ليس مثل فتحى غانم فى القدرة على تقديم شهادة متكاملة عميقة عن الصحافة المصرية، والذروة فى روايتيه «الرجل الذى فقد ظله» و«زينب والعرش». عبدالهادى النجار، رئيس تحرير جريدة «العصر الجديد» فى «زينب والعرش». شخصية محورية تلعب دورًا بالغ الأهمية فى تشكيل مصائر المحيطين به، والتأثير على بناء الحدث وتطوره، وبتعبير الروائي: «إن الرجل أقوى من أن نتجاهله، وهو يفرض نفسه، ويلقى بظلاله على جميع الشخصيات، وارتبط بدور فعال بكل ما يجرى من أحداث». النشأة والجذور الاسم الكامل المدون فى شهادة الميلاد هو محمد عبدالهادى سلامة النجار، أما الاسم الشائع فهو: عبدالهادى النجار. الطفولة والشباب المبكر فى مدينة طنطا، خلال عشرينيات القرن العشرين، والأب سلامة النجار محامٍ شرعى يدين بالولاء لعبدالرحمن باشا مكي، أحد أبرز أعيان وأعلام المدينة. يكتب عبدالهادى عن أبيه ما يغاير الحقيقة، فيقول إنه: «كان محاميًا يدافع عن الحق والحرية، وإنه كان عالمًا ضليعًا، ولقد استفاد عبدالهادى لأنه كان يقرأ لوالده كتبًا ضخمة ما كان يجرؤ على الاقتراب منها، لولا ضعف بصر أبيه، الذى كان يطلب من ابنه أن يقرأ له ساعتين قبل أن ينام. ويذكر القراء ذلك المشهد الباكى الضاحك الذى وصف فيه عبدالهادى أباه، عندما بكى لأن ابنه أخطأ ونصب الفاعل ولم يرفعه أثناء القراءة. واضطر عبدالهادى إلى أن يقبل يد الأب ويعتذر له ألف اعتذار، والرجل ينهنه كطفل صغير، ويقول بصوت تخنقه العبرات: « أتنصب الفاعل يا عبدالهادى وأنا مازلت حيًا، ماذا أنت فاعل إذا ما فاضت روحى إلى بارئها بسبب هذا الجرم الشنيع». مبالغة كاريكاتورية تبحث عن الإثارة والفكاهة، والجانب الموضوعى مغاير للحقيقة التى يعرفها عبدالهادى جيدًا، فالشيخ سلامة محامٍ سليط اللسان ذو سلوك انتهازى غير أخلاقي، ولا يحمل الابن نفسه لأبيه إلا مشاعر الكراهية والازدراء، وهو ما يتجسد فى قوله لعشيقته زينب الأيوبي: «كان مهرجًا رخيصًا، وشعرت دائمًا أنى ابن ذلك المهرج الرخيص.. كما شعرت دائمًا بحقارتى أتدرين.. لقد كنت أتذكر أبى وأقتله. فعلت ذلك وهو يسير إلى جانبى فى الطريق.. وفعلتها آلاف المرات وهو ميت». ما يقوله عبدالهادى تعبير عن حالة الضيق المزمن تجاه الأب «المهرج» الذى لم يورثه شيئًا جديرًا بالاحترام، ويعى الصحفى الشهير حقيقة المكانة المتواضعة التى كان يحتلها المحامى الشرعى فى أوساط السادة الذين يتعامل معهم من موقع التبعية: «كان مهرجًا رخيصًا.. كان يعيش على فتات موائد أعيان الغربية.. كانوا يسمونه الشيخ إبليس.. ولا أستبعد أنهم كانوا يتسلون فى سهراتهم بصفعه على قفاه»!. ليس مستغربًا إذن أن تنقطع صلة عبدالهادى بماضيه وأسرته وأشقائه وشقيقاته بعد وفاة أبيه، فهو يعجز عن استكمال دراسته فى كلية الحقوق، ويتفرغ للعمل الصحفى الذى بدأه محررًا قضائيًا بجريدة «الشعب»، المعبرة عن حزب إسماعيل صدقى الذى يحمل الاسم نفسه. وليس مستغربًا أيضًا أن يحمل عبدالهادي، متأثرًا بنشأته الأولي، كراهية متطرفة للفلاحين، ويبرر كراهيته هذه فى قوله ليوسف منصور: «أكرههم لأنى أكره الفقر والجهل والمرض.. ألم تقرأ برنارد شو الذى وصف الفقراء بأنهم ألعن وأخبث شيء فى الوجود»!. يبدأ عبدالهادى حياته تابعًا ذليلاً لأبناء