أغلق مئات الصحف والمجلات المعارضة، بل المحايدة، طارد زعماء المعارضة وسلط عليهم ثعالبه الصغيرة بالشتائم والبذاءات، عطل البرلمان، ألغى دستور الأمة واخترع دستورا جديدا سنة 1930 يجعل الأمة خاتما فى يد الملك، بعد أن كان الملك خادما للأمة، بل لعله أول مستبد يعتقل النساء بسبب مطالبتهن بعودة الدستور الملغى. لكن كله كوم وما فعله فى هذه الواقعة كوم تانى، جرب صدقى باشا أساليب تراجيدية وفشلت، فقرر أن يحارب المعارضة بالكوميديا والمسخرة! فى تلك الأيام اتفق حزب الوفد بزعامة مصطفى النحاس باشا وحزب الأحرار الدستوريين بزعامة محمد محمود باشا على نسيان خلافات الماضى، والاتحاد فى مواجهة استبداد وطغيان وديكتاتورية حكومة صدقى باشا وتألفت لجنة اتصال مشتركة بين الحزبين لتنظيم هذه المقاومة. ضمت اللجنة عن الوفد فتح الله باشا بركات ومكرم عبيد باشا وضمت من الأحرار الدستوريين محمد علوبة باشا ود. محمد حسين هيكل باشا الذى يقول ولاحظوا بلاغة ودلالة ما يقول:
«إن دعوة الشعب للمقاومة والتضحية لا يمكن أن تثمر ثمرة ما إذا لم يتقدم الزعماء صفوف الشعب فى هذه المقاومة، ولم يتعرضوا تعرض الشعب للتضحية، أما إن اقتصرت الدعوة على عبارات تنشر فى الصحف، بلغة ما بلغت قوتها وبلغ صدق تعبيرها عما يعانيه الشعب فى حريتها وفى حقوق وطنه، فلن يكون من أثرها إلا أن تثير إعجاب المثقفين ببلاغة أسلوبها وقوة عبارتها، لكنها لم تحرك الشعب إلى عمل إيجابى عنيف منتج».
هذا الكلام الذى ارتآه «هيكل باشا» سنة 1931 يصلح تماما أن يقرأه نخبة مصر من كل الاتجاهات والأطياف السياسية! كيف ننفذ هذا الرأى؟ يتساءل هيكل باشا ويجيب قائلا: «قررت لجنة الاتصال أن يسافر زعماء الحزبين إلى طنطا بالقطار الذى يبرح محطة القاهرة فى الساعة السابعة والنصف من صباح يوم من شهر أبريل سنة ,1931 وقبيل الموعد ذهبنا جميعا إلى محطة العاصمة فإذا أبوابها موصدة وإذا بالبوليس يمنعنا بالقوة من دخولها».
تفاصيل ما جرى بالضبط يعجز أى كاتب فكاهى أو كوميدى أو ساخر أن يكتبها أو يتخيلها، لكن هذا ما حدث بالضبط ويصفه الأستاذ الكبير مصطفى أمين وكان شاهد عيان عليه هو وشقيقه التوأم على فيقول: «أمرت الحكومة بمنع الزيارة، وأصر زعماء المعارضة على تنفيذ برنامجهم رغم هذا المنع، وتمكن النحاس ومحمد محمود من اقتحام أبواب محطة مصر مرة أخرى وركوب القطار!
وجاء حكمدار القاهرة «رسل باشا» يقول للنحاس ومحمد محمود: أنا كنت مرءوسا لكما أيام كنتما وزيرين للداخلية، وأوامر وزير الداخلية الحالى - يقصد صدقى باشا الذى أيضا يرأس الحكومة - أن أمنعكما بالقوة من السفر وأنا مضطر أن أنفذ أوامره!
قال محمد محمود والنحاس معا: لن نبرح القطار ويمكنك أن تنتزعنا من مقاعدنا بالقوة!
ونزل حكمدار القاهرة من القطار واتصل تليفونيا بصدقى باشا وقال له إن رجال الأمن والبوليس والسكة الحديد حاولوا أن يقنعوا النحاس ومحمد محمود بمغادرة القطار تنفيذا لتعليمات رئيس الوزراء، ولكن زعيمى المعارضة رفضا وأن زعماء المعارضة احتلوا أماكنهم فى القطار بالقوة، وقالوا إنهم لن يجلوا إلا بالقوة، فليصنع إسماعيل صدقى باشا ما يشاء، وإن حكمدار العاصمة يجد حرجا أن يعامل الزعيمين بعنف!
ورد رئيس الوزراء بأنه سيتخذ اللازم، وابتسم صدقى واتصل بالمسئولين عن الحركة فى محطة السكة الحديد وأمرهم بتسيير القطار بالنحاس ومحمد محمود وزعماء المعارضة على أن يتجه القطار إلى صحراء حلوان من خلف العباسية، ولا يتجه إلى طنطا، وأن يفصلوا العربة التى بها زعماء المعارضة عن باقى القطار ويمضوا الوقت فى مناورات ذهابا وإيابا فى الصحراء بلا توقف! وذلك على الخط الحديدى الذى كانت تستعمله القوات البريطانية فى نقل جنودهم ومعداتهم إلى الثكنات التى كانت لهم فى المعادى وحلوان.
