غدًا.. انطلاق ملتقى التوظيف الأول لأسر الصحفيين بالتعاون مع «شغلني» بمشاركة 16 شركة    محافظ الغربية يتفقد محور محلة منوف والخدمات الصحية بمستشفى طنطا العام الجديد    التوسع فى استخدامات الطاقات المتجددة بالصناعات كثيفة الاستهلاك    مجزرة ل«الدعم السريع» فى الفاشر    «كاميرات المراقبة تظهر لحظة وقوع زلزال باليكسير في تركيا».. حقيقة الفيديو المتداول    التحالف الوطني: استمرار تدفق شاحنات الدعم الإغاثى إلى قطاع غزة.. صور    موعد مباراة الأهلي وبتروجيت والقنوات الناقلة في الدوري المصري الممتاز    شوبير ينفي تلقي داري عرضا من ليبيا ويكشف موقف الأهلي من مستقبله    جوارديولا يُشيد ب عمر مرموش قبل مباراة مانشستر سيتي القادمة.. ماذا قال؟    مصدر في الزمالك لليوم السابع: محمد السيد يبالغ في طلباته المالية لتجديد عقده    تفاصيل جديدة من صديق المتهم في «جريمة فيصل».. صلاة ونسكافيه بعد المأساة (فيديو)    وكالة أفريقية: افتتاح المتحف المصرى حدثا دبلوماسيا عالميا يجسد تراث مصر    طرح أغنية «كلكوا فلة» ل بوسي والعسيلي من فيلم «السادة الأفاضل» (فيديو)    أذكار المساء: أدعية تمحو الذنوب وتغفر لك (اغتنمها الآن)    "المنشاوي" يشهد افتتاح فعاليات المؤتمر العلمي السنوي الثامن لجمعية أسيوط للصدر    تامر الحبال: افتتاح المتحف المصري الكبير إعلان ميلاد عصر ثقافي جديد برؤية مصرية خالصة    لافروف: روسيا بحاجة إلى ضمانات بأن لقاء بوتين وترامب سيحقق نتائج    محافظ الجيزة يبحث شكاوى المواطنين بأحياء ومراكز العجوزة والطالبية والمنيرة الغربية وأطفيح    «مستقبل وطن» يواصل عقد اللقاءات الجماهيرية بالمحافظات لدعم مرشحى مجلس النواب    وكيل تعليم القاهرة يتابع سير العملية التعليمية بمدارس مصر الجديدة    إسلام عباس يكشف عن تمثال شخصية الملك لير ويؤكد: نال إعجاب يحيى الفخرانى    السياحة: استعدادات مكثفة داخل المتحف المصرى الكبير تمهيدا للافتتاح المرتقب    وزير الرياضة يُهنئ النوساني بعد فوزه على اللاعب الإسرائيلي في بطولة كندا للإسكواش    قبل الشتاء.. 7 عادات بسيطة تقوّي مناعتك وتحميك من نزلات البرد والإنفلونزا    وجبة الإفطار مرآة جسمك.. ما لا يخبرك به فقدان الشهية الصباحية عن حالتك الهرمونية والنفسية    بعد وفاة طفل بسببها.. ما خطورة ذبابة الرمل السوداء والأمراض التي تسببها؟    موعد صرف معاشات نوفمبر 2025 في مصر وآليات الحصول عليها    بعد تسريب بيانات 183 مليون حساب.. تحذير عاجل من الهيئة القومية للأمن السيبراني لمستخدمي Gmail    رسميًا مواعيد المترو بعد تطبيق التوقيت الشتوي 2025 2026 بالخطوط الثلاثة    اللجنة الفنية باتحاد الكرة: حلمي طولان محق في تصريحاته ويجب الحفاظ على شكل المنتخب    «تعمير» تعلن عن شراكة استراتيجية مع «The GrEEK Campus» بمشروع «URBAN BUSINESS LANE»    ماليزيا تعلن استعدادها للانضمام إلى "بريكس" فور قبولها    عون يؤكد ضرورة وقف الخروقات الإسرائيلية المستمرة على لبنان    روزاليوسف.. ساحة الاختلاف واحترام