الأعيان الأثرياء، محتذيًا خطى أبيه الذى يمارس السلوك نفسه فى إطار قوامه الابتذال والتهريج. الفارق بينهما يكمن فى قدرة عبدالهادى على امتلاك القوة التى تتيح له الاستقلال والتحرر النسبي، والقوة التى يؤمن بها ويسعى إلى امتلاكها تنبع من مفاهيم نفعية خالصة، لا شأن لها بالمبادئ والمعايير الأخلاقية السائدة. الإنجليز يمثلون القوة الفاعلة، أما الصراع السياسى فيتخذ عبدالهادى تجاهه موقفًا مغايرًا للأغلبية الساحقة، ويتجلى ذلك بوضوح خلال سنوات دراسته فى كلية الحقوق، مطلع الثلاثينيات: «وقف ضد الأغلبية الوفدية.. ووصف تحالفها مع الأحرار الدستوريين بأنه تحالف الجهلة الرعاع مع أولاد الأعيان التافهين.. فالوفديون لا يعرفون إلا التهريج والطبل والزمر وخطب النحاس الساذجة وخطب مكرم المسجوعة.. والأحرار الدستوريون لا يعرفون إلا مهارة محمد محمود باشا فى لعب الطاولة وتفننه فى أكل الملوخية البورانى والحديث عن ولائم الحمام المحشو بالفريك. أما صدقى الخائن الذى باع البلد للإنجليز.. فهو رجل الكفاءات القوي.. الذى يعرف مصدر القوة والعدل والإصلاح فى هذا البلد». الإنجليز قوة احتلال، وإسماعيل صدقى سياسى بلا شعبية، لكن عبدالهادى لا يحكم بالعاطفة، ولا يندفع فى الإسراف الانفعالى غير المحسوب. ينتمى إلى مدرسة غير تقليدية بالنظر إلى مقاييس المرحلة التاريخية، ومنهجه الصحفى يمثل امتدادًا لأفكاره. العصر الجديد لم تكن جريدة «العصر الجديد» إلا تجسيدًا لرؤيته وتعبيرًا عن أفكاره المتعلقة بمفهوم الصحافة ووظيفتها، ولذلك ولدت الجريدة ناجحة بما أحدثته من ضجة وإثارة: «إذ استخدمت المانشتات الكبيرة الحمراء وأبرزت فى صفحتها الأولى أخبار الجرائم وأخبار الزواج والطلاق فى الطبقة الراقية، وكانت مثل هذه الأخبار لا تنشرها إلا بعض المجلات الأسبوعية فى صفحاتها الأخيرة، وشاهد القراء لأول مرة عددًا ضخمًا من صور زوجات كبراء وعظماء، وعرفوا أسماءهن وتتبعوا أخبارهن فى الحفلات والصالونات، وكان عبدالهادى يعطى مثل هذه الأخبار اهتمامًا خاصًا، يفوق اهتمامه بأخبار حرب فلسطين أو مناقشات البرلمان فى أمور السياسة والاقتصاد». قد لا تروق مدرسة عبدالهادى الصحفية لكثير من أعدائه وكارهيه ممن يتحفظون على توجهاته الفكرية والسياسية، لكن التوافق كامل بين الجريدة ورؤى رئيس تحريرها، فالصحفى الشهير لا يعترف بوجود الحقيقة المطلقة: «إنما هى حقائق متعددة، ومتعارضة، لأن ما هو حقيقى عند أى إنسان هو مصلحته فقط ولا شيء غير مصلحته». عبدالهادى النجار فردى أنانى لا يرى الحياة إلا ساحة للصراع المستمر، لا نصر فيه أو هزيمة. لا متسع للعاطفة فى توجيه أفكار وممارسات عبدالهادي، فالحياة عنده: «رغبات وشهوات وقوى تتصارع ومعارك مستمرة، وألسنة تنهش ألسنة، وقلوب تأكلها الغيرة من قلوب، وعيون تحسد عيونًا، وشراهة تجتر شراهة. وما العواطف النبيلة، والمشاعر الرقيقة، والفضائل التى يتحلى بها الناس إلا أدوات زينة.. لا بأس من التجمل والتزين بها، خاصة إذا كنت مقدمًا على طعن أعز صديق بخنجر فى ظهره». فى هذا السياق، تبدو العلاقة بين الصحفى الشهير والمليونير أحمد مدكور باشا منطقية مبررة، فكلاهما لا يعترف بقيمة إلا للمصلحة الجافة، وكلاهما يعى أن الأوضاع التقليدية