ذكرت فى العدد الماضى أن الإنجليز أخفقوا فى تجربتهم، وهى محاولة صرف الأمة عن الوفد واجتذابه نحو نظام صدقى باشا، كما أثبت كيف أن الإنجليز رفضوا مفاوضة صدقى باشا فى المسائل المتعلقة فى القضية المصرية بدعوى أن برلمانه لا يمثل الأمة تمثيلا صحيحا، ثم انتهيت عند تحديد موقف صدقى باشا من الإنجليز ومن بعض الجهات العليا. روزاليوسف • مقاومة الوفد! الوفد فى غير الحكم مقاومته سلبية لا تخلو من ركود، لأنه لا يملك غير ذلك أو بالأحرى لا يقدر على غير ذلك!.. ولذلك أسباب معروفة يرجع بعضها إلى طباع القائمين بأمره، وهى طباع خمدت فيها شعلة النضال الصارم والجهاد المتوقد منذ أن عرفوا كراسى الحكم، وألفوا جاه الحكم، والبعض الآخر فرضته الظروف الداخلية والخارجية المحيطة بالأمة وبقضيتها. ولما كان الوفد هيئة قائمة على ثقة الأمة وعطفها، كان أهم ما يعنى به الوفد فى مقاومته للإنجليز ومعارضته لوزارات الانتقال هو العمل على تنمية هذه الثقة، والاستزادة من عطف الأمة، وإيقاظ ضميرها، وإثارة مكمن الإشفاق فى قلوبها.. وأساليب الوفد فى ذلك كثيرة ومعروفة، فمن عقد الاجتماعات التى تصادرها الحكومة، إلى إلقاء الخطب الحماسية، إلى زيارة المساجد لاستنزال اللعنات على الخارجين والظالمين، إلى المغامرة فى كل ما يثير حول الوفد ضجة وشغبا، إلى الطواف فى الأقاليم لإثارة الحماس والشغب وقطع كل تفكير هادئ يخلد إليه بعض الناس لمراجعة أعمال الوفد ووزن أعمال الحكومة، ثم القضاء على كل بادرة تبدو فى الجو وترمى إلى غاية الانصراف عن الوفد أو مهادنة الحكومة القائمة من غير الوفديين طبعا.. وقد عالج الوفد كل هذه الأساليب، ولم يبق إلا الطواف فى الأقاليم. • القطار الثائر! وقرر الوفديون - ومعهم الأحرار الدستوريون باعتبار أنهم حلفاء فى معارضة النظام القائم - قرروا زيارة طنطا بزعم أنها معقل من معاقل الوفديين، ولأنها مثوى السيد البدوى الذى يؤمن النحاس باشا بكراماته فى خطف النصارى «يعنى الإنجليز» وتعذيب الخارجين «يعنى صدقى باشا وأعضاء وزارته»! واجتمع الزعيمان النحاس ومحمد محمود فى فناء محطة مصر يحوطهما رجالات الحزبين والأذناب، وبعد أخذ ورد بينهم وبين رجال البوليس الذين حاولوا منع الزعيمين ومن معهما من ركوب القطار، استطاع الزعيمان وبعض رجال الحزبين احتلال أولى عربات الدرجة الأولى.. وهنا تقدم «رسل باشا» حكمدار البوليس وطلب إلى الزعيمين العدول عن السفر، فلم يلتفتا إليه وتولى الرد عنهما أنف محمد محمود باشا الذى ارتفع حتى كاد يقبل سقف العربة وذقن النحاس باشا التى تدلت من الشباك ترطن بعبارات غير مفهومة. ولم يسع رسل باشا إلا أن يعمد إلى الجنتلمانية الإنجليزية، فكرر رجاءه فى نبرة مؤثرة وهو يقول: «أنا راجل اشتغلت معكم ويؤلمنى أن أستعمل العنف معكم وعندى أوامر من وزير الداخلية بمنعكم من السفر».. ولكن بلا فائدة، وصمت محمد محمود باشا بعد أن عاد أنفه من السقف إلى الوجه ولكن النحاس باشا صاح «لتفعل القوة بنا ما تشاء»!.. وبدأت القوة تفعل ما تشاء، إلا أنه يظهر أن صدقى باشا