تدريبية فى جراحة الأوعية الدموية    اليوم.. محاكمة المتهمة بتشويه وجه عروس طليقها فى مصر القديمة    سيد إسماعيل ضيف الله: «شغف» تعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 20 نوفمبر 2025    براتب 9000 جنيه.. العمل تعلن عن 300 وظيفة مراقب أمن    شوقي حامد يكتب: الزمالك يعاني    دعاء الفجر| اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله    زكريا أبوحرام يكتب: هل يمكن التطوير بلجنة؟    انتهاء الدعاية واستعدادات مكثفة بالمحافظات.. معركة نارية في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    سفير فلسطين: الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية ثابت ولا يتغير    مستشار ترامب للشئون الأفريقية: أمريكا ملتزمة بإنهاء الصراع في السودان    أضرار التدخين على الأطفال وتأثيره الخطير على صحتهم ونموهم    مكايدة في صلاح أم محبة لزميله، تعليق مثير من مبابي عن "ملك إفريقيا" بعد فوز أشرف حكيمي    محمد أبو الغار: عرض «آخر المعجزات» في مهرجان القاهرة معجزة بعد منعه العام الماضي    يحيى أبو الفتوح: منافسة بين المؤسسات للاستفادة من الذكاء الاصطناعي    أفضل طريقة لعمل العدس الساخن في فصل الشتاء    هند الضاوي: إسرائيل تكثف تدريباتها العسكرية خوفًا من هجمات «داعش»    وردة «داليا».. همسة صامتة في يوم ميلادي    مروة شتلة تحذر: حرمان الأطفال لاتخاذ قرارات مبكرة يضر شخصيتهم    موسكو تبدي استعدادًا لاستئناف مفاوضات خفض الأسلحة النووي    إطلاق برامج تدريبية متخصصة لقضاة المحكمة الكنسية اللوثرية بالتعاون مع المعهد القضائي الفلسطيني    المطربة بوسي أمام المحكمة 3 ديسمبر في قضية الشيكات    ضبط صانعة محتوى بتهمة نشر مقاطع فيديو خادشة للحياء ببولاق الدكرور    إعلام سوري: اشتباكات الرقة إثر هجوم لقوات سوريا الديمقراطية على مواقع الجيش    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    "مفتاح" لا يقدر بثمن، مفاجآت بشأن هدية ترامب لكريستيانو رونالدو (صور)    خالد الغندور: أفشة ينتظر تحديد مستقبله مع الأهلي    دوري أبطال أفريقيا.. بعثة ريفرز النيجيري تصل القاهرة لمواجهة بيراميدز| صور    تقرير: بسبب مدربه الجديد.. برشلونة يفكر في قطع إعارة فاتي    ضمن مبادرة"صَحِّح مفاهيمك".. أوقاف الفيوم تنظم قوافل دعوية حول حُسن الجوار    لربات البيوت.. يجب ارتداء جوانتى أثناء غسل الصحون لتجنب الفطريات    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    ماييلي: جائزة أفضل لاعب فخر لى ورسالة للشباب لمواصلة العمل الدؤوب    خالد الجندي: الكفر 3 أنواع.. وصاحب الجنتين وقع في الشرك رغم عناده    أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بريد الجمعة يكتبه : أحمد البرى
بنت الأصول !
نشر في الأهرام اليومي يوم 14 - 09 - 2014

أنا سيدة فى الحادية والخمسين من عمرى، نشأت فى حى شعبى بالقاهرة، لأب موظف بالسكة الحديد، وأم ربة منزل، وثلاثة أشقاء «ولدان وبنت»، وترتيبى الصغرى بينهم.