القائمة إلى زوال قريب. يبحث الباشا عن صحيفة تؤثر على الرأى العام وتمهد الطريق أمام العصر الأمريكي، ويشاركه عبدالهادى فى الحماس للصحيفة التى اختار اسمها من وحى حديث الباشا: «الحياة الجديدة التى تنتظر مصر، حياة ما بعد الحرب، وحياة التقدم الصناعي، والاختراعات الأمريكية، ونظم الإدارة الأمريكية، ونموذج الثراء الأمريكى الذى يدفعنا إلى إقامة اقتصاد مصرى يتخطى تمامًا مرحلة بنك مصر». يؤمن عبدالهادى أن المعلومات هى مصدر القوة، ويقينه الراسخ أن الشعارات المثالية المتطهرة ليست إلا وسيلة تجميلية لا وجود لها فى الواقع. لا تتغير آراؤه بعد ثورة يوليو، فهو لا يصدق ما يقوله قادتها عن الأحلام التى تراودهم: «وأسرعت الأنباء إليه تحدثه أن هؤلاء القادمين الجدد، يزعمون أنهم ملائكة جاءوا لطرد الشيطان من البلد والقضاء على ما بها من فساد، وتطهير ما فى المجتمع المصرى من عيوب، والقضاء على ما تفشى بين الناس من فقر وجهل ومرض. وارفع رأسك يا أخي، فلن تكون بعد اليوم ضعيفًا مقهورًا، ولن تكون ذليلاً مهانًا بسبب حاجتك المحروم منها. وطبيعى أن عبدالهادى لم يصدق هذا الكلام، واستقبله على أنه نوع من أدوات الزينة التى يتحلى بها هؤلاء الذين أمسكوا بالسلطة». الكراهية متبادلة بين الثورة والصحفي، لكنه يستفيد منها ويعى احتياجهم إليه. مصلحته رهينة ببقاء السلطة التى يراها متخبطة تعانى من الارتباك وضبابية الرؤية: «الثورة قلبت نظامًا ليحل محله نظام هو فى حقيقته لا نظام، تختلط فيه القيم، وتختلط الطبقات كما يختلط الحابل بالنابل، وهذا الاختلاط يناسبه تمامًا، ويتيح له فرصًا أكبر من غيره فى الحركة والتفوق والنفوذ، ولذلك فهو لا يريد القضاء على هذا اللانظام». يعمل عبدالهادى فى خدمة جهاز المخابرات، ويمتلك حضورًا ونفوذًا فى مؤسسة الرئاسة، ولا يحول هذا دون الصدام مع بعض رجال الثورة ورموزها، مثل أحمد عبدالسلام دياب، الوطنى المخلص المثالى إلى درجة تقترب من السذاجة. الثعبان والذبابة يرى دياب أن عبدالهادي: «صحفى شرير.. خبيث.. ثعبان.. إنه عدو للثورة»، أما عبدالهادى فيعى أن أحمد عبدالسلام دياب لا يستطيع أن يلحق به الضرر: «إنه مجرد ذبابة تحاول أن تضايقني.. أستطيع أن أهشها هكذا.. ولوح عبدالهادى بيده يهش الذبابة». يشتعل الصراع بين الرجلين فينتصر عبدالهادى بالضربة القاضية، وكان دياب يتوهم أن اتهام عبدالهادى النجار بالشذوذ الجنسى وسيلة للقضاء عليه، وغابت عنه حقيقة أن المؤامرات لا تُحاك على هذا النحو الساذج. لا دليل على صحة الشائعة، والقرارات السياسية المهمة لا تعتمد على الأسباب الأخلاقية كما يراها دياب، ولذلك لحقت به الهزيمة، واستمر عبدالهادى فى خدمة الثورة التى يؤمن قادتها أنهم فى حاجة إليه لإيمانهم بعدائه لهم!. عبدالهادى النجار مهنى بارع متفوق فى إطار ما يؤمن به من أفكار، أما عن علاقته بالمرأة فهى امتداد لمجمل رؤاه فى الحياة. لا يعرف المرأة إلا من خلال غرائزه، ولا وجود للعاطفة فى علاقة نفعية كالتى تربطه بالممثلة مهجة مراد والصحفية سعاد حرب، وزينب الأيوبى هى الاستثناء، فقد أحبها وتعلق بها، لكن الاستمرار لم يكن ممكنًا. الحب الاستثنائى زينب قوية مثله، لكنها تتفوق عليه بشجاعتها الفريدة وإقبالها على الحياة