كان فى ذلك الصباح رائق البال وبه ميل إلى المداعبة والفكاهة!.. أطلقت القاطرة صفارتها إيذانا بالقيام فعلا الهتاف بحياة الزعيمين وارتفعت ضجات التصفيق، وتحركت القاطرة إلى الأمام. ولكن لتجر وراءها عربة الدرجة الأولى التى تربع على مقاعدها رجال الحزبين. أما بقية القطار فبقى فى المحطة وسط دهشة المودعين، ولم ترتفع أسعار العجب مثلما ارتفعت فى ذلك الصباح الضاحك، وجاءت قاطرة أخرى بعد قليل فانطلقت بالعربات إلى وجهتها المرسومة أى إلى طنطا والإسكندرية! وسارت القاطرة الأولى تجر وراءها عربة الزعيمين متجهة إلى «التحويلة» المؤدية إلى خط حلوان وإذا بها تضرب فى طريق الصحراء لتقف بعد ذلك بالقرب من محطة «مارى جرجس».. وهناك ظهر «رسل باشا» للمرة الثانية وأعاد رجاءه بالعدول عن السفر، وأعاد النحاس باشا ذكر القوة ومشيئة القوة فرجع رسل باشا، وبقى النحاس ومن معه حتى الساعة الثانية بعد الظهر، وإذ ذاك تكلمت مشيئة البطون التى حرك الجوع فيها هواء الصحراء، فترك النحاس باشا القاطرة ومن معه، وركبوا سيارات إلى بيوتهم، حيث أحسنت استقبالهم أطباق الطعام! • معزة غاندى أسائل نفسى ماذا كانت تعمل حكومة صدقى باشا لو أن النحاس باشا رفض أن يترك القطار، وأبى أن يتناول الطعام وأخلد إلى نظام الجوع الاختيارى، متمثلا بالزعيم غاندى؟! ألم يفكر النحاس باشا الملىء الجسم الموفور الصحة والعافية فى أن يتمثل مرة واحدة بالزعيم الهندى الذى لا يحمل على هيكله الصغير من اللحم أكثر مما يحمله زند من زندى النحاس باشا؟!.. ألم يفكر النحاس يوما - هذا وطريقته فى النضال سلبية كطريقة غاندى - أن يرغم صدقى باشا، بل الحكومة الإنجليزية على إجابة رغبة مشروعة من رغباته عن طريق هذا الجوع الاختيارى، ليقدم مثلا عاليا فى صلابة الرأى، وفى التفانى فى سبيل الفكرة والعقيدة، هذا التفانى الذى يزرى بكل شىء حتى بالطعام الذى هو من متطلبات الجسد ومن لوازم الحياة! ما هى التضحية فى سبيل المبدأ والعقيدة إذا وقفت عند حد الاضطراب والتراجع أمام ميعاد وجبة من وجبات الطعام؟! ما كان أحوج المصريين إلى عقيدة غاندى فى قلب مصطفى النحاس، وما كان أحوج غاندى بعقيدته وصلابة رأيه إلى جسم مثل جسم النحاس يقتات من لحمه الموفور أياما وأسابيع دون أن يتعرض للهلاك العاجل؟! • الطربوش الذى فقد زره! واعتزم الوفد أن يجر معه محمد محمود لزيارة بنى سويف.. وركب الزعيمان القطار بعد معركة حامية قامت بين رجال الحزبين ورجال البوليس خسر فيها محمد محمود باشا زر طربوشه، واضطر أن يلبس الطربوش من غير زر، وقد حامت تهمة قطع هذا الزر حول أحد أعضاء حزب الشعب، وغضب من ذلك محمد باشا غضبة لم يلطفها هتاف أو تصفيق. وكان صدقى باشا فى هذا اليوم مصابا بنوبة من نوبات الانبساط «والتفريح»، على ما يظهر، فأذن للقطار بالسير، وبأن لا يحيد عن طريقه المرسوم.. ووصل القطار فى المساء إلى محطة بنى سويف ونزل الوفد ورجال الوفد، وأرادوا ترك المحطة إلى البلدة، ولكنهم وجدوا المحطة مقفلة ومحاصرة بقوة من رجال الجيش والبوليس، ولا يسمح لأحد من