وأكسبتنى طبيعة حيّنا الشهامة والشجاعة، وتربيت على الفضيلة والأخلاق العالية، ورضيت دائما بأقل القليل فى كل شىء، وتولدت لدى قناعة بأن السعادة فى الرضا وراحة البال، وسبقت بتفكيرى مَن حولى، وكنت أستغرب كثيراً حديثهم المتكرر عن الغنى والثراء والعيشة المرتاحة، وكبرت وحصلت على الثانوية العامة، وألتحقت بكلية نظرية فى جامعة القاهرة العريقة، ووجدت ضالتى فى الخطابة وإلقاء الأشعار، وكتابة الخواطر عما يدور من أحداث سواء فى الجامعة أو الحياة العامة، وماأشاهده من مواقف، وصرت ضيفة دائمة على الندوات واللقاءات الفكرية والأدبية، وقد حبانى الله بجمال طبيعى يلفت الأنظار، لكنى لم أهتم به كما تفعل الكثيرات لجذب العرسان، ومع ذلك ظللت موضع إعجاب الزملاء والمعارف، وفى السنة الثالثة تقرب لى زميل بالفرقة نفسها التى أدرس بها، وطلب منى عنوان أسرتى لكى يتعرف علينا، فاستفسرت منه عما يريده من أهلى، فأجابنى بأن أباه يشغل وظيفة مهمة بجهة سيادية، ومن عائلة معروفة، ويسكنون بحى راق فى القاهرة، ويملك والده عمارة فى هذا الحى وليس له سوى شقيقة واحدة تصغره بعامين، وأنه يرغب فى الارتباط بى، وشجعه أبوه على طلب يدى بعد أن حدثه عنى كثيراً، فأفهمته أننى لا أفكر فى الزواج الآن، وإذا تزوجت فلن تكون هذه هى الطريقة التى أرتبط بها، وبصراحة فإننى لم أرتح إليه، منذ اللحظة التى لفت فيها نظرى إلى مسألة الزواج، فشخصيته لا تتناسب مع شخصيتى، وهيئته العامة تعطى انطباعاً للآخرين بأنه بلا شخصية، ولا يجيد الحديث وكلماته دائما مبعثرة، وبدا لى أنه يخفى عنى شيئاً ما، ولم يأبه بما قلته له، وتبعنى فى أثناء عودتى إلى المنزل، وعرف محل سكنى، وجاءنا بالفعل ذات يوم بصحبة أبيه فانبهرت أسرتى بعائلته الكبيرة، وثراء أبيه، ووظيفته المهمة، وبارك أبى وأمى وأخى الأكبر، ويعمل مهندساً، زواجى منه رغما عنى، وقالت أمى لى وقتها: «إن الحب يأتى بعد الزواج، وإن كل البنات يغيرن آراءهن بعد الارتباط، وقرءوا الفاتحة، ثم عقدوا قراننا فى حفل كبير، دفع والد زوجى كل تكاليفه، ووجدتنى فى مواجهة مستمرة مع أسرتى بسبب هذه الزيجة التى ساقونى إليها مرغمة، وفى السنة الدراسية الأخيرة عرف زملائى وزميلاتى بعقد قراننا، وانهالت علينا تعليقاتهم الساخرة، ودأبوا على المقارنة بينى وبينه فأنا طويلة وجميلة، وتبدو شخصيتى قوية وأتمتع بحضور طاغ، كما يصفوننى، أما هو فقصير وملامح شخصيته مغايرة تماماً لى، ومن ينظر إلينا يشعر بأن شيئاً ما خطأ فى هذه الزيجة فتجاهلتهم جميعاً، وحاولت إقامة جسر من التفاهم بيننا، وأوهمت نفسى إننى سأتعود عليه بمرور الأيام، وبعد أن تخرجنا فى الكلية كان كل شىء جاهزاً من مهر وشقة ومستلزمات الزواج، ووجدتنى داخل قفص الزوجية ليس فى إحدى شقق البرج السكنى الذى يملكه والده، وإنما فى شقة كانت أسرته تعيش فيها بالايجار، ولم يرغب أبوه فى تركها لصاحبها، لأن إيجارها الشهرى بضعة جنيهات، فى حين يصل الإيجار الحالى لمثيلاتها فى الحى المتميز إلى ثلاثة آلاف جنيه !