التنوع    افتتاح المبنى الإداري الجديد لكلية الهندسة جامعة الأزهر في قنا    فوزي إبراهيم بعد حلقة الحاجة نبيلة مع عمرو أديب: «المؤلفون والملحنون شاربين المر ومحدش بيذكر أسماءهم»    البابا تواضروس فى حوار خاص.. الكنيسة لا تعمل بالسياسة    قوافل جامعة قناة السويس تتوجه إلى قرية أم عزام لتقديم خدمات طبية    الطائفة الإنجيلية: التعاون بين المؤسسات الدينية والمدنية يعكس حضارة مصر    قبل العرض الرسمي.. إليسا تطلق أغنية «السلم والتعبان – لعب العيال»    نجم اتحاد جدة السابق يضع روشتة حسم الكلاسيكو أمام النصر    وزيرة التخطيط: تهيئة بيئة الاستثمار لتوسيع نطاق مشاركة القطاع الخاص    الإفتاء توضح الحكم الشرعي لتقنية الميكرو بليدينج لتجميل الحواجب    الرئيس السيسى يثنى على الخدمات المُقدمة من جانب صندوق تكريم الشهداء    موعد مباراة أتالانتا وميلان في الدوري الإيطالي    الداخلية تعلن البدء فى إجراء قرعة الحج بعدد من مديريات الأمن بالمحافظات    اعترافات صادمة لقاتل مقاول كفر الشيخ.. أمه غسلت هدومه من دم الضحية    حملات أمنية مكبرة بكافة قطاعات العاصمة.. صور    مقتل ثلاثة أشخاص في جامايكا أثناء الاستعدادات لوصول إعصار ميليسا    الشبكة هدية أم مهر؟.. حكم النقض ينهى سنوات من النزاع بين الخطاب    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 2026 ومكانته العظيمة في الإسلام    غيران ولا عادي.. 5 أبراج الأكثر غيرة على الإطلاق و«الدلو» بيهرب    اتصال هاتفي بين وزير الخارجية ومستشار الرئيس الأمريكي لبحث تطورات الأوضاع في السودان وليبيا    ضبط 3 أطنان دقيق في حملات مكثفة لمواجهة التلاعب بأسعار الخبز الحر والمدعم    14 شاشة لمشاهدة احتفالات افتتاح المتحف المصري الكبير بأسوان    الباعة الجائلون بعد افتتاح سوق العتبة: "مكناش نحلم بحاجة زي كده"    خالد الجندي: في الطلاق رأيان.. اختر ما يريحك وما ضيّق الله على أحد    بعد خسائر 130 دولارًا| ننشر أسعار الذهب في بداية تعاملات الثلاثاء 28 أكتوبر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فتحى غانم يكتب عن فتحى غانم: سنوات الصحافة والسياسة.. والتطرف!

تكفى العناوين العامة لملامح رحلتى الثقافية والفكرية منذ كنت طالبا فى الجامعة بكلية الحقوق فى الأربعينيات حتى يومنا هذا ونحن نودع القرن العشرين لترتسم أمامنا خريطة للتطورات التى مرت بها ثقافتنا منذ الحرب العالمية الثانية، إذ كانت البداية بالنسبة لى والجامعة تموج بالمظاهرات وطلبة الأزهر يتقدمون مع طلبة جامعة فؤاد فى شوارع القاهرة يهتفون (إلى الأمام يا روميل)، القائد الألمانى الذى ذاع صيته كثعلب الصحراء، وكان يطرق أبواب العلمين على بعد تسعين كيلو مترًا من الإسكندرية بقوات الفيلق الإفريقى الذى أعده أدولف هتلر لغزو مصر، وقطع الطريق على الاتصالات البحرية بين الحلفاء والهند وجنوب إفريقيا، وكانت سيارات الجيش الإنجليزى تجوب شوارع القاهرة مسرعة، تحمل العتاد والأثاث مما كان يدل على أنهم شرعوا فعلًا فى الجلاء عن القاهرة.