بمعزل عن الحسابات التى تقيده: «حياتك كلها مخاوف، ونظرتك للدنيا كلها مخاوف.. تتوقع الشر كل لحظة، ولا ترى إلا الشر كل لحظة، ولا ترى إلا الشر فى كل من تعامله». زينب حبه الاستثنائى الوحيد، والصحفى يوسف منصور هو الإنسان الوحيد الذى أحبه عبدالهادى بلا حسابات أو مخاوف: «أنت الوحيد الذى أحببته فى هذه الدنيا.. وأطمئن إليه.. معك ألقى سلاحي.. منذ رأيتك لأول مرة وتفاءلت بك.. قلت لك إن حياتى كلها سجن مغلق هواؤه فاسد.. وأنت نسمة الهواء النقية الوحيدة». أهى مصادفة أن يتزوج يوسف منصور من زينب الأيوبي؟!. المشترك بينهما لا يقتصر على حب عبدالهادى لهما، بل أيضًا فى الصدق النادر الذى يتسلحان به، ويضفى عليهما قوة لا يُتاح امتلاكها للصحفى الذى يبالغ فى حساباته المعقدة، فلا يصل إلى مفاتيح القوة الحقيقية. لعل يوسف منصور هو الأفضل فى الكشف عن ملامح شخصية عبدالهادي: «إنه صديقي.. وأنا أحبه.. وهو رجل شرير لا مثيل له فى الشر»!. يستوعب يوسف الشر الإنسانى ويروضه بلا مشقة، وهو لا يتهم عبدالهادى أو يدينه، فالشر عنده مفهوم موضوعى لا يدعو إلى الخوف: «إنه لم يحصل على حريته يومًا ما.. إنه لا يستطيع أن يخطى أو يتهور أو يندفع.. إن شره نظام دقيق». الشر لا يرادف القوة، بل إنه قد ينهض دليلاً على الضعف كما يرى يوسف: «أهم شيء عند عبدالهادى هو هذه الأشياء الجديدة التى يخترعونها. الولاعات الجديدة على شكل لعب.. الراديوهات الترانزستور الجديدة.. الأقلام الجديدة.. أى شيء جديد. وهو يهتم بالجديد حتى يعرفه الناس.. فيتركه ويبحث عن غيره». ظاهر قوى وباطن ضعيف، والاهتمامات التى ينشغل بها دليل واضح على الاهتزاز والتهافت. ومن ناحية أخري، فإن الشر الذى يتسلح به عبدالهادى لا يقتصر عليه وحده، وتلميذه حسن زيدان يملك شرًا مماثلاً يؤهله للمنافسة والتفوق، وهو ما لا يغيب عن عبدالهادى ولا يقوده إلى الكراهية. المباراة بينهما بلا أسرار أو خبايا، وحسن يؤمن بمنهج عبدالهادى الذى يخلو من العواطف والمبادئ، ويتعامل مع الحياة كأنها غابة مسكونة بالوحوش. لا حب إذن أو كراهية، لكنه الإعجاب المحايد الذى يتسم باللذة، كتلك التى يشعر بها الآباء وهم يفتشون عن ملامحهم فى أبنائهم!. عبدالهادى ليس قويًا بالمعنى الحقيقى الشامل للكلمة، وليس أدل على ذلك من شعوره بالاحتياج إلى فراش مكتبه صالح الأخرس، فهو يشعر فى وجوده بالأمان والثقة!. تتوافق هزيمة عبدالهادى وبداية انكساره مع هزيمة الوطن فى يونيه 1967. يصل الصحفى الكبير إلى شاطئ الركود وغياب البريق بزواجه من سعاد حرب، الصحفية التى تكافح بجسدها، أما النظام الذى يراهن عبدالهادى على استمرار تخبطه لكى يستمر معه، فقد بدأ ترنحه، ويدرك عبدالهادى أن كل شيء قد انتهى : «لا يستطيع أن يحسم أمره فيقرر من يكون السيد الجديد. وأحيانًا يُخيل إليه أن الشيوعية سوف تسيطر على البلد، وأحيانًا يُخيل إليه أن أمريكا هى التى سوف تسيطر. وظهرت حيرته فى مقالاته، فكان يهاجم اليسار فى أول مقاله ويمدحه فى آخره، ويمدح اليمين فى أول مقاله ويشتمه فى آخره. وفى كل الأحوال لا يستطيع أن يفكر فى مخرج من هذا المأزق». نهاية تعيسة للنظام وواحد من الأعداء الذين اعتمد عليهم فى بناء كيان هش، لا يصمد أمام عاصفة الهزيمة.