وأوصى صدقى كبار موظفى السكة الحديد أن يبقى هذا الأمر سرا عن الزعماء الذين احتلوا القطار!
وتحرك القطار، وصفق زعماء المعارضة ابتهاجا لأنهم اعتقدوا أنهم تغلبوا على أمر إسماعيل صدقى وقوات الجيش والبوليس!
وكان مصطفى وعلى أمين معهم فى القطار فاشتركا فى التصفيق والهتاف فرحا بانتصار الأمة على الحكومة، وما هى إلا دقائق حتى وجدوا أنفسهم معزولين فى الصحراء، ونادوا مفتش القطار، فقال لهم إن رجال القطار ينفذون أوامر دولة رئيس الوزراء، وأن الأوامر التى عندنا هى أن يسير القطار فى الصحراء ذهابا وإيابا إلى أن تصدر إليه إشارة بالعودة إلى محطة القاهرة.
واحتج زعماء المعارضة على هذا الإجراء العجيب، وهددوا وتوعدوا ولكن رجال القطار قالوا إنهم لا يملكون حرية التصرف وأنهم مقيدون بالأوامر الصارمة التى أصدرها دولة رئيس الوزراء!!
ولبث الزعماء محبوسين فى القطار المتحرك واشتد بهم الجوع، وفى العصر رأوا سيارة تقف وينزل منها خدم يحملون ساندويتشات.
وقال النحاس مبتهجا : لابد أن لجنة الوفد فى حلوان عرفت بجوعنا فأرسلت لنا هذا الطعام !
وقال محمد محمود باشا : أعتقد أن الشيخ «المراغى» الذى يقيم فى حلوان هو الذى أرسل هذا الطعام !
ودخل الخدم يحملون صينية فخمة عليها عدد كبير من الساندويتشات.
وسأل النحاس الخدم عن مصدر هذا الطعام، فقال أحد الموظفين: إن دولة صدقى باشا هو الذى أمر به لحضراتكم!
وصاح النحاس وهو يرفع يده علامة الرفض: داهية تسمه !! هوّه وأكله ! خذوه فلن نذوق منه لقمة واحدة !
ورفض رجال المعارضة جميعا أن يذوقوا الطعام مع أن الجوع قد زحف إلى بطونهم ! ثم أقبلت سيارة خاصة تنهب الأرض نهبا ووقفت أمام القطار، فاضطر سائق القطار إلى التوقف، ونزل سائق السيارة يحمل طعاما !
وأطل «النحاس» من نافذة القطار وقال: الأكل ده منين ؟!
قال السائق : من عند أم المصريين يا دولة الباشا !
فقال النحاس : أهو ده الأكل إللى نأكل منه !
وانهال زعماء المعارضة على طعام أم المصريين، ورفضوا أن يلمسوا طعام رئيس الوزراء.
عند هذا الحد تتوقف رواية الأستاذ «مصطفى أمين» وأعود إلى شهادة «محمد حسين هيكل» باشا وكان فى قلب القطار مع زعماء المعارضة فيقول : «وفيما نحن فى القطار تجاوبت أنباء ما حدث أرجاء القاهرة وصارت حديث أهلها جميعا، فجاء إلينا كثيرون فى سياراتهم سيدات ورجال يحملون معهم الطعام والماء ويسألوننا إن كنا نريد العودة إلى القاهرة فى سياراتهم، فلما عرفوا تصميمنا جميعا على البقاء حيث نحن، لنرى ما سيصنع «صدقى» باشا وزملاؤه، عادوا هم إلى القاهرة يحملون إلى أهلنا وإلى الناس جميعا أنباءنا، ويذكرون لهم تصميمنا وعزمنا، وبقينا نحن بالقطار حتى ولى النهار وأقبل الليل فتحرك بنا على مهل، يسير حينا ويقف حينا، حتى إذا كنا نحو الساعة التاسعة عاد بنا عن طريق حلوان إلى محطة المعسكر بين المعادى وطرة، وهناك أمرنا بالنزول طوعا أو كرها، فتركنا القطار وركبنا السيارات التى أقلتنا إلى دورنا، مطمئنين إلى أننا قمنا بعمل شغل بال الحكومة وبال الشعب، ونبه الجماهير التى عرفت تفاصيله من صحف المساء وصحف الصباح إلى أن الأمر جد خطير، وإلى أن الشعب المصرى معرض لأحداث لولا جسامتها، لما عرض الزعماء أنفسهم هذا التعريض، ولما وقفت الحكومة منهم هذا الموقف العنيف».
هذه الواقعة أو الحادثة بالغة الغرابة، حرص «النحاس باشا» على تسجيلها فى مذكراته ثم علق عليها قائلا : «كانت مهزلة من مهازل «صدقى» أثارت غضب الأمة كلها واستنكرتها وتحدثت عنها الصحافة المحلية والأجنبية ونقلت وكالات الأنباء هذا الخبر ونشرته الصحف البريطانية والفرنسية حتى إذا غربت الشمس وأقبل الظلام، أمر سائق القطار بأن يعود بنا إلى محطة مصر، وعدنا إلى بيوتنا مرهقين ساخرين من عبث الحكومة وأساليبها الصبيانية وجرائمها التى لايرتكبها إلا اللصوص وقطاع الطرق !!».