ما هى ملامح أفكار شاب مراهق وسط هذه الأحداث التاريخية التى تقرر مصير العالم لعدة أجيال قادمة؟ كنت أشعر بفرحة لمظاهر انكسار الإنجليز الذين يحتلون بلادى منذ نحو ستين عامًا، لكننى لا أشعر بفرحة لتقدم روميل، بل ينتابنى قلق شديد وهواجس أننا نستبدل غطرسته وجبروت ألمانيا، بالاحتلال الإنجليزى واستغلاله وسيطرته على حياتنا، وكان الشيء الواضح هو أن الأقوياء يحاربون فى أرضنا ونحن بلا حول أو قوة، والقوة الألمانية أو الإنجليزية هى قوة عقول ونظام للحياة وحضارة نحاول فى مدارسنا أن نتعلمها، درسنا اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية ونحلم مع الخديو إسماعيل بأن تكون بلادنا قطعة من أوروبا، لكننا نريد أن نكون مثل أوروبا بإرادتنا وبعقولنا وليس بالخضوع لقوة أوروبية تفرض علينا التمدن، ولا وجه للمقارنة أو التفضيل بين ألمان وإنجليز، الكل سواء، أجانب يريدون السيطرة علينا.
لكن معارك الحرب فتحت الباب فى الجامعة لهبوب تيارات فكرية أخرى، كانت تصل إلينا وتدعونا أن نتأملها أو ننجذب إليها ونشارك معها.

عرفت فى كلية الحقوق لأول مرة الشباب الشيوعى، وكانت لهم طريقتهم الخاصة لتجنيد الشيوعيين، وهى الدخول فى علاقات شخصية وصداقات حميمة ومناقشات مستمرة فى جو لا يخلو من المرح، ولقد عرفت شبابا من اليهود فى الجامعة كانوا يروجون للأفكار الشيوعية من خلال حفلات الشاى والرحلات والرقص واختار شاب يهودى أن يعقد صلة معى بأن يساعدنى على أن أتعلم اللغة الفرنسية بأن أشترك معه فى ترجمة كتاب لأديب شيوعى، وهو رواية (أصبح الحديد صلبًا) لأوستروفسكى. غير أن الشيوعية لم تنفرد وحدها بالعمل فى الجامعة، فكان هناك تيار قوى آخر يرفع شعارات الإخوان المسلمين، وكان تيارًا مشروعا ترحب به السراى وتراه يساندها ضد الأحزاب السياسية التى تتبادل الحكم، وكان مسموحًا للشيخ حسن البنا المرشد العام للإخوان بأن يلقى محاضرات فى قاعة الاحتفالات الكبرى تحت قبة الجامعة، ولقد استمعت إليه وهو يخطب فى تلك القاعة قبل أن أستمع فيها لجمال عبدالناصر بعد 5 سنوات.
ورغم أنى تعرضت بقوة لكلا التيارين الإخوانى والشيوعى فإننى لم أنجذب لهذا أو ذاك، وكان الإحساس الذى يغالبنى هو أنى لا أفهم بالضبط ماذا يريدون، وحفلات الشيوعيين لا تريحنى وهتافات الحناجر والعروق النافرة للإخوان لا تدعو إلى الاطمئنان، ولعل الذى منحنى حصانة من الانجذاب إلى أحد هذه التيارات، هو أنى نشأت فى بيت يهتم بالعلم، وكان يتردد عليه كبار الأدباء والمفكرين بينهم العقاد وطه حسين والسنهورى، وكان والدى مشغولاً بتأليف كتاب عن (جان دارك) وتوفى بعد طبعه بعدة شهور عام 1936 وترك لى مكتبة كبيرة حاولت أن أشرع فى مراجعتها وترتيبها على نحو أفهم منه موضوعاتها المختلفة، فكان لذلك تأثير لازمنى يدفعنى أن أراجع بعقلى كل ما أتعرض له من أفكار، وكانت هناك كتب فى المكتبة تتحدانى بينها كتب التراث الإسلامى وقد نبهنى إليها منذ طفولتى أستاذى الأزهرى الذى قرأت معه القرآن وأنا فى الخامسة، ومن بين هذه الكتب (الفصل فى الملل والنحل) للإمام ابن حزم و(الملل والنِّحل) للإمام الشهرستانى وكتاب (تهافت الفلاسفة) للإمام الغزالى، وقد فوجئت بكتاب كبير مترجم بالإنجليزية عن الألمانية لفيلسوف التاريخ (أوزفلد شبنجلر) عنوانه (أفول الغرب) وكان يتكلم عن الحضارة العربية أو (السحرية) بين حضارات الفراعنة واليونان والغرب، وكان يذكر أسماء كبار المفكرين المسلمين كالغزالى وابن رشد والبيرونى، ويتكلم عن نشأة الحضارات وازدهارها ثم شيخوختها وموتها ووجدت فى هذه الحركة لأطوار الحياة ما يجيب عن عدة استفسارات كنت أكتمها فى صدرى عن أسباب أفول الخلافة الإسلامية والهزائم التى انتهت بسقوط الخلافة فى تركيا على يد كمال أتاتورك.