وبدأت حياتى الجديدة، ولم أذق طعم السعادة مثل كل البنات، ولم أطق تصرفات زوجى منذ اللحظة الأولى لإغلاق باب شقتنا علينا، وأصبت بخيبة أمل فى كل شىء، فحتى مصاريف البيت إعتمدنا على والده فى تدبيرها، فكنا نأخذ مصروفنا يوماً بيوم، وتبين لى أنه مصاب بالصرع. وتأتيه نوبات المرض فى أى وقت، فيرتمى على الأرض، وأظل أصرخ إلى جواره، وأتصل بذويه، فلا يأتينا أحد، وإنما يملى علىّ أبوه تعليمات لإفاقته، وإعطائه الدواء فى مواعيده، وجاءنى أبواى وشقيقى الأكبر ذات يوم بعد بكاء مرير لاستطلاع أحوالى، فقلت لهم : «هذه هى الزيجة التى تصورتم أننى سأكون سعيدة فيها بزواجى من ابن الحسب والنسب، وغرتكم المظاهر، وتجاهلتم مشاعرى وكيانى كإنسانة لها رؤيتها فيمن تتمناه زوجاً لها، وقد استجبت لرغبتكم إرضاء لكم، وهاآنذا أعانى الأمرين».. فحاولوا تهدئتى ورفضوا طلبى بخلع زوجى إذا لم يستجب لتطليقى، ووقفوا ضدى للمرة الثانية خوفا من «كلام الناس»، وأسمعونى خطبا عصماء بأنه لا يصح أن أترك إنساناً مريضاً، فبنات الأصول لا يتخلين عن أزواجهن أبداً، مع أن بداخلهم نفس الاحساس الذى أشعر به، ولم أجد مفراً من أن أعود إلى سجن زوجى، وتمكن والده من توفير فرصة عمل له فى احدى الوزارات بمرتب بسيط، إلى جانب مساعدة يقدمها له كل شهر، وكان علينا ان ندبر امورنا فى حدوده، وأصبحت أتسول من أسرتى ما يكفينى من مصروف، أما زوجى فكان يذهب الى عمله يوما ويغيب أياما، وتوالت عليه إنذارات الفصل، وتدخل والده كثيرا بشهادات مرضية لكى يستمر فى عمله، وظللنا نعيش على أعصابنا فى كل يوم يصر فيه على عدم الذهاب إلى العمل وبلا أسباب، ثم التحقت بوظيفة ادارية فى هيئة حكومية، ورزقنا الله بطفل، وكم أشفقت عليه من المصير المؤلم الذى يتهدده فى ظل هذه الحياة العصيبة، واوكلت امرى الى خالقى، وسارت حياتى من المنزل الى العمل، وبخلاف ذلك لم أغادره أبدا، ولم أشارك فى أى مناسبة لأن كل من يشاهدون زوجى يستغربون هذا الوضع، وينظرون الى فى طمع، لدرجة أن أحد معارفه أخذ يتردد علينا كثيرا، وذات يوم دعاه الى حفل فى مدينة ساحلية وأعطاه الدعوة، وتركه يذهب بمفرده، ثم فوجئت به يدق جرس الشقة، ولما فتحت الباب، وجدته أمامى، فسألته عما جاء به، وهو يعلم أن صديقه غير موجود بالمنزل، فقال لى: إنه جاء من أجلى، وإنه هو الذى رتب له الدعوة لكى يتمكن من الجلوس معى بمفردنا، فنهرته، وأغلقت الباب فى وجهه، وصارت لى منذ ذلك اليوم وقفة مشددة مع معارف زوجى، حيث طمعوا فىّ جميعا، ولم أسلم من نظراتهم، وايماءاتهم لى فى كل موقف أو لقاء، وزادت الضغوط العصبية علىّ، فكرهت الرجال، وصرت أخشى من مجرد حديث أى شخص معى، ولو من باب الزمالة فى العمل، وهكذا تكونت لدى عقدة نفسية لم أشف منها، أما زوجى فكان مندهشا دائما من موقفى، ولم يلق بالا لتوسلاتى بأن يغير طريقته فى التعامل مع الآخرين، وكثيرا ما قلت له إن من يدخلون شقتنا أو يتقربون منه إنما يريدوننى ويرغبون فىّ، فيسمع كلامى أحيانا، ويتجاهلنى معظم الوقت، ولم تكن هناك فائدة من أن أخبر أهلى أو أهله بما أتعرض له، لأننى اذا حدثتهم بهذا الأمر سوف «اشوشر» على نفسى، وربما تصوروا ما لم يحدث، وكتمت احزانى ومضت سنوات عديدة، وكبر ابنى ولاحظ حالة أبيه، وعراكنا المستمر، فأصيب بحالة اكتئاب، وصحبته الى اكثر من طبيب وأدخلته مدارس خاصة حتى وصل الى المرحلة الثانوية.