الأهالى بالدخول إليها.. والتفت النحاس باشا إلى القطار الذى أقله فوجده يختفى مسرعا بين النخيل وفى ظلمة الليل، فأراد أن يخرج من المحطة ليركب هو ومن معه السيارات إلى القاهرة فوقف أمامهم الضابط وجنوده. وإذ ذاك أدرك الجميع أنه مقضى عليهم بالمبيت فى المحطة حتى يمر القطار القادم من أعماق الصعيد، وهو لن يمر قبل الصباح. وكان أن اعتلى النحاس باشا ومن معه مقاعد الاستراحة بالمحطة بعد أن قدم إليهم الضابط أكواما من «الساندويتش».. وأمضى محمد محمود باشا وقتا طويلا يندب زره المفقود وينعى طربوشه الأزعر تحت ضوء النجوم، ولكن لم تمض مدة طويلة حتى ارتفع شخير النحاس باشا معلنا للجميع أن الرئيس الجليل هو سيد النائمين، وخير من يطرقه النوم الثقيل فى أحرج المواقف وفى أحراها بالسهاد والتفكير! يقولون إن المفكر الحق عدو النوم والطعام. وإن المجاهد الحق، الذى سلاحه الحق، لا السيف والمدفع، عدو النوم والطعام فأين النحاس باشا يا ترى من هذا وذاك؟! • بطش النمر.. ولين الثعابين! عدل الوفد بعد هذا عن الطواف فى الأقاليم، وأولى همه كله سياسته المعروفة وهى سياسة تجريح الوزارة القائمة، وتسفيه نظامها، والانتقاص من قدر كل ظاهرة إصلاحية تبدر منها، والتشهير بأخطائها وهناتها.. ثم هى سياسة انتهاز الفرص والتلويح. وقد نتساءل الآن: كيف أن صدقى باشا تكلف كل هذا اللين، وأصدر عن حذق وكياسة فى الإجراءات التى اتخذها لمنع الوفد من الطواف فى الأقاليم! كيف تأتى هذا كله من غير إراقة دم أو تهشيم رأس، وقد سبق لصدقى باشا أن بطش بطشة نمر مفترس يوم أن احتمى العمال والصناع فى عنابر بولاق يهتفون بسقوط نظامه فأمر بإطلاق النار عليهم بلا رحمة ولا شفقة ، وأودى بحياة أكثر من ثلاثمائة عامل فى دقائق معدودة! أحقا إن صدقى باشا كان لا يقسو فى بطشه إلا مضطرا تحت تأثير الظروف الحرجة التى تبدو له مهددة لنظامه بالبوار أم أن الرجل قد لانت قناته وهدأت ثائرة نفسه الطموح، بعد أن فرض النظام الذى أراده؟! أم أنه عمد إلى الملاينة بعد أن تبين له أن الإنجليز قوم مخادعون وصوليون يحلبون البقرة فى حين أنهم يكلفون غيرهم إمساك قرنيها؟! أعتقد أن فى هذا اللين الذى أبداه فى تحويل الوفديين عن الطواف فى الأقاليم شيئا من كل هذا!• هامش الحلقة هذه هى الحلقة الأخيرة من ذكريات السيدة «فاطمة اليوسف» الصحفية التى كتبتها على مدار عامى 1938 و1939، منذ بدأت مجلة فنية أدبية، ثم تحولها إلى مجلة سياسية وخاضت عبرها عشرات المعارك الصحفية والسياسية فى حكومات «محمد محمود باشا» و«عدلى يكن باشا» ثم «إسماعيل صدقى باشا». تروى السيدة «فاطمة اليوسف» تفاصيل مدهشة عن حرب الحكومة ضد المعارضة ومجلتها والأساليب التى لجأ إليها «صدقى باشا» فى هذه الحرب، وكيف نجح فى خداع زعماء المعارضة الذين قرروا القيام بجولة بواسطة القطار الذى ذهب بهم إلى الصحراء بدلا من الوصول إلى طنطا والإسكندرية! وتنتقد «فاطمة اليوسف» سياسة الوفد الذى اعتمد فى معارضته على التجريح والتشهير بالأخطاء، بل الانتقاص من قدر كل ظاهرة إصلاحية!•