وشغلنى أيضًا كتاب للشيخ محمد عبده عن (التوحيد) نشره الشيخ رشيد رضا وذكر فيه أن ما جاء فى الكتاب لا يجوز ذكره أمام (العامة) وكان يتناول الإيمان وضرورة أن يكون عن طريق العقل ويسأل ماذا لو فكر الإنسان بعقله فلم يصل إلى اقتناع، هل يموت كافرًا، وأجاب عن السؤال بأن الشك ليس كفرا، لأن عملية التفكير والشك هى الطريق إلى الإيمان الصحيح، فالكفر لا يتحقق إلا بالإنكار والنفى، وجاء فى كتاب التوحيد عشرات الآيات من القرآن الكريم التى تدعو إلى التفكير والتدبر للوصول إلى يقين بوجود الله.

كانت لهذه المناقشات تأثيرها العميق فى نفسى، وهى التى جعلتنى لا أنجذب بسهولة إلى ما أسمعه سواء من شيوعيين أو إخوان، وكانوا يضيقون بى عندما أحاول أن أناقشهم بحرية ويتهموننى بأنى شاب مُرَفَّه يتشدق بفلسفات وسفسطات ويذكر أسماء كتب ومفكرين لكنه لا يعمل من أجل قضية وطنه، قضية العمال والفلاحين فى نظر الشيوعيين، وقضية عودة أيام مجد الخلفاء الراشدين فى نظر الإخوان. وساعدنى فى بحثى عن حرية العقل كوسيلة لفهم الحياة كتاب المؤرخ الإنجليزى المشهور لورد أكتون بعنوان (أبحاث ودراسات تاريخية)، وقد شرح هذا المؤرخ الذى ينتمى إلى القرن التاسع عشر مفهوم الليبرالية وأجاب عن السؤال الذى كان يراودنى، هل تصل الحرية إلى حد الفوضى، فقال إن لله قانونه الطبيعى أو ما يسمى بالعناية الإلهية التى تتكفل بإصلاح أى خلل يطرأ على الموازين، فالشر إذا طغى قابله الخير، والمرض إذا استشرى تصدت له عوامل المقاومة والشفاء، وقد أعجبتنى هذه الإجابة، وأفادنى حديث لورد أكتون عن الصلة بين الدين والليبرالية، فى أن أتتبع بعد ذلك موقف التيارات الفكرية الحديثة من قضايا الدين ولاحظت أنها جميعًا لها موقف تفاهم أو تفسير أو مصالحة مع الدين، وحتى (الحداثة) و(ما بعد الحداثة) فى أيامنا هذه تقوم على تفسير مفاهيم الدين بالرؤية الجديدة للعلاقات المتشابكة والمراوغة فى حياتنا المعاصرة.

وهكذا لم أنضم إلى خلية شيوعية مع أنى حضرت جلسات لخلايا شيوعية، كما لم أنضم إلى الإخوان مع أنى ذهبت إلى بيت المرشد العام الشيخ حسن البنا وجلست أستمع إليه وسألنى عن اسمى مرحبًا بى كطالب فى الجامعة يدخل داره لأول مرة، وبهرنى الاجتماع لكنه لم يصل إلى إقناع عقلى، حتى جاء بعض الأصدقاء يدعونى إلى اجتماع فإذا به دعوة إلى تكوين خلية إرهابية وقد جلست معهم أستمع، أحاول أن أفهم وأقتنع حتى كانت جلسة ثانية جاء فيها أحد أعضاء الخلية ومعه منشور مطبوع استعدادًا لتوزيعه، ووقف وهو طالب فى الحقوق يناقش جدوى الاستمرار فى المشروع ويرى أن الوقت غير مناسب والإمكانات غير متاحة، إلا إذا ارتبطنا بالآخرين أى الشيوعيين أو الإخوان، كان هذا الطالب هو (جمال العطيفي) الذى سوف يصبح وزيرًا للثقافة والإرشاد فى عهد الرئيس السادات، كنا كالسمك الصغير الذى توشك أن تبتلعه الأسماك الكبيرة، وكانت الحالة فى مصر تدعو إلى الاختناق، حزب الوفد حكم مصر حتى خارت قواه، والملك فقد إحساسه بواجباته وانتشرت أخبار مغامراته ومغامرات أسرته، وفقد الجيش الولاء للملك أثناء حرب فلسطين عام 1948 واكتشاف صفقات أسلحة وذخائر فاسدة تورط فيها الملك ورجال حاشيته، وانقطعت الصلة بين الجماهير والملك الذى أصبح مكروهًا، وفى هذا المناخ جاء يوم 23 يوليو 1952 ليعلن عن حركة الجيش،وسرعان ما تخلى الملك عن عرشه وظهرت قيادة لحركة الجيش فى جماعة الضباط الأحرار يقودهم اللواء محمد نجيب.