وذات يوم خرجت الى العمل، وتركت زوجى نائما، ولما عدت وجدته كما تركته، فظننت أنه لم يذهب إلى العمل كما يفعل كثيرا، وأعددت طعام الغداء، وظللت أناديه بأن يصحو ويتناول الغداء معنا، وقلت لابنى، «أيقظ اباك.. كفاية نوم»، ولما لم يستجب لكل صيحاتنا، دخلت عليه فوجدته منكفئا على وجهه بلا نفس، فصرخت بأعلى صوت: الحقونى، فتجمع الجيران، وأبلغوا الاسعاف، وجاء الطبيب وفور أن نظر اليه، قال: البقاء لله، فارتميت على الأرض، ولم أدر بنفسى إلا فى المستشفى، وابنى الى جوارى، أما زوجى فلقد وراه الثرى، وبعد يومين عدت الى البيت وبصحبتى قائمة من الأدوية التى أوصى الاطباء أسرتى بان اتناولها، وفقا لنظام معين حتى لا تحدث لى انتكاسة صحية، وما إن افقت حتى وجدتنى محاطة بسلسلة من الممنوعات.. ممنوع ان أبيت بمفردى.. ممنوع أن أغيب خارج المنزل بعد اذان المغرب، حتى لو اقتضت ظروف العمل ذلك.. الخ، والسبب أننى صرت أرملة، ويجب ان تكون خطواتى محسوبة، وهنا أدركت أهمية زوجى برغم كل ظروفه الخاصة، وايقنت بصحة المثل القائل: «ضل راجل ولا ضل حيطة»، ولم يطل الوقت، اذ سرعان ما تسارعت الاحداث من حولى، اذ توفى حماى بعد زوجى باسابيع، ثم تبعه أبى، وأمى وخلت الدنيا ممن كانوا يساندوننى و يقفون الى جوارى.. اما والدته سامحها الله فلم تعطنا شيئا من الميراث، بحجة أن البرج السكنى بايجارات قديمة، وأنها لا تملك سوى المعاش، واستأثرت اخت زوجى بكل شىء، فهى تسكن مع زوجها فى إحدى شقق البرج.. أما أنا وابنى فنسكن فى الشقة المؤجرة منذ أيام والده، وقد طالبنا صاحب المنزل بترك الشقة بعد رحيل الأب والابن، كما أنه حصل على قرار إزالة للعقار كله الذى خلا من السكان إلا نحن.. وأما اخوتى فانصرف كل منهم إلى حياته وأسرته، ولم يعد أحد يسأل عنا وتلفّت حولى فوجدتنى بلا سند ولا معين.. والتحق ابنى بالجامعة، وركزت كل همى فى تربيته غير مبالية بالأمراض التى حاصرتنى، وأتعاطى الأدوية لعلاجها مع كل وجبة طعام، ولم يعرف اليأس طريقه الىّ، وتخرج ابنى هذا العام، ولن أنسى يوم تخرجه، حيث انهمرت دموعى أنهارا، وأنا استرجع شريط ذكرياتى الحزينة، وما واجهته من متاعب فى حياتى بسبب نظرة «الحسب والنسب» التى دفعت اسرتى الى اجبارى على الزواج ممن لم تكن لى رغبة فيه وتحملت الأمرين فى حياتى، ولم أذق طعم السعادة أبدا بعد أن تبين أن كل ما تصوروه ليس سوى وهم سرعان ما تكشفت حقيقته.. صحيح أن سعادتى بتخرج ابنى لا توصف، لكنى أرجو من كل الآباء والأمهات أن يستوعبوا هذا الدرس، فلا يجبرون بناتهم على الزواج من أجل مظاهر كاذبة، فالتوافق بين الزوجين وراحة بالهما معا بالدنيا كلها.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
«لا فخر فيما يزول، ولا غنى فيما لا يبقى» فالحسب والثراء لا يغنيان عن المرء شيئا، وقد أدركت ذلك مبكرا، إذ لم يمض وقت طويل حتى استوعب أهلك هذه الحقيقة، حينما وجدوك تمدين يديك إليهم طلبا للمساعدة فى المعيشة، وهم الذين كانوا يتصورون أنهم زوجوا ابنتهم لمن سيوفر لها حياة مرفهة من كل الوجوه، وأنها سوف تنتقل نقلة كبرى من الحى الشعبى الذى تعيش فيه إلى الحى الراقى والوسط الاجتماعى لأبناء الحسب والنسب، فإذا بكل شىء يصبح سرابا، ويكتشفون أنهم القوا بها فى الجحيم، ولكن لم يكن هناك مجال للتراجع حفاظا على مظهرهم العام امام الناس، من منطلق أن تطليقك منه بعد فترة قصيرة من الزواج، قد يفسره البعض على غير الحقيقة، ونتيجة لهذه النظرة القاصرة أجبروك على مواصلة هذه الحياة التى لا تستقيم أبدا، فمهما تبلغ درجة ثراء الزوج أو حسبه ونسبه، فلا تساوى شيئا فى ميزان السعادة الزوجية.