وجاء 10 ديسمبر 1952 فألغت القيادة الدستور وقررت حل الأحزاب ما عدا الإخوان المسلمين، وهربت الأحزاب الشيوعية للعمل السرى تحت الأرض بعد أن صدرت أحكام إعدام فى إضراب للعمال بكفر الدوار، واختنقت الحياة الفكرية بسبب اضطرابات وعدم استقرار فى الرأى بين الضباط الأحرار، بينهم الشيوعى والإخوانى والفاشى والوطنى البسيط، وتحدث بينهم احتكاكات تؤثر فى المناخ الثقافى، كان من أوضحها أن الضباط لم يستقروا بعد على رأى حول إذا ما كانوا قاموا بحركة إصلاحية، أو تدخل عسكرى مؤقت، أو ثورة سياسية، وكانت تعليمات الرقابة على الصحف تتغير من يوم إلى آخر، فلما جاء يناير 1954 قررت قيادة الضباط إيقاف أى نشاط فكرى سياسى حتى بين حلفائها من الإخوان المسلمين فصدرت الأوامر باعتقال أربعمائة وخمسين من الإخوان. وكان لا بد أن تحدث موجة استياء بين المثقفين تطالب بالديمقراطية وإن اختلفت أسباب ودوافع المطالبة، وبدا أن الضباط الأحرار سوف يقبلون الانسحاب إلى ثكناتهم والإعلان عن انتخابات ديمقراطية، لكن الرقابة عادت فجأة يوم 28 مارس 1954 وصدر قرار بتأجيل الانتخابات، وتحركت مظاهرات يقودها ضباط الصف الثانى من الضباط الأحرار، هاجمت طه حسين فى مكتبه بكلية الآداب وهاجمت عبدالرزاق السنهورى فى مكتبه كرئيس لمجلس الدولة، وصدر قرار بحل نقابة الصحفيين، وصدرت قوائم بأسماء كبار الصحفيين اتهمتهم قيادة الضباط بأنهم كانوا يتقاضون الرشاوى من زعماء العهود السياسية البائدة، وصدرت أحكام بالسجن عشر سنوات وخمسة عشر عامًا على محمود أبوالفتح وأحمد أبوالفتح صاحبيّ جريدة (المصري) وسحبت رخصة إصدار الجريدة.
تستطيع أن تصف هذه الفترة بأنها كانت تمثل هجومًا صريحًا وبالغ الجسارة من الضباط الأحرار المثقفين جميعًا يكشف عن حالة نفسية من عدم الثقة وشكوك فى أن الشيوعيين يرتبون للاستيلاء على السُّلطة والإخوان من جانبهم يعملون على الاستيلاء على السُّلطة ورجال الأحزاب القديمة يتحركون لنفس الغرض، وإذا كان هناك بعض المثقفين الذين لا ينتمون إلى هؤلاء أو هؤلاء فقد تصرفوا على نحو يجعلهم غير جديرين بالثقة، مثل بعض أساتذة ومدرسى الجامعات حول تأييدهم للثورة إلى نفاق وطلب للمناصب بينما استطاعت المخابرات أن تجند بينهم كثيرين وساد الاعتقاد بين ضباط الثورة أن المثقفين الذين عاشوا فى أجواء الماضى والأحزاب والملكية لا أمل فيهم.

وكان لا بد من البحث عن أفكار جديدة، وفى هذه المرحلة كانت فكرة القومية العربية هى التى نجت من الاتهامات، ولا أستطيع أن أقول إن الجماهير المصرية كانت بعيدة عن معنى العروبة والقومية العربية قبل ثورة 52 والدليل على ذلك أن جميع الأفلام المصرية - تقريبًا بلا استثناء - التى أنتجت فى مصر خلال الثلاثينيات والأربعينيات حتى قيام الثورة كانت تحرص على تقديم أغانٍ ورقصات ولهجات عربية وساهمت بشكل أقوى بكثير من كتب ساطع الحصرى أو من النشاط الحزبى فى تأكيد الهوية العربية لمصر، غير أن الظاهرة العامة كانت تكشف عن وجود فراغ فكرى كان يشعر بوطأته الذين تبنوا أفكارًا اعتمدوا عليها كالماركسية أو الإخوانية أو التمسك بالحزبية القديمة، وكنت على عكس هؤلاء أشعر أننا نواجه الواقع الذى نعيشه بغير أفكار مستوردة وأقنعة نستر بها فراغ رءوسنا، ومع الأسف الشديد مازالت قضيتنا الأولى فى تقديرى حتى يومنا هذا هى البحث عن العقل العربى الغائب أو المعطل، ولقد هرب البعض إلى فكر غربى وآخرون لجأوا إلى فكر شرقى، كما هرب البعض من العقل ورفضوا التفكير، تجنبوا مخاطره فى انتظار المعجزة أو تصاريف القدر.
وطبيعى أن طلب التفكير الحُر ليس مطلبا سهلا، فمن يستطيع أن يحرر أفكاره وكيف، ومن يستطيع أن يصدر قرارًا بأن نستخدم عقولنا فى تفكير سليم حُر، وتجربتى مع محاولة التفكير الحُر وصلت إلى مواقف لها دلالتها فى الظروف التى كانت تعانى فيها (الثورة) من مجاعة حقيقية فى الأفكار، وإليكم هذا المثل:

حدث فى الخمسينيات والثورة تناقش قضية التنمية الاقتصادية وتخوض معركة الاستقلال مع الإنجليز أن ظهرت اتجاهات تنادى بالتخطيط وكان عبداللطيف بغدادى هو وزير التخطيط مما قد نفهم منه أن هناك أفكارًا مدروسة للتخطيط تقوم على فلسفة اجتماعية واقتصادية معينة، وحاولت أن أفهم ما هو المقصود (بالخطة) وكنت أكتب مقالات أشرح فيها الأفكار والكلمات السياسية التى يتداولها الساسة والمثقفون فيما بينهم، وقرأت عن تجارب فى التخطيط فى فرنسا وهولندا والاتحاد السوفيتى، فلاحظت أن كل مجتمع يتبنى التخطيط بفلسفة معينة ولتحقيق أهداف معينة، هولندا ضد الشيوعية وتتبنى التخطيط بفكر رأسمالى، والسوفييت ضد الرأسمالية ويتبنون التخطيط بفكر ماركسى، وفرنسا تتبع نظامًا للتخطيط تجمع فيه بين الاشتراكية والديمقراطية والسوق الحُرة، وسألت نفسى ما هى فلسفة التخطيط وقد بدأوا يتحدثون عنها فى مصر، كان السؤال هو محاولة للتفكير وبحثت عن دراسات أو مذكرات تفسيرية تشرح ما هو التخطيط بالمفهوم المصرى فلم أعثر على شيء، عندئذ كتبت مقالاً افتتاحيًّا فى مجلة «روزاليوسف» قلت فيه إننا لجأنا إلى التخطيط تحت شعار (الضرورة)! هناك أزمة فى تمويل المشروعات وأزمة فى الخدمات وأزمة فى الإدارة، وصيحات تطالب بضرورة معالجة هذه الأزمات، لذلك نستطيع أن نقول إن حديثنا عن التخطيط هو حديث (ضرورة)! إنه مطالبة بأن تتدخل الدولة لتعالج أزمة دون أن ترتبط بنظرية أو فلسفة، والشيء الوحيد الذى أفهمه ويبرر تبنى أسلوب التخطيط هو نظرية (الضرورة)!