لقد روُى أن داود عليه السلام، بينما هو يسيح فى الجبال، إذ مر على غار، فإذا فيه رجل عظيم الخلقة من بنى آدم قد مات، وعند رأسه حجر مكتوب فيه بالنقش «أنا دويسيم الملك، ملكت ألف عام، وفتحت ألف مدينة، وهزمت ألف جيش، وفضيت ألف بكر من بنات الملوك، ثم صرت إلى ما ترى، فصار التراب فراشى، والحجارة وسادتى، فمن رأنى، فلا تغره الدنيا كما غرتنى». فلا شىء يعادل راحة البال والرضا والقناعة يا سيدتى، ولو ادرك أهلك ذلك، ما أوقعوك فى زيجة جرت عليك أذيال الحسرة والندم، وليس معنى أن «بنت الأصول» يجب أن تتأقلم مع ظروفها، وتكون قنوعة وصبورة، وناكرة لذاتها فى سبيل الزوج، أن يتم إرغامها على الاستمرار فى زيجة لا تشعر فيها بالراحة.. زيجة قامت على الخديعة والمظاهر الكاذبة.. ولا أؤيدك ابدا فى المثل الذى سقتيه «ضل راجل ولا ضل حيطه» لأن الرجل فى هذه الحال يكون عبئا على المرأة، وليس مساعدا لها، ومؤازرا خطواتها. فالأصل فى العلاقة الزوجية أن الاثنين يسبحان معا فى بحر الحياة، ويساعد الزوج زوجته على تخطى الصعاب ومواجهة الامواج، ويحميها ويدعمها، وهذه هى الصورة الطبيعية فى حياة كل زوجين، ولا يكون الرجل مجرد ساتر أو ظل أمام الناس، وأحسب أنك تجاوزت هذا المثل بعطائك الكبير لابنك وكفاحك المستمر، وعزيمتك التى لم تعرف الوهن.
وبعد كل ما مر بك من متاعب وآلام أقول لك : إنك إن لم تعيشي فى حدود يومك، تشتت ذهنك، واضطربت أمورك، فإذا أصبحت لا تنتظرى المساء، وإذا امسيت، فلا تنتظرى الصباح، فهكذا يرتاح بالك وتشعرين بالراحة والأمان.. فانسي الماضى بما فيه، وأعلمى أن الاهتمام بما فات حمق، والانشغال بالمستقبل لا جدوى منه، فهو فى علم الغيب، فدعى التفكير فيه إلى أن يأتى، ووطنّى نفسك على تلقى أسوأ الفروض، ولعل فيما حدث خير لك، فالمصائب مراهم للبصائر وقوة للقلب، وعليك أن تتأملى دائما قوله تعالى «وفى السماء رزقكم وما توعدون».
ولقد آن لك أن تشعرى بالسعادة، بعد أن استقرت أحوالك، وتخرج ابنك فى الجامعة، وأديت واجبك نحوه، فالحقيقة الغائبة عنك، هى أن الإنسان لا يمكن أن يشعر بالسعادة إلا بعد مكابدة الشقاء، ولا يحس بالطمأنينة إلا بعد التعب، ولا يدرك الصحة والعافية إلا بعد المرض والآلام، وبمعني اشمل فان الاشياء لاتعرف إلا بأضدادها، ونحن كبشر لا نقدر نعم الله علينا، إلا إذا ابتلينا بشىء من الخوف والجوع، ونقص من الأموال والانفس والثمرات، فما الشقاء والتعب والمرض، وغيرها من الابتلاءات إلا نعمة لمن يتقبلها، ويتعظ بها، وهى نقمة لمن يكفر بها ولا يصبر عليها.
إذن القضية ليست فى الابتلاء نفسه فهو من قدر الله، ولكن فى موقفنا منه، وهذا ما نملكه باختيارنا، مدركين حكمته سبحانه وتعالى، من حتمية الابتلاء وضرورة التعامل معه بأسلوب صحيح من خلال الاعتصام بالله والرضا بقضائه والعمل الصالح ابتغاء مرضاته، فإذا أدركت يا سيدتى أن ما حدث لك منذ ارتباطك بزوجك، ثم مسيرتك معه إلى ما وصلت إليه الآن هو نصيبك من الدنيا، لاطمأنت نفسك، وعشت ما بقى من عمرك مرتاحة البال، بعد أن أديت مهمتك الجليلة تجاه ابنك بنجاح، وأحسب أنه استفاد كثيرا من تجربة أبيه المؤلمة، وهو قادر بما أصقلته به هذه التجربة على أن يشق طريقه فى الحياة، معتمدا على نفسه بعيدا عن الجاه والنسب الذى لم يبق منه شىء.. أما نصيحتك بضرورة ان يتوخى الأهل الحذر، وهم يسوقون بناتهم إلى الزواج من باب المظاهر الكاذبة، فإننى أثمّن ما ذهبت إليه، وأدعو الجميع إلى التفكر فى تجربتك الثرية المليئة بالصبر والدروس... وفقك الله وسدد خطاك. إنه على كل شىء قدير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.