وكانت المفاجأة المذهلة أن يتصل بى وكيل وزارة التخطيط وهو الخبير العالمى الدكتور حلمى عبدالرحمن، وتقابلنا وسألنى أن أنضم إلى لجنة يفكرون فى تشكيلها لدراسة شئون التخطيط، واعتذرت لأنى غير مختص بالأمر، لكنى عرفت أن هناك مجاعة أفكار، والجميع مشغولون بالأشخاص والمناصب واللجان، كما عرفت أن كبار الخبراء لا يفكرون ولا يريدون الاستقلال برأى وأنهم حرصًا على تأمين أنفسهم من مغامرة التفكير يكتفون بتشخيص الأزمة وتوضيح أبعادها بدقة لكنهم لا يتدخلون برأى فى العلاج فى انتظار ما يراه القائد، خشية أن يقول أحدهم رأيًا فيرى القائد رأيًا آخر فتكون نهاية صاحب الرأى المرفوض.
وفى لقاء لى مع مدير مكتبة الكونجرس فى مطعم بميدان سيدنا الحسين قال لى المؤرخ الأمريكى المعروف (دانيل بروتشتين) بلهجة سؤال: هل تستطيع أن تقول مثلنا أنا خالق هذا الشيء؟
قلت له بسرعة: الخالق عندنا هو الله سبحانه وتعالى وقد نقول هذا من اختراعى وابتكارى واكتشافى، ولكننا لا نقول هذا من خلقي!
فقال لي: عالمنا المسيحى يرى أن الإنسان قد خلقه الله على صورته.
قلت له: ونحن نفهم ذلك فى الإسلام.
فقال: لذلك من واجبنا أن نفعل كما يفعل الخالق.
وهذه صورة أخرى من ارتباط التفكير الحُر بالدين، وهى ليست واضحة فى أذهاننا منذ إغلاق أبواب الاجتهاد، فلم يعد المسلم يعرف متى يكون مُسَيرًا ومتى يكون مُخَيرًا.
وبحثت عن معنى كلمة حرية فى القواميس العربية (أساس البلاغة) و(لسان العرب) فلم أجدها، والمعنى الوحيد الذى اقترب من مفهومنا المعاصر للحرية جاء فى نقيصه، فتقول (حر المملوك أى حرره مولاه وأعتقه)!

وعندما كنت رئيسًا لتحرير صحيفة «الجمهورية» فى عهد عبدالناصر طلبت من على صبرى أن يساعدنى فى الحصول على مذكرات المشير عامر عن سوريا فنظر إليّ كمجنون لأنه من المستحيل أن يقبل المشير (التفكير) فيما حدث بصورة علنية تفتح الباب للناس لأن تفكر فى انفصال سوريا عن مصر وسقوط حلم الوحدة، ولو كان هذا الأمر فى أى بلد آخر لخرجت مئات الكتب والدراسات تبحث وتحلل كل صغيرة وكبيرة تمس حدث الانفصال من قريب أو بعيد، وكان المفروض أن يكون المشير عامر هو الشاهد الأول فى رواية وتقويم الأحداث.
وحدث ذات مرة أن دخلت فى مناقشة مع صديقى أحمد بهاء الدين حول مفهوم الاشتراكية فى مصر بعد أن أعلن عبدالناصر عن المجتمع الاشتراكى وبعد قراءات مطولة وتفكير (حُر) خرجت بمعنى واضح هو أن الاشتراكى هى (تدخُّل الدولة)، وهنا اعترض بهاء على ما كتبته بهذا المعنى وقال لى بذكائه غير العادى إنه اعترض حتى لا يشجع السُّلطات على التدخل فى كل شئون حياتنا باسم الاشتراكية، وهم لا يفهمون شيئًا عن الاشتراكية وسوف يتمسكون بكلمة (تدخُّل) ويفرحون بها!
الأمثلة كثيرة تفوق الحصر لتؤكد المجاعة الفكرية، وإنهاك المثقفين فى تحصيل المعارف المستوردة من هنا وهناك دون أن يهتم أحد اهتمامًا جادًّا بمواجهة الواقع ورؤيته بوضوح ودقة والتفكير فى هذا الواقع تفكيرًا حُرًّا وليس مجرد ترديد أفكار ونظريات لا صلة لها بالواقع ولكن لها صلة بإحداث تأثير مطلوب عند السُّلطات التى تُصدر القرار، وتظل الحقيقة تائهة، وأذكر فى حسرة الشيخ محمد أبوزهرة عندما كان يحاضرنا فى كلية الحقوق ويناقش اختلاف الفقهاء والفتاوَى ويتساءل معنا هل نبحث عن الحقيقة عند الفرد حتى لو خالف الأغلبية، وما ضمان أن ما عند الفرد هو الحقيقة، ثم قوله إن الصواب الذى نفرضه على الناس بالقهر سيكون ضرره أكبر من نفعه، ومن هنا كان الأفضل والأقرب إلى الحكمة أن نأخذ برأى ومشورة الأغلبية ونترك للزمن والتجربة كشف وتصحيح الخطأ ونتحمل مسئولية اختيارنا، لا شك أن مطلبى منذ البداية هو أن أكون مفكرًا حُرًّا، ولا شك أن الظروف السياسية والاجتماعية التى مررت بها ما كانت لتسمح بتنمية الفكر الحُر الذى يحتاج إلى مناخ عام تسود فيه حرية الرأى على نحو مازالت قيود كثيرة تمنع تحقيق هذا المناخ، لكننى مارست الفكر الحُر بكل حريتى فى أعمالى الروائية، وهناك فَرق بين أن ترى الشيء على حقيقته، وكما يستقر فى نفسك بحرية كاملة على أنه الحقيقة، وبين أن الشيء متأثر بدعوة سياسية، ولقد مرت مصر بتجارب مريرة وخطيرة، حرب 67 وموت عبدالناصر واغتيال السادات بعد كامب ديفيد، والأحداث لا تنقطع، والذى يهمنى أن أدرك أولاً ما الذى يحدث دون أن أصوغه فى ثوب سياسى أو أتورط فى تبرير أو دفاع، المهم هو الفهم أولاً، وأن أقدم الرؤية الصادقة كما استقرت فى نفسى من خلال أعمالى الفنية، وأعلنت أن الأدب أهم وأشمل وأصدق من السياسة قبل أن يقول لى (موروبرجر) أستاذ الاجتماع فى جامعة برنستون ونحن نتناول الغداء فى القاهرة فى أوائل السبعينيات أنه بصدد الانتهاء من كتاب يقرر فيه أن الأدب هو المصدر الرئيسى لفهم المجتمع قبل تقارير تصدر عن مخابرات ورجال أمن وجواسيس وغيرهم، ولقد تأكد هذا المعنى بعد أن طغى فن الإعلام وفن الإعلان على ما يقرأه ويسمعه الناس من أخبار وتعليقات عن أحوال مجتمعهم وتحولت الانتخابات فى أكثر الدول ديمقراطية إلى حملات إعلان، ولا ينقذ الإنسان أوالمواطن غير رؤية فنية صادقة عن مجتمعه.

وهنا أختتم هذا الذى كتبته بصورة تلقائية وبغير مراجعة بكلمات لزعيم فريق البيتلز (جون لينون) بعد أن تسيد الفريق على أذواق الجماهير فى أوروبا وأمريكا وأماكن أخرى كثيرة من العالم، سألوه: ما هى رسالتكم؟ فأجاب بعد تفكير: رسالتنا أن نصور الواقع كما هو للناس، قدمنا لهم لهجاتهم الشعبية وهمومهم فى العمل واحتفظنا بطبيعتنا كعمال شعبيين من ليفربول. وأكمل لينون قائلًا: أظن أن الصدق فى التعبير عن الواقع هو الرسالة الحقيقية.
واليوم والنظريات تنهار والتيارات الفكرية تتلاشى والسياسة والإعلام والإعلان تختلط بالأحداث لتزييفها أشعر بأنى لست نادمًا على ما اخترته كطريق فى الأدب والفن أو فى السياسة، وأشعر بسعادة غامرة عندما أمتنع عن إصدار الأحكام بأن هذا صحيح وهذا فاسد لأنى أقدم الواقع بكل ما أراه فيه من صدق ليُصدر المتلقى حكمه بنفسه، وكلما تراجعت ككاتب فى تواضع تقدم القارئ بشجاعة وأصدر بنفسه الحكم المطلوب، حرية الفكر ليست حكرًا على إنسان مفكر يتبعه الآخرون، بل هى حرية الفكر التى يتلقاها كل فرد بحُرية ويصدر فيها أحكامه الخاصة بحُرية.وأقول دائمًا إن الله سبحانه وتعالى لم يصدر أحكامًا نهائية على البشر وأجَّلها إلى نهاية الدنيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.